لماذا هاتان الصفتان؟
لماذا هاتان الصفتان؟
السابق
للّه سبحانه صفات كثيرة. وقد ذُكر في دعاء الجوشن الكبير1 ألف اسـم وصفة من أسماء وصفات اللّه سبحانه وتعالى، فلماذا تمّ في هذا الشعار القرآني "البسملة" اختيار هاتين الصفتين بالذات؟ ثمَّ إن "الرحمة" من "صفات الفعل"2، ولا شك أن "صفات الذات" أشرف من صفات الفعل، فلماذا تم انتخاب صفة من صفات الفعل دون صفة من صفات الذات كالعلم مثلاً؟ ويمكن الإجابة على هذا السؤال:
أولاً: إن الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان، بل بوجود الكون كله، فلولا الرحمة لم يكن الإنسان موجوداً ولا كانت كمالاته الوجودية متحققة، فلم يكن هناك علم ولا قدرة ولا نحوهما. وارتهان الإنسان بكل وجوده بالرحمة الإلهية لا يقتصر على "الحدوث" فقط، بل يشمل "الحدوث" و"البقاء" معاً، فكل فكرة تختلج في ذهنك وكل نفس تتنفسه وكل نبضة قلب و.. تتوقف على إمداد مباشر من اللّه سبحانه، ولو انقطع الفيض الإلهي لحظة لتوقف كل شيء، بل انتهى كل شيء.
وبعبارة أخرى، ليست العلاقة بين اللّه سبحانه وبين مخلوقاته كالعلاقة بين البِنَاء والبَنّاء، حيث إن البيت الذي يشيّده البنّاء يتوقف عليه في الإيجاد فقط، أما في البقاء فلا، وقد يموت البنّاء ويتحول في رمسه إلى رفات بينما يظل البيت الذي شيّده قائماً على أركانه، فالبنّاء "علة مُحدِثة" فقط وليس "علة مُبقِية" أبداً (هذا مع الغض عن تطرق احتمال كونه "مُعدّاً" فحسب). بل العلاقة بينه سبحانه وبين مخلوقاته كالعلاقة بـين المولد الكهربائي وبين الضوء، حيث أنه بمجرد أن تنقطع علاقة المصباح بالمولد ينتهي الضوء، أو كالعلاقة بين الإنسان و"صوره الذهنية" حيث إنك عندما تصرف النظر عن الصورة التي خلقتها في ذهنك فإنها تنعدم فوراً، ولا يبقى منها عين ولا أثر، فبقاؤها في ذهنك يتوقف على توجهك بشكل مستمر نحوها3.
ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه الحقيقة. يقول اللّه سبحانه: ((اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))4. ويقول تعالى: ((أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ))5. ويقول جل وعلا: ((مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا))6. وقد بُرهن على هذه الحقيقة في "علم الكلام" والفلسفة الإسلامية.
ثانياً: لولا الرحمة الإلهية لم تكن السماء تمن على الأمة ببعث الرسل، ولولاها لم يكن هذا القرآن، ((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))7. فكما أن الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بكتاب اللّه التكويني، أي الكون بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وغيرها، كذلك هي ذات صلة مباشرة بكتاب اللّه التدويني، أي القرآن الكريم. فلم يكن إنزال القرآن الكريم وتشريع القوانين منبعثاً عن حاجة اللّه- سبحانه وتعالى- فهو الغني المطلق، لا تنفعه عبادة من عبده، ولا تضره معصية من عصاه، وإنما هي الرحمة الإلهية وراء ذلك كله. فكان من الحريّ أن تبدأ كل سورة في هذا الكتاب بصفة "الرحمة".
ثالثاً: إتّسم الحكام - غالباً - على مرِّ التاريخ بالقسوة والظلم والجبروت والطغيان، فـ((كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى))8، ليس فقط في دائرة "المجتمع الكبير"، أي الدولة، بل حتى في إطار "المجتمع الصغير"، أي العائلة ونحوها، فكل شخص ملك أزمة الأمور في إطار ولو صغير يتعدى ويظلم ولا يراعي موازين العدل والإنصاف - غالباً، والتركيز على صفة "الرحمة" في هذا الشعار القرآني إلفات إلى أن اللّه سبحانه - رغم كون كل شيء بيده - ليس كسائر الملوك والحكام، بل هو منبع اللطف والرحمة، ومعدن الكرم والجود.
وفي ذلك أيضاً ردّ على تلك التصورات البشرية الخاطئة التي تناولت طبيعة العلاقة بين الربّ والمربوبين. فاللّه سبحانه في منظار الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها، كما تصورها أساطير الإغريق، ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في "العهد القديم"، كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين حيث يقول: "وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاماً واحداً، وكان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك وقال بعضهم لبعض: 'تعالوا نصنع لبناً وننضجه طَبْخاً،' فكان لهم اللبن بدل الحجارة، والخمر كان لهم بدل الطين، وقالوا تعالوا نبنِ لنا مدينة وبرجاً رأسه إلى السماء ونقم لنا اسماً كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها.
"فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونها، وقال الرب: هوذا هم شعب واحد لجميعهم لغة واحدة، وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه، هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض! فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها وكفوا عن بناء المدينة، ولذلك سميت 'بابل'، لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها، ومن هناك شتتهم الرب على كل وجهها"9.
التالي
الفهرست
السابق
(1) راجع مفاتيح الجنان - للمحدث القمي (ره)
(2) صفات الفعل هي تلك الصفات التي تنزع من مقام الفعل، ولذ يصح إثباتها للذت تارة، وسلبها عن الذات تارة أخرى، كالخالقية والرازقية ونحوهما، حيث نستطيع أن نقول مثلاً: كان الله ولم يكن معه شيء، ثم "خلق" الأشياء. أما صفات الذات فهي تنتزع من مقام الذات، ولا يصح سلبها من الذات مطلقاً كالعلم والقدرة ونحوهما
(3) سقنا هذه المثالين لمجرد تقريب الذهن
(4) سورة البقرة - 254
(5) سورة الرعد - 33
(6) هود - 56
(7) سورة آل عمران - 164
(8) سورة العلق - 7
(9) في ظلال القرآن - ص 24 (ط 11)
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^