الدرر المنثورة فى صفات الطائفة المنصورة ــــ الفصل الثالث
الفصل الثالث
صفات وأعمال الطائفة المنصورة
لشرف هذه الطائفة ولما ورد فيها من أحاديث تجد أكثر الجماعات الدعوية وغير الدعوية تحاول أن تجعل نفسها من أهل هذه الطائفة بل هناك من يدعى أن جماعته فقط هى الطائفة المنصورة
وأقول ما أسهل الدعوى فهذا يحسنه كل أحد ، ولكن ما من دعوى إلا وتحتاج إلى بينة ودليل ، فما هى الأدلة والبراهين التى تدل على أن هذه الجماعة داخلة فى الطائفة المنصورة
والله تعالى يقول
" قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 111
ومن المعلوم أن الدليل والبرهان لا يكون صحيحا إلا إذا كان مصدره الوحى من الكتاب والسنة والإجماع الصحيح
والحمد لله فنحن فى هذه المسألة أو غيرها نرجع فيها إلى الدلائل الشرعية ، وكما سبق وذكرنا فى الفصل الأول الأحاديث الواردة فى ذلك ، فما علينا إلا أن نرجع إلى هذه الأحاديث ونقف على صفات وأعمال هذه الطائفة عند ذلك يتبين الحق ويعرف كل منا موقفه وحقيقته والله المستعان
الصفة الأولى من صفات الطائفة المنصورة
أنهم على الحق
الدلالة على ذلك من الأحاديث :
قوله – صلى الله عليه وسلم – " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ"
وقوله – صلى الله عليه وسلم – " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ"
وقوله – صلى الله عليه وسلم – " لَا يَزَالُ لِهَذَا الْأَمْرِ أَوْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِصَابَةٌ عَلَى الْحَقِّ"
فهذه الطائفة على الحق المطلق هذا من جانب ، ومن جانب آخر قتالها لغيرها من أمم الكفر حق لا ريب فيه
مسألة :
ما المراد أنهم على الحق وكيف نعرف ذلك ؟
المراد بأنهم على الحق يعنى : أنهم على الصراط المستقيم الذى قال الله تعالى فيه
" وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام : 153
أى أنهم مستمسكون بنصوص الوحى من الكتاب والسنة مع فهمهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح الذين زكاهم النبى – صلى الله عليه وسلم
أما كيف نعرف ذلك ؟ فمن خلال إتباعهم لمنهج الصحابة الذين كانوا على الحق المبين ، مع تركهم للابتداع فى الدين ، فهم إذن :متبعون وليسوا مبتدعين
أصحاب الحق يعرفون بالإتباع وترك الابتداع
وهذه الصفة من أهم صفات الطائفة المنصورة فهم يلتزمون بالحق وإتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، بغض النظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم
لذلك تجدهم معتصمين بالحق فى الوقت الذى تفرقت فيه الأمة إلى فرق وأحزاب مصداقا لما أخبر به المعصوم – صلى الله عليه وسلم –
روى الترمذى عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي "
قال أبو عيسى هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه
قال الشيخ الألباني : حسن
وروى ابن ماجه عن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة . فواحدة في الجنة . وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتيين وسبعين فرقة . فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة . والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة . واحدة في الجنة وسبعون في النار )
قيل يا رسول الله من هم ؟ قال ( الجماعة )
في الزوائد إسناده حديث عوف بن مالك فيه مقال . وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم صدوق . وعباد ابن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجة . وليس له عنده سوى هذا الحدي . قال ابن عدي روى أحاديث تفرد بها . وذكر ابن حبان في الثقات . وباقي رجال الإسناد ثقات
قال الشيخ الألباني : صحيح
( الجماعة ) أي الموافقون لجماعة الصحابة الآخذون بعقائدهم المتمسكون برأيهم ]
روى ابن حبان فى صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة )
قال شعيب الأرنؤوط : حديث حسن
والأحاديث فى ذلك كثيرة متعددة فى بيان كثرة الهالكين المشاقين لله ولرسوله المخالفين للحق مع بيان قلة أهل الحق المتبعين لمنهج الصحابة – رضى الله عنهم
ومما يدل على وجوب اتباع الصحابة وأنهم كانوا على الحق المبين
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « مَن كانَ مُسْتَنًّا ، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ ، أولئك أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا أفضلَ هذه الأمة : أبرَّها قلوبًا ، وأعمقَها علمًا ، وأقلَّها تكلُّفًا ، اختارهم الله لصحبة نبيِّه ، ولإقامة دِينه ، فاعرِفوا لهم فضلَهم ، واتبعُوهم على أثرهم ، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم ، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم ». جامع لأصول من أحاديث الرسول ج1ص80 اهـ تفسير البغوي:2/ 453
والذى يدل على أن الصحابة كانوا على الهدى التام ومن خالفهم كان على الضلال
قوله تعالى " فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة : 137
قال سيد قطب – رحمه الله – " ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة ، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة . حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى . من اتبعها فقد اهتدى . ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت؛ ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار :
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق } . .
وهذه الكلمة من الله ، وهذه الشهادة منه سبحانه ، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه . فهو وحده المهتدي . ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى . ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن ، ولا عليه من كيده ومكره . ولا عليه من جداله ومعارضته . فالله سيتولاهم عنه ، وهو كافيه وحسبه :
{ فسيكفيكهم الله . وهو السميع العليم } .
إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه ، فيعرفون بها في الأرض " اهـ الظلال ج1ص92
إذن الطائفة المنصورة إنما تعرف عن طريق التزامها بالحق وإن قل أفرادها
قال ابن القيم – رحمه الله – كلاما نفيسا جدا فى هذه المسألة فقال "وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَالْحُجَّةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ هُوَ الْعَالِمُ صَاحِبُ الْحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ : صَحِبْت مُعَاذًا بِالْيَمَنِ ، فَمَا فَارَقْته حَتَّى وَارَيْته فِي التُّرَابِ بِالشَّامِ ، ثُمَّ صَحِبْت مِنْ بَعْدِهِ أَفْقَهَ النَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَمِعْته يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، ثُمَّ سَمِعْته يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ وَهُوَ يَقُولُ : سَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ وُلَاةٌ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا ؛ فَهِيَ الْفَرِيضَةُ ، وَصَلُّوا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ ، قَالَ : قُلْت يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَا أَدْرِي مَا تُحَدِّثُونَ ، قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْت : تَأْمُرُنِي بِالْجَمَاعَةِ وَتَحُضُّنِي عَلَيْهَا ثُمَّ تَقُولُ لِي : صَلِّ الصَّلَاةَ وَحْدَك وَهِيَ الْفَرِيضَةُ ، وَصَلِّ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ نَافِلَةٌ قَالَ : يَا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ قَدْ كُنْت أَظُنُّك مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، أَتَدْرِي مَا الْجَمَاعَةُ ؟ قُلْت : لَا ، قَالَ : إنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هُمْ الَّذِينَ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ ، الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت وَحْدَك ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِي وَقَالَ : وَيْحَك ، إنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ : إذَا فَسَدَتْ الْجَمَاعَةُ فَعَلَيْك بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَبْلَ أَنْ تَفْسُدَ ، وَإِنْ كُنْت وَحْدَك ، فَإِنَّك أَنْتَ الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ ، ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ ، فَقَالَ : أَتَدْرِي مَا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ ؟ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ وَأَصْحَابُهُ .
فَمُسِخَ الْمُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ جُعِلُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَالْحُجَّةَ وَالْجَمَاعَةُ هُمْ الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهُمْ عِيَارًا عَلَى السُّنَّةِ ، وَجَعَلُوا السُّنَّةَ بِدْعَةً ، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا لِقِلَّةِ أَهْلِهِ وَتَفَرُّدِهِمْ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ ، وَقَالُوا : مَنْ شَذَّ شَذَّ اللَّهُ بِهِ فِي النَّارِ ، وَمَا عَرَفَ الْمُخْتَلِفُونَ أَنَّ الشَّاذَّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَهُمْ الشَّاذُّونَ .
وَقَدْ شَذَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ زَمَنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَّا نَفَرًا يَسِيرًا ؛ فَكَانُوا هُمْ الْجَمَاعَةُ ، وَكَانَتْ الْقُضَاةُ حِينَئِذٍ وَالْمُفْتُونَ وَالْخَلِيفَةُ وَأَتْبَاعُهُ كُلُّهُمْ هُمْ الشَّاذُّونَ ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَحْدَهُ هُوَ الْجَمَاعَةُ ، وَلَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْ هَذَا عُقُولُ النَّاسِ قَالُوا لِلْخَلِيفَةِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكُونُ أَنْتَ وَقُضَاتُك وَوُلَاتُك وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُفْتُونَ كُلُّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَحْمَدُ وَحْدَهُ هُوَ عَلَى الْحَقِّ ؟ فَلَمْ يَتَّسِعْ عِلْمُهُ لِذَلِكَ ؛ فَأَخَذَهُ بِالسِّيَاطِ وَالْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْحَبْسِ الطَّوِيلِ ؛ فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ ، وَهِيَ السَّبِيلُ الْمَهْيَعُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ حَتَّى يَلْقَوْا رَبَّهُمْ ، مَضَى عَلَيْهَا سَلَفُهُمْ ، وَيَنْتَظِرُهَا خَلَفُهُمْ : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ "اهـ إعلام الموقعين عن رب العالمين ج4ص242-244
ومن المعلوم أن أتباع الأنبياء والرسل قلة ولا شك أنهم هم أصحاب الحق
عن ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ هَذِهِ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ثُمَّ قِيلَ انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ثُمَّ نَهَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا قَطُّ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَنْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ الْآخَرُ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) رواه البخارى ومسلم وأحمد واللفظ له قال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط البخاري , رجاله ثقات رجال الشيخين غير سريج بن النعمان فمن رجال البخاري
روى ابن حبان فى صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما صدق نبي ما صدقت إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد )
قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الصحيح
هذه الأدلة وغيرها فيها الدلالة الواضحة على ما يسمى بحكم الأغلبية عن طريق الديمقراطية ، لأن هذا مقياس باطل لأن الديمقراطية باطلة ومن ينادون بها على باطل
فالميزان فى الإسلام يكون قياسا على ما كان عليه الصحابة – رضى الله عنهم –
دل على ذلك حديث العرباض ابن سارية – رضى الله عنه –
روى الترمذى وأبو داود وأحمد وغيرهم عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صَلاَةَ الْفَجْرِ ثُمَّ وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا . فَقَالَ " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ " . وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ مَرَّةً " وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ )
قال الشيخ الألباني : صحيح كما فى تحقيقه لسنن ابن ماجه
وقال حسين سليم أسد فى تحقيقه لسنن الدارمى: إسناده صحيح ،وقال شعيب الأرنؤوط فى تحقيق المسند : حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن
المستفاد من ذلك أن الطائفة المنصورة التى تكون على الحق لا بد أن تكون مهتدية بهدى الصحابة – رضوان الله عليهم ، فى عقيدتهم ومنهجهم وأصولهم ، وليس كما يقول البعض : مذهب السلف أسلم، أما مذهب الخلف فهو أحكم
ولا شك أن هذا كلام باطل فمذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم
والذين قالوا هذه المقولة ومن يأخذ بها أو يرددها وقع فى عدة مخالفات :
أولى هذه المخالفات : رد النصوص الشرعية الصحيحة الثابتة فى فضل السلف وعلى رأسهم أصحاب القرون المفضلة
المخالفة الثانية :أن الله تعالى شهد للصحابة بالخيرية والرضوان ، وشهد النبى – صلى الله عليه وسلم – لمجموعهم بالجنة ، وهذا بلا شك تقجيم لهم ولمنهجهم على من عداهم
المخالفة الثالثة :أن من قدم الخلف على السلف فقد حط من قدرهم وانتقصهم ، لأن النصوص الشرعية جاءت بتفضيلهم وبيان منزلتهم
المخالفة الرابعة : أن الشرع حث على الاقتداء بالسلف كما سبق فى بعض النصوص وهذا لصحة منهجهم ورضا الله تعالى عنهم
المخالفة الخامسة : أن قائل هذه المقالة والداعين إليها قالوا بلسان حالهم أن الصحابة الذين شاهدوا الوحى وعاصروا نزوله أقل فى العلم والرتبة ممن لم يعاصروا ذلك
المخالفة السادسة : أن حب الصحابة إيمان وبغضهم من النفاق ،فهل جاء مثل ذلك فى المتأخرين؟
روى البخارى ومسلم والنسائى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: « آيةُ الإيمان : حبُّ الأنصار ، وآيةُ النفاق بغض الأنصار ».
وفي رواية : « آية المنافق بغض الأنصار ، وآية المؤمن حب الأنصار » أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
فائدة
أهم خصائص الطائفة المنصورة
الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة. وأهل السنة لهم خصائص وسمات تميزهم عن غيرهم من أهل البدع والتفرق
1- مصدر التلقي عندهم هو الكتاب والسنة فتجدهم للدليل معظمون وللدليل مقدمون لأنهم فقهوا معنى قوله تعالى " وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر : 7
وهم الذين فقهوا أيضا قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات : 1
وبالتالى فإن أصحاب الطائفة المنصورة يهتمون بالكتاب والسنة علما وعملا ودعوة
2- الطائفة المنصورة تدخل فى الدين كله فلا تأخذ بعضه وتهمل بعضه أو تترك بعضه
لأنهم فقهوا قول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة : 208
وكذلك لعلمهم أن الذين يأخذون بعض الدين ويتركون البعض الآخر إما أن يكونوا كافرين أو مبتدعين وكلاهما شر وبلاء ، ففقهوا قوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً [النساء 150: 151
3- أصحاب الطائفة المنصورة يتميزون بالإتباع، وترك الابتداع، والاجتماع ونبذ الفرقة، والاختلاف في الدين
لأن هذا مبنى على أصولهم فى منهج التلقى ، أنهم يتلقون من نصوص الوحى من الكتاب والسنة ، لأنهم فقهوا قول الله تعالى " اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف : 3
وإذا كانوا متبعين فسوف يسلمون غالبا من الوقوع فى الخلاف أو التناقض لقوله تعالى " أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً [النساء : 82
4- أصحاب الطائفة المنصورة :الأصل عندهم الاقتداء، والاهتداء أولا بنبيهم – صلى الله عليه وسلم – لأنهم فقهوا قول الله تعالى " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب : 21
وكذلك يهتدون بهدى أصحاب القرون المفضلة الذين زكاهم النبى – صلى الله عليه وسلم –
روى مسلم وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ ثُمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)
وإذا وقع نزاع أو خلاف بين الأمة فى شئ فالرجوع يكون عند ذلك إلى السنة النبوية وما كان عليه الخلفاء الراشدون كما ثبت فى الحديث الصحيح
روى الترمذى وأبو داود وابن ماجه وأحمد فى المسند عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ قُلْنَا أَوْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" قال الشيخ الألباني : صحيح ،وقال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن
وكذلك أصحاب الطائفة المنصورة :يهتدون بهدى الأئمة من علماء المسلمين دون تعصب أو تقليد مذموم " لأنهم فقهوا قول الله تعالى " فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل : 43]
وفقهوا الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود وابن ماجه "وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"
5- وأصحاب الطائفة المنصورة هم أهل الوسط والتوسط: في الاعتقاد، وسط بين فرق الغلو وفرق التفريط، وفي الأعمال والسلوك وسط بين المفرِطين، والمفرَّطين
لأنهم فقهوا قول الله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة : 143
6- أصحاب الطائفة المنصورة :يحرصون على جمع كلمة المسلمين ولكن جمعهم إنما يكون على كلمة التوحيد
لأنهم فقهوا قول الله تعالى " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 92
فاجتمعوا على عبادة الله وحده ، وهذا هو الأصل الذى يجمع الطائفة المنصورة
ومن هنا لا يتميزون على الأمة في أصول الدين باسم سوى السنة والجماعة، ولا يوالون، ولا يعادون، على رابطة سوى الإسلام والسنة .
7- الطائفة المنصورة : تتميز بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وإحياء السنة، والعمل لتجديد الدين، بإحياء السنن، ونفي البدع، والمحدثات، وإقامة شرع الله وحكمه في كل صغيرة وكبيرة
لأنهم فقهوا قول الله تعالى " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران : 104
وقوله " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران : 110
وفقهوا قول الله تعالى " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت : 33
وفقهوا قول الله تعالى " قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف : 108
8- الطائفة المنصورة : يتصفون بالإنصاف والعدل: فهم يراعون حق الله تعالى لا حق النفس أو الطائفة، ولهذا لا يغالون في مُوالِ، ولا يجورون على معاد، ولا يغمطون ذا فضل فضله أيا كان .
لأنهم فقهوا قول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة : 8
9- الطائفة المنصورة :متوافقة في الأفهام، ومتشابة في المواقف رغم تباعد الأقطار والأعصار، وهذا من ثمرات وحدة المصدر والتلقي ، فتجدهم على عقيدة واحدة وعلى منهج واحد
10- الطائفة المنصورة :هم أهل الإحسان والرحمة وحسن الخلق مع الناس كافة .
لأن هذه الطائفة تحاول بقدر الاستطاعة أن تصل إلى أعلى مراتب الدين ، أى إلى مرتبة الإحسان
الصفة الثانية من صفات الطائفة المنصورة
الجهاد فى سبيل الله
هذه الصفة تكاد تكون من ألصق الصفات للطائفة المنصورة ،فأظهر ما يميزهم عن غيرهم قيامهم بالجهاد فى سبيل الله مع الاستمرارية لهذا الجهاد ،وإن لم يكونوا فى جهاد فهم فى استعداد وإعداد له ، وهذا ما ثبت فى الأحاديث
عن معاوية بن قرة : عن أبيه - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : «إذا فَسَدَ أهْلُ الشام فلا خير لكم ، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرهم مَنْ خَذَلَهُم حتى تقوم الساعة ». رواه الترمذى وابن ماجه وقال الشيخ الألباني : صحيح
عَنْ جَابِرِ ابْنِ سَمُرَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ."رواه مسلم وغيره
عن سلمة بن نفيل الكندي - رضي الله عنه - :قال: كنتُ جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رَجُلٌ : يا رسولَ اللّه ، أَذال الناسُ الخْيلَ ، ووضَعوا السلاح،قالوا : لا جهادَ ، قد وضَعَتِ الحربُ أوْزارَها ، فأَقْبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بوجهه،وقال : « كذَبوا ، الآنَ جاءَ القتالُ ، ولا تزالُ من أُمَّتي أُمَّةٌ يقاتلون على الحق ، ويُزيغُ الله لهم قلوب أقوام ويرزُقُهم منهم ، حتى تقوم الساَّعةُ ، وحتى يأْتِىَ وعدُ اللهِ، الخْيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة ، وهو يُوحى إليَ : إني مقبوضٌ غيرُ مُلَبَّث، وأَنتم تتَّبِعوني ، أَلاَ، فلا يضربْ بعضُكم رِقَابَ بعضٍ ، وعُقْرُ دارِ المؤمنين الشامُ». أخرجه النسائي. قال الشيخ الألباني : صحيح
عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال - وهو يخطب - سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : « لا تزال من أمتي أمَّة قائمة بأمر الله لا يضرهم مَن خَذَلهم ولا مَن خالَفَهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ».
قال ابن يُخامِر : سمعت معاذا يقول : هم أهل الشام - أو بالشام - فقال معاوية: هذا مالك بن يخامر يزعم أنه سمع معاذا يقول : وهم بالشام.
وفي رواية قال : قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : « مَن يُرِدِ الله به خَيْرا يُفَقِّهْهُ في الدِّين ، ولا تزالُ عِصَابة من المسلمين يقاتلون على الحق : ظاهرين على من ناوَأهُمْ إلى يوم القيامة » أخرجه البخاري ومسلم.
والأحاديث فى ذلك كثيرة والدلالة فيها واضحة على أن من أخص خصائص الطائفة المنصورة أنهم يقومون بواجب الجهاد فى سبيل الله وإن تركه أكثر الناس أو تخاذلوا عنه ،أو تأولوا فى تركه ،مع دلالة الأحاديث على دوام واستمرار هذه الطائفة فى رفع راية الجهاد فى كل مكان ،فليس لهم بلد يقيمون فيها ويتخذونها وطنا لهم بل ديارهم وأوطانهم هى التى يقام فيها الجهاد لذلك تجدهم ينتقلون من بلد إلى آخر سعيا لإقامة الفريضة الغائبة عن الناس الحاضرة فى الشرع الحنيف
ولأهمية هذه الصفة من صفات الطائفة المنصورة أريد أن أتناولها فى عدة مسائل وفوائد :
المسألة الأولى :هل ثبت فى القرآن الكريم أن الجهاد فى سبيل الله من صفات الطائفة المنصورة ؟
والجواب : أن هذا ثابت فى مواضع فى القرآن الكريم ، أن الجهاد فى سبيل الله من صفات حزب الله
قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة 54: 56
دلت الآية على أن من صفات حزب الله وهم الطائفة المنصورة :الجهاد فى سبيل الله " يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ"
المستفاد من هذه الآية :
الفائدة الأولى : دلالة الآية على صحة إمامة الخلفاء الأربعة ،وفى هذا رد على الشيعة الأشرار- قاتلهم الله
قال الإمام الجصاص – رحمه الله –" وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة"اهـ أحكام القرآن ج4ص101
وذكر الطبرى فى تفسيره عن الضحاك في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم"، قال: هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام."اهـ جامع البيان ج10ص412
تعليق :
كل من فعل كفعل الصحابة من قتال المرتدين فهو بدون شك من الطائفة المنصورة
وقد أحسن الشوكانى – رحمه الله - فى قوله تعليقا على هذه الآية
" وهذا شروع في بيان أحكام المرتدّين ، بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر ، وذلك نوع من أنواع الردّة . والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين ، الذين قاتل بهم أهل الردّة ، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدّين في جميع الزمن "اهـ فتح القدير ج2ص323
الفائدة الثانية " أن الله تعالى يستبدل الطالحين بالصالحين
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله –
"يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38]
وقال تعالى: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [النساء:133]
وقال تعالى: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم:19 ، 20] أي: بممتنع ولا صعب.
وقال تعالى هاهنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } أي: يرجع عن الحق إلى الباطل." تفسير ابن كثير ج3ص135
الفائدة الثالثة : دلالة الآية على إعجاز القرآن وأيضا معجزة للنبى – صلى الله عليه وسلم
قال الإمام القرطبى – رحمه الله –
" وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحق: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى ، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي،
فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم." اهـ تفسير القرطبى ج6ص219
الفائدة الرابعة "من صفات حزب الله الذين هم الطائفة المنصورة أنهم يحبون الله تعالى ،
ولأجل هذه المحبة يحملون لواء هذا الدين دفاعا عنه ونصرة له " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"فمن أحب الله تعالى أحب دينه وشرعه لأن من أحب الله أحب ما يحبه الله ويرضاه
وقد أحسن الإمام ابن القيم حين قال:
[ لمَّا كثر المدعون للمحبة طولبوا بالإقامة البينة على صحَّة الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حرقة الشجي ، فتنوع المدَّعون في الشهود ، فقيل : لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة [ قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله ] آل عمران[31]
فتأخر الخلق كلَّهم ، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البيِّنة بتزكية [ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم]المائدة[54] اهـ مدارج السالكين ج3ص9
الفائدة الخامسة : من صفات الطائفة المنصورة تحقيقهم للولاء والبراء
" أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ"
قال ابن كثير – رحمه الله –
"وقوله تعالى: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "الضحوك القتال" فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه." اهـ تفسير ابن كثير ج3ص136
وقال ابن كثير أيضا " فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كما قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]
وقال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73، والتحريم: 9]
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا الضَّحوك القَتَّال"، يعني: أنه ضَحُوك في وجه وليه، قَتَّال لهامة عدوه." اهـ تفسير ابن كثير ج4ص239
وقال الفخر الرازى – رحمه الله –
" ثم قال تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } وهو كقوله { أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ]
قال صاحب «الكشاف» أذلة جمع ذليل ، وأما ذلول فجمعه ذلل ، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون ، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئاً من التكبر والترفع ، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا ، فقوله { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين . وقيل : يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم : عزه يعزه إذا غلبه ، كأنهم مشددون عليهم بالقهر والغلبة .
فإن قيل : هلا قيل : أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين .
قلنا : فيه وجهان : أحدهما : أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة ، كأنه قيل : راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع ، والثاني : أنه تعالى ذكر كلمة { على } حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم ، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم ، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع . وقرىء ( أذلة وأعزة ) بالنصب على الحال ."اهـ مفاتيح الغيب6ص85
الفائدة السادسة : دلالة الآية على أن الجهاد فى سبيل الله من صفات الطائفة المنصورة
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -
{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل."ج3ص136
فالطائفة المنصورة يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم . . ولا فى سبيل حزب ، ولا فى سبيل جماعة أو راية 0
في سبيل الله . لتحقيق منهج الله , وتقرير سلطانه , وتنفيذ شريعته , وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . .
وليس لهم في هذا الأمر شيء , وليس لأنفسهم من هذا حظ , إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك .
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . .
المسألة الثانية : أهمية الجهاد فى سبيل الله
كثرة النصوص الواردة فى هذه العبادة"الجهاد فى سبيل الله"
وقد وردت نصوص كثيرة جداً في فضيلة الجهاد نذكر طرفاً منها:
أولا :اقتران محبة الجهاد بمحبة الله ورسوله
قال تعالى "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة : 24
مفهوم الآية الكريمة :
كما أن المسلم لا يقدم هذه المحاب المذكورة فى الآية على محبة الله ورسوله ،فكذلك لا يقدمها على محبة الجهاد فى سبيل الله تعالى
والسؤال ها هنا :لماذا خص الله تعالى الجهاد فى سبيله بالذكر دون بقية العبادات الأخرى مثل الصلاة والصيام والحج ؟
والجواب :أن ذلك لعدة وجوه :
الوجه الأول :لأن المجاهد فى سبيل الله بجهاده يدلل على صدق محبته لربه ولرسوله ولدينه
الوجه الثانى :أن المجاهد فى سبيل الله بجهاده يدلل على صدقه فى إيمانه بربه وإيمانه برسوله – كما قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ [سورة الحجرات: 15]
الوجه الثالث : أن المجاهد فى سبيل الله يدلل بجهاده على إيثاره الآخرة على الدنيا الفانية ،لأن المجاهد فى سبيل الله يبيع نفسه للهرب العالمين
قال تعالى "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة : 111
الوجه الرابع :أن المجاهد فى سبيل الله يدلل بجهاده على محبته لحفظ دين المسلمين ونشره فى الأرض والدفاع عن المستضعفين من المسلمين فى أرض الله تعالى
الوجه الخامس :أن عبادة الجهاد فى سبيل الله من العبادات المتعدية ،فنفع الجهاد يكون عام لجميع المسلمين ولكسر شوكة الكافرين من جانب آخر ،أما الصلاة والصوم والحج فلا يتعدى إلى الغير
ثانيا :الجهاد فى سبيل الله تعالى هو التجارة الرابحة
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11}يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الصف:10-13].
فوائد حول هذه الآية :
الفائدة الأولى : التجارة فى القرآن الكريم لقوله تعالى " "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ"
( بصيرة فى التجارة )
وقد ذكرها الله تعالى فى ستَّة مواضع.
الأَوّل:تجارة غُزَاة المجاهدين بالرُّوح، والنفْس، والمال: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إِلى قوله: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم}.
الثانى:تجارةُ المنافقين فى بَيْع الهدى بالضَّلالة: {اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ}.
الثالث: تجارة قراءَة القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} إِلى قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}.
الرّابع: تجارة عُبّاد الدّنيا بتضييع الأَعمال، فى استزادة الدرهم والدّينار: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا}.
الخامس:فى معاملة الخَلْق بالبيع والشِّرَى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}.
السّادس:تجارة خواصّ العباد بالإِعراض عن كلّ تجارة دنيويّة: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}اهـ بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز ج1ص549
الفائدة الثانية :هذه التجارة سبب فى النجاة من العذاب الأليم
لقوله تعالى " تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ"
فالجهاد فى سبيل الله تعالى مع الإيمان الصحيح ينجى من العذاب الأليم الذى أعده الله لغير المؤمنين
الفائدة الثالثة : أن الجهاد فى سبيل الله تعالى لا يعدله شئ من بقية العبادات
وهذا واضح فى الآية الكريمة وفى غيرها بدليل أن الله تعالى ذكر الجهاد فى سبيله بعد الإيمان به – جل وعلا – والإيمان برسوله – صلى الله عليه وسلم – دون بقية العبادات
قال تعالى " تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ"
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : " الجهاد لا يقاومه شيء من الأعمال "اهـ شرح الأربعين ص 169 .
وذلك لأن فيه بذل المهج التي ليس شيء أنفس منها, ولا يعادلها شيء البتة, فيبذل مهجته, ويبذل ماله لظهور الدين وتأييده,ولما فيه من جهاد الكفار والمنافقين, فبذلك استحق أن يكون من الدين بهذه المكانة
روى البخارى ومسلم ومالك فى الموطأ والنسائى فى سننه
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : « قيل : يا رسول الله، ما يَعْدِل الجهادَ في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين ، أو ثلاثا ، كلُّ ذلك يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مَثَلُ المجاهد في سبيل الله ، كمثل الصائم القانِتِ بآيات الله، لا يَفْتُر من صيام ولا صلاة ، حتى يرجعَ المجاهدُ في سبيل الله » أخرجه مسلم والترمذي.
وفي رواية « الموطأ » : أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال : « مَثَلُ المجاهدِ في سبيل الله، كَمَثَلِ الصائمِ الدائمِ لا يَفْتُر من صلاة ولا صيام حتى يرجع ».
وفي رواية النسائي قال : سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : « مَثَلُ المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ، كمثل الصائمِ القائمِ الخاشعِ الراكعِ السَّاجِدِ ».
وفي رواية البخاري : أن رجلا قال : « يا رسول الله ، دُلَّني على عمل يَعدِل الجهاد : قال : لا أجدُه ،ثم قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تَدْخُلَ مسجدك ، فتقومُ ولا تفتُر ، وتصومُ ولا تُفْطِر ؟ فقال : ومَنْ يستطيع ذلك ؟ فقال أبو هريرة : فإنَّ فرس المجاهدِ ليَسْتَنُّ يَمْرَح في طِوَلهِ ، فيُكتَبُ له حسنات » أخرجه البخاري.
وفي رواية النسائي : قال : « جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال : دُلَّني على عمل يَعْدِل الجهادَ ، قال : لا أجدُه ، هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ : تدخل مسجدا ، فتقومُ ولا تفترُ ، وتصوم ولا تفطر ؟ قال: من يستطيع ذلك ؟ ».
الفائدة الرابعة : أن الخير مترتب على ما ذكر فى الآيات والشر فى ترك ذلك
لقوله تعالى " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"ثم بين الله تعالى هذا الخير فى قوله " يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"
قال سيد قطب – رحمه الله – عند ذكر هذه الآية
" وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل ، واستفهام وجواب ، وتقديم وتأخير ، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية .
يبدأ بالنداء باسم الإيمان : { يا أيها الذين آمنوا } . . يليه الاستفهام الموحي . فالله سبحانه هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية ، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق . ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع : { تؤمنون بالله ورسوله } . . وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم! { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } . . وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة ، يجيء في هذا الأسلوب ، ويكرر هذا التكرار ، ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار ، وهذا التنويع ، وهذه الموحيات ، لتنهض بهذا التكليف الشاق ، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . . فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل بهذا الخير في آية تالية مستقلة ، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه ، ويقره في الحس ويمكن له : { يغفر لكم ذنوبكم } . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً؟ ولكن فضل الله ليست له حدود : { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } . . وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقاً . . { ذلك الفوز العظيم } . .
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة ." اهـ الظلال ج7ص189
ثالثا :الجهاد فى سبيل الله أعلى الدرجات
قال تعالى " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة 19: 22
أولا : سبب نزول الآيات
روى مسلم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - :قال : كنتُ عند مِنْبَرِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ : ما أبالي أن لا أعمل عَملا بعد الإسلام ، إِلا أنْ أسْقيَ الحاجَّ ، وقال آخر : ما أُبالي أنْ لا أعملَ عملا بعد الإسلام ،إِلاَّ أنْ أَعْمُرَ المسجدَ الحرام ، وقال آخر : والجهادُ في سبيل اللَّه أَفْضَلُ مِما قُلتم ، فزجَرَهم عُمَرُ ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند مِنْبرِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يومُ الجُمُعةِ ولكن إذا صليتُ الجمعةَ دخلتُ فاستَفْتَيْتُه فيما اختلفتم فيه ، فأنزل اللّه عز وجل : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ باللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها ( التوبة : آية 19).
قال أبو جعفر: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية.
وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل." اهـ ج14ص169
ثانيا :هذه الآيات مع سبب النزول دليل على فضل الصحابة
في هذه الآيات شهادة من الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا بالله وهاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم ـ سبحانه ـ برحمة منه ورضوان، وبالنعيم المقيم الأبدي الذي لا يبيد ولا يفنى وهذا من أعظم البشارات، ومن أسمى الغايات التي يرجوها المؤمنون من ربهم ـ جل وعلا ـ."اهـ عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ج1ص129
وقال أيضا :
" وفي هذه الآيات شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا، وشرفوا بالهجرة والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم برحمة منه ورضوان وبالنعيم المقيم في الجنات فهل هذه الشهادة وهذه البشارة تكون لقوم علم الله أنهم سيرتدون من بعد عن دينهم ويموتون وهم كفار؟، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً."اهـ عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ج3ص955
ثالثا :هذه الآيات تدل على رفعة درجات المجاهدين على غيرهم
لقوله تعالى " وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ"
فلا يستوى المؤمنون القاعدين عن الجهاد مع المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله
كما قال تعالى " لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء : 95
والآيات التى جاءت فى فضل الجهاد والمجاهدين كثيرة جدا وليس مجال ذكرها فى هذا الموضع ،وإنما أرت الإشارة فقط
رابعا :منزلة الشهيد المجاهد عند الله تعالى
1- الشهيد حى يرزق عند ربه – جل وعلا -
قال تعالى في بيان منزلة الشهيد وأنه حي عند ربه
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{ [سورة آل عمران: 169 - 170].
فائدة :
استعمال الحياة فى مادة القرآن الكريم
والحياة يستعمل على أَوجه:
الأَوّل: للقوّة النَّامية الموجودة فى النبات والحيوان. ومنه قيل: نبات حَىّ: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
الثَّانى:للقوّة الحسّاسة، وبه سمّى الحيوان حيواناً {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} وقال تعالى {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى} فقوله {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} إِشارة إِلى القوة النَّامية. وقوله {لَمُحْىِ الْمَوْتَى} إِشارة إِلى القوّة الحسّاسة.
الثالث: للقوّة العالِمة العاقلة كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}.
قال الشاعر:
لقد أَسمعت لو ناديتَ حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادى
الرّابع: عبارة عن ارتفاع الغَمِّ. وبهذا النَّظر قال الشاعر:
*ليس من مات فاستراح بمَيْت * إِنما المَيْت ميّت الأَحياءِ*
وعلى هذا قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} أَى [هم] متلذِّذون، لما روى فى الأَحاديث الصّحيحة من بيان أَراح الشهداءِ.
الخامس:الحياة الأُخروية الأَبديّة. وذلك يتوصّل إِليه بالحياة الَّتى هى العقل والعلم. وقوله تعالى: {يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يُعْنى به الحياة الأُخرويّة الدّائمة.
السّادس: الحياة الَّتى يوصف بها البارئ تعالى، فإِنَّه إِذا قيل فيه تعالى: هو حىّ فمعناه: لا يصح عليه الموت، وليس ذلك إِلاَّ لله تعالى.
والحياة باعتبار الدّنيا والأُخرى ضربان: الحياة الدّنيا والحياة الآخرة.
قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} أَى الأَعراض الدنيوية.
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أَى حياة الدنيا.
وقوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} كان يطلب أَن يُريه الحياة الأُخرويّة المعرّاةَ عن شوائب الآفات الدّنيوية.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَى يرتدع بالقصاص مَن يريد الإِقدام على القتل، فيكونُ فى ذلك حياة النَّاس. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أَى من نَجَّاها من الهلاك. وعلى هذا قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أَى أَعفو فيكون إِحياءً."اهـ ج1ص702
فائدة أخرى :حياة الشهداء عند ربهم
ذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله طائفة من الأحاديث بهذا الصدد عند تفسير هذه الآية
قال – رحمه الله –
" يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار.
روى مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا"
وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".
روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أما عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ"
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه-قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال: سمعت جابرا قال: لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَبْكِهِ -أو: مَا تَبْكِيهِ -ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ"
وروى أحمد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ، وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ" فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها".
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أحاديث متعددة فى ذلك راجعها فى ج2ص161 وما بعدها
ومن الأحاديث الواردة فى فضل الجهاد والمجاهدين
روى البخارى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ آمنَ بالله ورسوله ، وأقامَ الصَّلاةَ ، وآتى الزَّكاةَ ، وصامَ رمضانَ ، وحجَّ : كان حَقّا على الله أن يُدْخِلَه الجنةَ ، جاهد في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي وُلِد فيها، فقالوا : أوَلا نُبَشِّرُ الناسَ بقولك ؟ فقال : إن في الجنة مائةَ درجة ، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِرْدَوس ، فإنه أوسطُ الجنة وأعلى الجنة ، وفوقَه عرش الرحمن ، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة ».
وروى البخارى عن أبى عبس - رضي الله عنه - أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال : « ما اغبرَّتْ قدما عبد في سبيل الله ، فتَمَسَّه النارُ »
وروى أبو داود عن أبى أمامة - رضي الله عنه - : أن رجلا قال : يا رسول الله ائذَنْ لي في السياحة ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : « سَيَاحَةُ أُمَّتي الجهاد في سبيل الله » قال الشيخ الألباني : حسن
وروى البخارى ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَغَدْوة في سبيل الله ، أو روحة ، خير من الدنيا وما فيها »
وروى الترمذى عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : « كنت مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأصبحتُ يوما قريبا منه ونحنُ نسيرُ ، فقلتُ : يا رسولَ الله ، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار ،قال : لقد سألتني عن عظيم ، وإنه لَيَسير على من يَسَّرَهُ الله عليه، تعبدُ الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيمُ الصلاة ، وتؤتي الزكاةَ، وتصومُ رمضان ، وتحجُّ البيتَ، ثم قال : ألا أدلُّك على أبواب الخير ؟ قلتُ : بلى يا رسولَ الله ، قال : الصومُ جُنَّة ، والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النار ، وصلاةُ الرجل في جَوف الليل شعارُ الصالحين ، ثم تلا قوله تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا... } الآية [السجدة: الآية 16] ثم قال : ألا أخْبِرُك برأس الأمرِ وعَمودِه ، وذِرْوَةِ سَنامه قلتُ : بلى يا رسول الله ، قال : رأْس الأمرِ الإِسلامُ، وعمودُه الصلاةُ، وذِروَةُ سَنامه الجهادُ ، ثم قال: أَلا أُخبرك بملاك ذلك كلِّه ؟. قلتُ : بلى يا رسولَ الله ، قال: كُفَّ عليك هذا - وأشار إلى لسانه - قلتُ: يا نبيَّ الله ، وإنَّا لمؤاخذونَ بما نتكلم به ؟ قال : ثَكِلتْك أمُّك معاذ ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال : على مَناخِرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم ؟ »قال الشيخ الألبانى صحيح
ذم التاركين للجهاد فى سبيل الله
وفي مقابل هذا الثناء الجميل: ورد الذم للتاركين للجهاد، بل إن الله وصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[سورة التوبة: 24].
وقال سبحانه:
{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ {20} طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ {21} فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{[سورة محمد: 20-23].
ص297
والجهاد ضرورة للدعوة وسنة ربانية في الابتلاء والتمحيص.
قال تعالى
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [سورة آل عمران: 142].
وقال تعالى :{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16}[سورة التوبة: 16].
(إن الجهاد في سبيل الله هو طريق الدعوة إلى الله، والجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات فترة الدعوة الأولى. وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة، ولو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول الواسعة من صلب كتاب الله ولما استغرق فصولاً طويلة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(والله يعلم أن هذا المنهج الإلهي تكرهه الطواغيت، ويعلم أنه لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم، ليس بالأمس فقط ولكن اليوم وغداً، وفي كل أرض وفي كل جيل، وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح ولا يمكن أن يكون منصفاً،ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا من طرق سليمة موادعة فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولته قتل الحق وخنقه بالقوة هذه فطرة وليست حالة طارئة.. ومن ثم لابد من الجهاد.. لابد منه في كل صورة، ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة. إلا كان الأمر هزلاً لا يليق بالمؤمنين ولا بد من بذل الأموال والنفس كما طلب الله من المؤمنين) اهـ طريق الدعوة (1/303 - 304)
ويوم أدرك المسلمون معنى قوله تعالى:
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ [سورة النساء: 74].
انطلقت كتائب الفتح الإسلامي في الأرض تنشر الخير، وتلقن الإيمان وتكسر شوكة الطاغوت من أجل أن يعبد الله وحده في الأرض.
ووجد في ذلك التاريخ المشرق نماذج رفيعة أجادت - بحق - صناعة الموت لأنها تريد الحياة الكريمة سواء كانت الحياة على هذه الأرض بالنصر وإعلاء كلمة الله. أم بالحياة عند الله
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون{[سورة آل عمران: 169].
لقد كانت هذه النماذج الإيمانية تستبطئ أن تحول بينها وبين الجنة تمرات كما في قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام الأنصاري: حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة بدر (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) قال: يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض! قال: نعم قال: بخ بخ قال رسول الله: وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: (فإنك من أهلها) ثم أخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بها ثم قاتلهم وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغيـــــــر زاد إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
فما زال يقاتل حتى قتل " انظر مسند أحمد (3/137) وصحيح مسلم (3/1509 ح 1899) كتاب الإمارة بدون ذكر الأبيات
وهذا غسيل الملائكة الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر يخرج من بيته حين سمع نداء الحرب في معركة أحد وكان حديث عهد بعرس لم يكن ليتأخر حتى يغتسل من جنابته، بل هرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد فلما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك تغسله الملائكة)انظر الإصابة لابن حجر (1/360)
هذا غيض من فيض، ونقطة من بحر، من تلك البطولات التي بعث الإيمان فيها شجاعة خارقة للعادة وحنيناً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأى العين، فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي على شيء
هذا هو مفهوم الجهاد، وهؤلاء المؤمنون هم أصحاب الجهاد، ويلحق بهم من سار على نهجهم لأنهم يقاتلون في سبيل الله أما غيرهم فيقاتل في سبيل الطاغوت:
قال تعالى{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ{[سورة النساء: 76].
وليس ما يقوله المنهزمون اليوم هو الجهاد، بل إنه من الوجهة الصحيحة فساد. إنهم يدعون إلى عدم مقاتلة أولياء الشيطان، ويدعون إلى موالاتهم وإلى مودتهم وإلى الاستكانة إليهم وإلى تمييع نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مقابل شبهات الملاحدة انهزموا وذلوا واستكانوا لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا يمثلون إلا اسماً مسمى، همهم التقليد الأعمى، وديدنهم الركض خلف كل ناعق ولو كان الأمر هكذا لهان الخطب لأنه لا عبرة بهم ففي أرض الله من يقوم بدين الله والله متكفل بذلك.
ولكن أن يمتد جبنهم وذلتهم إلى الالتواء على النصوص القرآنية والسنة النبوية فيقال: إن الجهاد في الإسلام هو الدفاع فقط فهذا ما يجب أن نعريه، ولا نسكت عنه، مهما كانت ألقابهم ومهما كانت شهرتهم، فإن دين الله هو الحق والحق أحق أن يتبع
وعوداً على بدء نقول: إنه لا حياة شريفة في ظل هذا الدين الحنيف إلا بالعودة إلى ينابيعه الصافية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم العقيدة الصحيحة وسيرة سلف الأمة وإدراك معنى لا إله إلا الله ومعنى العبادة ومعنى الدين، ومعنى الجهاد في سبيل الله. وليس في سبيل الأرض أو الوطن أو الجنس أو اللون أو الشخص أو.. أو.. الخ.
وعلى المسلمين اليوم إدراك هذه المعاني والاستعلاء بأنفسهم وعقيدتهم من تمييع المائعين وكيد الكائدين، وأن يواجهوا كل موقف بما يمليه عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وليعلموا أنهم مفتقرون إلى معية الله وولايته لهم وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
ذل المسلمين بسبب تركهم للجهاد
" منذ أن تخلت هذه الأمة عن الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله ، والدفاع عن حرمات المسلمين وأعراضهم ودمائهم- تجرأت على الأمة الإسلامية أيد كانت صاغرة تدفع الجزية وهي ذليلة... فاستباحت الديار وسفكت الدماء وهتكت الأعراض وسلبت الأموال واحتلت الأوطان ولا تزال هذه اليد النصرانية الآثمة الغاشمة في ساحات الأمة الإسلامية فهذه سيوفهم تقطر من دمائنا في كل واد في البوسنة والهرسك وكوسوفو وبورما والفلبين والصومال وفلسطين ولا تزال تسمع دوي الانفجارات وأزيز الطائرات فوق رؤوس الضعفاء والمساكين .
روى أبو داود عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : « إِذا تبايعتم بالعِينَةِ ، وأخذتم أذناب البقَر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد : سَلّط الله عليكم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حتى ترجعوا إِلى دينكم » قال الشيخ الألباني : صحيح
من أسباب التخلف عن الجهاد
قال سيد قطب "{ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .
وما يحجم ذوعقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق » فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد الله ، والرزق من عند الله . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ." الظلال ج4ص31
والواقع خير شاهد على ما يجرى على المسلمين فى شتى أقطار الأرض من ذل وهوان وخضوع وخنوع لأهل الكفر والالحاد علاوة على دمائهم التى تسيل فى كل مكان على أيدى أعداء الله فى داخل بلاد المسلمين وفى خارجها
ما الفرق فيما صنعه القدافى بالمسلمين فى ليبيا وما فعله بشار الأسد بأهل سوريا وما فعله الصهاينة بأهل فلسطين أو ما فعله الصرب بالمسلمين فى البوسنة والهرسك ؟ والجواب لا فرق ،بل ما فعله أعداء الله بالمسلمين فى داخل بلاد المسلمين قد يفوق ما فعله أعداء الله بالمسلمين فى بلاد الكفر ،بل ما تجرأ أعداء الله فى بلاد الكفر على المسلمين إلا بسبب ما يفعله أعداء الله فى داخل بلاد المسلمين
والسبب المباشر فى وقوع ما وقع للمسلمين هو ترك الجهاد فى سبيل الله والركون إلى الدنيا بسبب حال العلماء الكارهين للجهاد فى سبيل الله المخذلين المثبطين للمسلمين عن مجرد الاستعداد
وأصحاب العمائم هؤلاء وأصحاب اللحى الطويلة لم يجاهدوا لا بالكلمة ولا بالنفس لأنهم إما أنهم يركنون إلى السطان أو يداهنونهم أو أنهم من أذناب المرجئة الذين لم يفهموا هذا الدين فهما صحيحا كما أنزله الله تعالى
وهؤلاء قابلون للتحول من حال إلى حال على حسب الواقع فعندما تغيرت الأحوال فى مصر مثلا تحولوا ولكن إلى الأدنى فأخذوا يدعون للجهاد ولكن جهاد صناديق الاقتراع ،جهاد الانتخابات البرلمانية ،الجهاد لتطبيق الديمقراطية ،فانتكسوا فضلوا وأضلوا كثيرا ولكن قومنا لا يعلمون ،والله وحده المستعان
فائدة من فوائد الشيخ عطية محمد سالم
قال – رحمه الله –
"فريضة الجهاد"
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: من الواجبات التي ضيعها الناس الجهاد.
وقد يكون الجهاد واجباً عينياً، وقد يكون واجباً كفائياً؛ ولكن يهمنا أن الله سبحانه وتعالى أوجبه في الجملة، والحفاظ عليه مسئولية على الأمة الإسلامية، لا مسئولية فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، ولا دولة من الدول، بل مسئولية العالم الإسلامي كله.
وتضييع الجهاد يكون بأحد أمرين:
1- تركه بالكلية.
2- أو ترك إعداد العدة له.
من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية
إن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة أن تعد العدة للقتال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فقال: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } [الأنفال:60] إلى آخره.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:( إذا اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله،سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)
فإتباع أذناب البقر دليل على الاشتغال بالزراعة، والتبايع بالعينة دليل على الاشتغال بنوع من أنواع البيوع المختلف في حكمها، والجمهور على تحريمه، ومعنى هذا: ترك الجهاد والاشتغال بأمور الدنيا.
وقد بين المولى سبحانه ذلك فقال: { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195]
وفسرها الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصاري بأن ذلك بترك الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما اصطف المسلمون مع أعدائهم في بعض المعارك، فقام فارس من المسلمين واخترق صف العدو حتى نفذ من الجهة الأخرى، ثم كر راجعاً، فقال بعض القوم: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال: لا والله! أنتم تفسرون هذه الآية على غير ما نزلت، كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاهد مع رسول الله، فقلنا ذات يوم: لقد فتح الله على رسوله، وانتشر الإسلام، وعلت راية المسلمين، لو رجعنا إلى مزارعنا فأصلحناها، وإلى تجاراتنا فأدرناها؛ فنزلت الآية الكريمة: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195] أي: بترك الجهاد، والاشتغال بأمور الدنيا.
ومدار الأمر كله في هذا الباب على إعداد العدة، وكل شيء يعد، والآية الكريمة لم تحدد نوعاً من العدة، وتركت ذلك لتقدير المسلمين بحسب ظروف الحياة، فالعدة في سابق الزمن كانت بالخيل والسيف والرمح، واليوم بكل ما وُجد.
ويقول الخبراء العسكريون: السلاح اليوم هو الإنتاج.
ويقول النووي من قبل: إن تعلم الصناعات واجب كفائي، وعلى الأمة أن تتعلم كل صناعة حتى الإبرة -يقول ذلك في مقدمة المجموع -وهو موسوعة فقهية- حينما تكلم على أقسام العلوم، وما يجب على الأمة أن تتعلمه، وأنه يجب تخصص طوائف للفنون المختلفة- ويقول: لو قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة لاحتاجت إلى عدوها في جلب الإبرة وتحكم العدو فيها في تلك الإبرة، فتجلس عرياناً لا تستطيع أن تخيط ثوباً، هكذا يقول النووي رحمه الله.
ونحن اليوم شاهدنا جانبين في الحرب والسلم، وإن كنا لا نتتبع الإذاعات والأخبار فقد استفاضت الأخبار في مد روسيا أنابيب لصربيا، فأمريكا ماذا فعلت؟ أعلنت عليها حرباً، بأي شيء؟ لا بالقذائف ولا بالنوويات ولا بالصواريخ، بل منعت عنها القمح، امتنعت من تصدير القمح لها، فقامت روسيا تفرج عن رصيد ذهبي من رصيدها لتشتري القمح من كندا.
وفي أثناء معركة رمضان -حرب العبور- وقفت روسيا قطع الغيار عن الجيش المصري حتى يدفعوا الثمن نقداً، ويقوم الملك فيصل ويقدم شيكاً مفتوحاً، ويدفع قيمة قطع الغيار فوراً.
وأي نكاية أكثر من هذه؟! في أثناء المعركة تمنع القطع وتقول: أعطونا الثمن فوراً، بلد في حرب، واقتصادها متحمل الشيء الكثير، وفي تلك اللحظة تقول: أعطونا؟! فمعنى ذلك أنكم ضدنا في هذه الحرب! إذاً: المنتج للسلاح هو المتحكم في العالم.
قال الله : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال:60]: القوة تكون في السلاح والإنتاج والاقتصاد والتعليم، وأصبحت الأسلحة الآن كيماوية وغيرها.
الأمة اليوم ضيعت الجهاد في سبيل الله بتضييع إعداد العدة التي تقابل سلاح العدو، وكما يقولون: لا يفل الحديد إلا الحديد، { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [البقرة:251]، بأي شيء يدفعون؟ كلما تعادلت القوتان أمن الناس من الحرب، أما إذا غلبت كفة إحدى الجانبين فما الذي ينتظر؟ أن ينقض القوي على عدوه؛ لكن إذا عرف أن هناك ما يقابل سلاحه تعادلت الكفتان فتوقفتا.
فالأمة اليوم ضيعت الجهاد، وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يقاتلون قدر الطاقة، وكان هارون الرشيد رحمه الله يغزو سنة، ويحج أخرى.
من إعداد العدة: التدريب والتعليم
الجهاد في سبيل الله مما أوجبه الله، فكيف نحافظ عليه كما نحافظ على أركان الإسلام؟ نعد له العدة، والعدة هذه هل ستعمل بذاتها تلقائياً أم أنها تحتاج إلى أيدٍ تُعْمِلها؟! تحتاج إلى أيدٍ عاملة.
إذاً: يجب إعداد الرجال والشباب، وتدريبهم وتعليمهم وتمرينهم حتى تكون هناك قوة.
وليس الجندي مجرد الذي يحمل السلاح في الميدان، بل كذلك من يخدم هذا الجندي في مصانع الأسلحة والأنسجة، فهناك من يصنع له الفراش، وهناك من يصنع له الثياب، فكل من يؤمِّن طلبات الجندي فهو في الجندية، وهو في سبيل الله.
من عظيم أجر الفارس أن فرسه ما ترتع في مرعى، ولا تشرب من ماء ولا تصعد شرفاً، ولا تهبط وادياً، ولا تروث روثاً، إلا كان ذلك كله في حسناته، أما المجاهد بنفسه فيكفي تلك الصفقة التي بينه وبين الله: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [التوبة:111].
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [الصف:10-11].
إذاً: مما يجب على الأمة الإسلامية مجتمعة: أن تعيد النظر في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد أشرنا أنه قبل أن نرفع السلاح ونقاتل العدو؛ يجب أن نصلح ذات بيننا، كما جاء في مطلع سورة الأنفال، وهي في ذكر أعظم انتصار للمسلمين في غزوة بدر: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال:1]، فقبل أن يتكلم عن المعركة ونتائجها قال: { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ، وهذا باب واسع، ويهمنا التنبيه عليه فقط." اهـ شرح الأربعين النووية ص334-335
مسألة :
ما الحكمة فى عدم مشروعية الجهاد فى الفترة المكية ؟
قال القحطانى فى كتاب: الولاء والبراء فى الإسلام
"وهذه الأسباب والعلل ذكرها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابيه القيمين: (في ظلال القرآن) عند تفسير سورة النساء، وفي (معالم في الطريق) فصل الجهاد في سبيل الله وسأوجزها فيما يلي:
(1) إن الكف عن القتال في مكة ربما كان لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به: ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته. ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد والتقيد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء "المجتمع المسلم".
(2) وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد ونشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
(3) وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام!! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في المواسم، أن محمداً يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟
(4) وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم هم أنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
(5) وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.
(6) وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
(7) إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً ومحققاً وهو " وجود الدعوة" ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع. ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، بل إنهم حين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف، وحين طلبوا إليه أن يسكت عن سب دين آبائهم وأجدادهم لم يسكت، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا، أي يجاملهم فيجاملوه، بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا بعض عبادته لم يدهن.
إن هذه الاعتبارات كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم، وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ.. لتكون خالصة لله، وفي سبيل الله - (انتهى ملخصاً من الظلال).اهـ ص139-140
حقيقة الشهادة والشهداء
مسألة :من هم الشهداء والمجاهدون
قال سيد قطب " ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون { في سبيل الله } . . في سبيل الله وحده ، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده ، لا في أي سبيل آخر ، ولا تحت أي شعار آخر ، ولا شركة مع هدف أو شعار ، وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث ، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : « سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله؟ فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ( أخرجه مالك والشيخان )
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - « أن رجلاً قال : يا رسول الله : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال : » لا أجر له « . فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول : لا أجر له » ( أخرجه أبو داود ) .
وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ، لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل » ( أخرجه مالك والشيخان ) .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله ، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله ، وإيمان به ، وتصديق برسله .
ولقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد : عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه ( وكان مولى من أهل فارس ) قال : « شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً . فضربت رجلاً من المشركين ، فقلت : خذها وأنا الغلام الفارسي : فالتفت إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلا قلت وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم ، وإن مولى القوم منهم » ( أخرجه أبو داود ) .
فقد كره له صلى الله عليه وسلم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين . . وهذا هو الجهاد . وفيه وحده تكون الشهادة ، وتكون الحياة للشهد " اهـ الظلال ج1ص115-116
وقال سيد قطب رحمه الله " ألا يقعدن بكم حب الحياة ، وحذر الموت ، عن الجهاد في سبيل الله . فالموت والحياة بيد الله . قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى . وتحت راية الله لا تحت راية أخرى . . قاتلوا في سبيل الله :" اهـ الظلال ج1ص246
وقال سيد قطب رحمه الله
" { وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } . .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصاً لله { في سبيل الله } لتحقيق كلمة الله ، ابتغاء رضوان الله .
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الأولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين ." اهـ ج3ص433
النصر وتعلقه بتحقيق الإيمان
قال سيد قطب رحمه الله " { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . .
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب ، لأنه ليس فيه تحديد .
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . . أما بالنسبة للدنيا ، فإن الظواهر أحياناً قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة ، ونظاماً للحكم ، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . . فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً .
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها!
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك ، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية؛ ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون!
ففي « أحد » مثلاً كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطمع في الغنيمة . وفي « حنين » كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .
نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً . فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق!
كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوراً وشعوراً؛ وفي حياتها واقعاً وعملاً . وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماماً مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لاتضعف ولا تفنى . . وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . . ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية ، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعاً .
غير أنه يجب أن نفرق دائماً بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .
. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن « حقيقة » الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . . لأن حقيقة أي شيء أقوى من « مظهر » أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان!
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . . { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً }" اهـ الظلال ج2ص266-267
لماذا الجهاد فى سبيل الله
"ومع هذا فإن قوله تعالى :{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }
يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم . .
ولقد جاء الإسلام - كما سبق في التعريف بالسورة - ليكون إعلاناً عاماً لتحرير « الإنسان » في « الأرض » من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . وأن معنى هذا الإعلان : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض ، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور . . الخ .
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين :
أولهما : دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين ، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان ، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده ، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال . . وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام ، وتنفذه في عالم الواقع ، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين ،أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه .
وثانيهما :تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأَول ، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها ، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا لله وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله - وليس هو مجرد الاعتقاد . .
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول ، على حين أن الله سبحانه يقول : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب : « الجهاد في سبيل الله » للأستاذ أبي الأعلى المودودي ، ما يكفي للبيان الواضح . . إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً ، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين!
إن الذي يعنيه هذا النص : { ويكون الدين كله لله } . . هو إزالة الحواجز المادية ، المتمثلة في سلطان الطواغيت ، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد ، فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله ، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله . . فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط . على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين ، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى ، ويفتن بها الذين يتحررون فعلاً من كل سلطان إلا سلطان الله . . إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم ، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً ، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد . فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد .
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله ، ولن يتحرر « الإنسان » في « الأرض » ، إلا حين يكون الدين كله لله ، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة :
{ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } . .
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له ، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه ، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره ، وتركوا هذا لله :
{ فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير } . .
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله :
{ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم . نعم المولى ونعم النصير } . .
هذه تكاليف هذا الدين؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس . .
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه!
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان .
. وهو منهج حركي واقعي ، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة . . يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان . . ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله . .
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري . والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة ، ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة ، ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة لسواه .
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين . . لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون . . ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من « المسلمين » ، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين!
. . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . ."اهـ الظلال ج3ص400-402
الجهاد للتدافع
قال سيد قطب رحمه الله " { ومن أوفى بعهده من الله؟ } .
أجل! ومن أوفى بعهده من الله؟
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . . إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . . ولا بد لدين الله أن ينطلق في « الأرض » كلها لتحرير « الإنسان » كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً! . . وما دام في « الأرض » كفر . وما دام في « الأرض » باطل . وما دامت في « الأرض » عبودية لغير الله تذل كرامة « الإنسان » فالجهاد في سبيل الله ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان : و « من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق » ( رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ) . "اهـ الظلال ج4ص86
الهدف الأعظم من الجهاد فى سبيل الله هو تحقيق توحيد العبادة
قال سيد قطب رحمه الله : * وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية :
إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره؛ وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وبذلك تحقق للإنسان كرامته وحريته الحقيقية ، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ، في صورة من صورها الكثيرة .
. . سواء عبودية الاعتقاد ، أو عبودية الشعائر ، أو عبودية الشرائع . . فكلها عبودية؛ وبعضها مثل بعض؛ تخضع الرقاب لغير الله؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله .
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة . والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله؛ في كل جانب من جوانب الحياة!
إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط . ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة :
{ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .
ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ، ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة .
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد . . يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم ، أو في طبقة حاكمة ، أو في جنس حاكم فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها . .
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين . . فهذه هي الصورة الصارخة ، ولكنها ليست هي كل شيء! . . إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالاً لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ . . كل الذين يسمونهم متحضرين . . ! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات . . الخ . . ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس في هذه الجاهلية « الحضارية! » لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين! . . فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!
وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة ، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها ، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً ، ولا تقوى على رفض الدينونة لها ، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها . فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده؛ وحين يدينون لغيره من العبيد
. وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ، ولعبودية البشر للبشر!
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد ، في صورة من صور الدينونة . . سواء في صورة حاكمية التشريع ، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد ، أو في حاكمية الاعتقاد والتصور . .
إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها؛ وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال وأحيانا من الأولاد! تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف؛ ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة ، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن . . ومن . . من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء ، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم ، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء!
وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب!
إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه؛ وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام ، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء! . . . إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة . . إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال . ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء!
وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية . . وما من أضحية يقدمها عابد الله لله ، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافاً للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض . .
وتقام أصنام من « الوطن » ومن « القوم » ومن « الجنس » ومن « الطبقة » ومن « الإنتاج » . . . ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب . .
وتدق عليها الطبول؛ وتنصب لها الرايات؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد . . وإلا فالتردد هو الخيانة ، وهو العار . . وحتى حين يتعارض العِرض .
مع متطلبات هذه الأصنام ، فإن العرض هو الذي يضحى؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!
إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله؛ ليعبد الله وحده في الأرض؛ وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام ، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان . . إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله ، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد ، وفوقها الأخلاق والأعراض . . إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!
وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده ، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه؛ ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة . كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض ، وترقيتها ، وترقية الحياة فيها .
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء . . وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ، ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه دون الله . . احتاج هذا الطاغوت كي يعبد ( أي يطاع ويتبع ) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات؛ أولا : لحماية شخصه . وثانياً : لتأليه ذاته . واحتاج إلى حواشٍ وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده ، وترتل ذكره ، وتنفخ في صورته « العبدية » الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان « الألوهية » العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها . وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها ، وإقامة طقوس العبادة لها . . . !
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً . لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل . وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد!
وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح أحياناً وأعراض! لو أنفق بعضها في عمارة الأرض ، والإنتاج المثمر ، لترقية الحياة البشرية وإغنائها ، لعاد على البشرية بالخير الوفير . . ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أحياناً والأعراض لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده؛ وإنما يدينون للطواغيت من دونه .
ومن هذه اللحظة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونه لله وحده؛ وعبادة غيره من دونه . . وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض ، والقيم والأخلاق . وفوق الذل القهر والدنس والعار!
وليس هذا في نظام أرضي دون نظام ، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات .
ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته ، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة .
لقد هربت أوربا من الله في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف وثارت على الله سبحانه في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ومصالحهم كذلك في ظل الأنظمة الفردية ( الديمقراطية ) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم الأغلبية المنتجة . . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان « الرأسمالية » ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات ، وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبوديه ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحيفة! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، في معزل عن الله سبحانه!!!
ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها « رأس المال » و « الطبقة » إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة « الرأسماليين » الدينونة لطبقة « الصعاليك »! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين!
وفي كل حالة ، وفي كل وضع ، وفي كل نظام ، دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال .
إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحراراً كراماً شرفاء أعلياء . . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية .
من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله سبحانه وفي كتبه . . وهذه السورة نموذج من تلك العناية . . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله ، في كل زمان وفي كل مكان؛ وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ ، وجاهلية القرن العشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد .
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية : أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها وهذه السورة نموذج منها أن قضية الدينونة والإتباع والحاكمية التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام؛ وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام!
إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم . فالقضية إيمان يوجد أو لا يوجد . وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق . . ثم هي بعد بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام . وتنفذ فيها الأحكام .
وكذلك فإن قضية « العبادة » ليست قضية شعائر؛ وإنما هي قضية دينونة وإتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة . . وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين . . واستحقت كل هذه الرسل والرسالات . واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات ."اهـ ج3ص284-285
وصدق من قال :
المجاهدون خير خلف لمن سلف
همُ الهامات ذوي الهمم العالية
يبيتون خُشّعاً لله ركّعاً سُجّداً
يطوون على الجوع بطوناً خالية
سياحتهم في سجون الطغاة
وتجارتهم سلعة الله الغالية
يسابقون الموت نحو الخلود
يفتكون بأجناد العدو الغازية
ليحرّروا رجالاً كانوا من الأحرار
وغدوا مع الذل عبيد الجارية
فلا نامت أعين الجبناء
ولا سرت في أبدانهم عافية
يُمزّقون وقار الليل سُكارى
ويصبحون صرعى بغيٍّ غانية
سيكتب التاريخ مخبراً الورى
عمن كانوا فوق هذه العروش الخاوية
وسيحكي عن أسود الوغى
وكيف أرهبوا الدول الباغية
يجاهدون في سبيل الله
ويحمون أعراض الوعول القاصية
فهنيئاً لهم جوار الأنبياء
وهنيئاً لهم ظلال الجنان الدانية
* موقفٌ عظيمٌ للقائد محمود بن سُبُكْتِكين :
"حاول الهنود شراء القائد محمود بالأموال لكي يرجع عن قراره تحطيم صنم " سُومَنات " ، ولكن هيهات هيهات ، وقال مقولة تكتب بما الذهب - رحمه الله رحمة واسعة - ، وإليكم ما قاله .
قال ابن كثير في البداية والنهاية (12/24) :
وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم ، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم ، فقال : حتى استخير الله عزوجل ، فلما أصبح قال : إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم ؟ أحب إلي من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل أن يناله من الدنيا ، ثم عزم فكسره رحمه الله ، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلى والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة ، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها ، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي ، فرحمه الله وأكرم مثواه "اهـ. شواهد من التاريخ على هدم الأوثان ص16
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^