الباب الثالث
( ضوابط قاعدة من لم يُكفّر الكافرين )
سبق أن أشرنا إلى أن هذه القاعدة لا تنطبق على كل من قيل إنه كافر , ومن ثم فنحن بحاجة إلى الضوابط الأساسية التي تضبط هذه القاعدة ؛ لأن من الناس من توسع في استعمال هذه القاعدة فوضعها في غير موضعها وكفّر بمقتضاها من ليس كافراًَ , وفريق آخر يرفض هذه القاعدة ابتداء وما يترتب عليها , وقد قدمنا صحة هذه القاعدة الشرعية بما جاء في كتاب الله تعالى , والأقوال الكثيرة الثابتة عن أهل العلم قديماً وحديثاً .
فإذا ما ثبت ذلك , بقي أن نتعرض لضوابط هذه القاعدة , وقد أشار إليها مجملاً الشيخ محمد نعيم ياسين في كلامه السابق .
الضابط الأول :
هذه القاعدة تنطبق أول ما تنطبق على الكفار الأصليين , يهوداً كانوا أو نصارى , وكل من لم يدين بالإسلام ديناً .
فمن لم يكفر مثل هذه الطوائف يكون كافراً , وكذلك إذا توقف في كفرهم أو شك في كفرهم , أو صحح ما هم عليه من دين باطل فإنه يكون كافراً بالاتفاق , لأنه بذلك صار مكذباً لله تعالى ولرسوله e , ومن هنا ندرك خطورة هذه المسألة , فقد انتشر بين طوائف الناس أنه لا يجب عليهم أن يكفروا الكافرين , وما الذي يعود عليهم من وراء ذلك .
هذا الفكر والاعتقاد الباطل يكاد يكون سائداً بين غالبية من ينتسبون إلى الإسلام .
وهذا الاعتقاد بدون شك يقدح في دين المسلم بالكلية ؛ لأن من كان هذا حاله , لم يعرف حقيقة الإسلام , بل هو تارك لأصل دينه .
وقد ذكرنا بعض كلام العلماء في كفر من لم يكفر الكافرين , ونزيد على ذلك بعض الأقوال الأخرى التي تزيل بعض الشبهات والمفاهيم الخاطئة حول هذه المسألة الخطيرة .
- البراءة من المشركين مقدمة على البراءة من أوثانهم ومعبوداتهم
قال تعالى : ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( . [ الممتحنة : 4 ] .
قال الشيخ حمد بن عتيق – رحمه الله – في ( سبيل النجاة والفكاك ) :
( ........................... فأمرنا سبحانه وتعالى أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم: " إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ " ، إلى آخره، وإذا كان واجبا على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم، فكونه واجبا للكفار الأبعدين عنه المخالفين له في جميع الأمور، أبين وأبين.
وهاهنا نكتة بديعة في قوله: {إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله:
وهي أن الله تعالى قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله، لأن الأول أهم من الثاني، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ولا يتبرأ ممن عبدها، فلا يكون آتياً بالواجب عليه، وأما إذا تبرأ من المشركين، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم. وهذا كقوله تعالى: ) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا( فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم، وكذا قوله: ) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ(، وقوله: ) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَ اللَّهَ ( فعليك بهذه النكتة، فإنها تفتح لك بابا إلى عداوة أعداء الله، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك، ولكنه لا يعادي أهله!! فلا يكون مسلما بذلك، إذ ترك دين جميع المرسلين.
ثم قال : )كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا (
فقوله : " وبدا " : أي: ظهر وبان. وتأمل تقديم العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية، فإن الإنسان قد يبغض المشركين ولا يعاديهم فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء، ولابد أيضاً من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي: ظاهرتين بينتين. واعلم انه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب، فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علاماتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة، فإن ذلك يدل على عدم البغضاء، فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة )اهـ ص67
مسألة مهمة
( ما قولكم في رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم ولكن ما اقدر أكفر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها ؟ ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض القباب وأعلم أنها لا تضر ولا تنفع ولكن لا أتعرضها" ؟
الجواب:
وأجابا عن هذا السؤال الشيخ حسين , والشيخ عبد الله ,ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
"أن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا عرف التوحيد ، ودان به ، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به، وآمن به وبما جاء به. فمن قال لا أعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا الكفر والشرك، وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض القباب، فهذا لا يكون مسلما، بل هو ممن قال الله فيهم: ) وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( [ النساء : 50 – 51 ].
والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال: ) لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ( [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى: ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [ المائدة : 51 ] ،وقال تعالى: ) يا أيها الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ( [ اللمتحنة : 1 ] – الآيات . والله أعلم) ( سبيل النجاة والفكاك , والموالاة والمعاداة جـ 1ص69 ) .
مسألة مهمة كثيرة الوقوع
( هذه المسألة هي الجلوس في الأماكن الشركية وبين المشركين دون إنكار عليهم ، بل هناك من يقومون بتهنئة المشركين بأعيادهم ، مما يدل ظاهراً إقرارهم على دينهم الباطل ، ولا شك أن هذا ضلال مبين ، فما الحكم في ذلك ؟
وفي أجوبة آل الشيخ رحمهم الله تعالى لما سئلوا عن هذه الآية وعن قوله صلى الله عليه وسلم : (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله )؟
قالوا: الجواب أن الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين بآيات الله، من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، فهو كافر مثلهم ، وإن لم يفعل فعلهم، لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر.
وبهذه الآية ونحوها، استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن أدعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه، لأن الحكم بالظاهر، وهو قد أظهر الكفر فيكون كافر"." ولهذا لما وقعت الردة، وادعى أناس أنهم كرهوا ذلك، لم يقبل منهم الصحابة ذلك بل جعلوهم كلهم مرتدين، إلا من أنكر بلسانه.
وكذلك قوله في الحديث : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) على ظاهره : وهو أن الذي يدعي الإسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة، والمنزل معهم بحيث يعده المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يتولى المشركين ) . ( كتاب سبيل النجاة والفكاك ص71) .
إذا تكفير الكافرين ومعاداتهم من أصل دين الإسلام , لأن ذلك من لوازم نطق المسلم بالشهادتين .
قال صاحب الموالاة والعاداة في الشريعة الإسلامية جـ 1ص132 :
( ومن المخالفين في موضوع الموالاة والمعاداة ما يلي :
" القسم الثاني : من عادى المشركين ولم يكفرهم .
فهذا النوع لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك وما تقتضيه من تكفير من فعله، وهذا الأمر هو مضمون سورة الإخلاص، وسورة الكافرون، وآيات من سورة الممتحنة، فمن لم يكفر من صرح القرآن الكريم بكفره، فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد ، وما يوجبه في حق الناس من حب وعداوة وإيمان وكفر " اهـ [ مجموعة التوحيد ص154 ]
فصـــــــــل
" هل يدخل التأويل في عدم تكفير المشركين " ؟
سيأتي الحديث عن التأويل بعد ذلك مفصلاً ، ولكن نشير هنا إلى أمر مهم ، وهو : إذا كان التأويل مستساغا أو مقبولاً ، بمعنى : أن له وجها صحيحا ، فعند ذلك يكون مثل هذا التأويل عذراً لصاحبه في عدم تكفير المشركين ، وكذلك يكون ذلك عذراً لنا في عدم تكفيره لكونه لم يكفرهم لتأويله .
فقد يستدل البعض بأدلة من السنة ويظن أنها صحيحة ، وهي في الأصل ضعيفة ، أو تأتي أدلة شبه متعارضة فيرجح البعض ما ليس راجحا ، أو يظن أن بعض الأحاديث ناسخاً للأخر وليس كذلك .
كل هذه الأشياء وغيرها نجدها وقعت من مثل الإمام السيوطي – رحمه الله - ، في إثباته لإسلام أبوي النبي e وله في ذلك رسالة مستقلة ، وهي " مسالك الحنفا في والدي المصطفى " وهي ضمن كتابه " الحاوي للفتاوي " .
ونذكر من هذه الرسالة بعض ما قاله الإمام السيوطي في استدلاله على عدم شرك أبوي النبي e، ثم نذكر بعد ذلك الرد على ذلك للإمام ملا على القاري – رحمه الله .
قال السيوطي – رحمه الله : " مسألة - الحكم في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم : إنهما ناجيان وليسا في النار صرح بذلك جمع من العلماء، ولهم في تقرير ذلك مسالك:
المسلك الأول : أنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] .
ثم قال بعد كلام طويل – " فبان بذلك أن الوالدين الشريفين من أهل الفترة بلا شك لأنهما ليسا من ذرية عيسى ولا من قومه ثم يرشح ما قال حافظ العصر أبو الفضل بن حجر أن الظن بهما أن يطيعا عند الامتحان ـ أمران – ثم ذكر بعض الأحاديث وهي ضعيفة .
المسلك الثاني : أنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه السلام كما كان على ذلك طائفة من العرب كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهما وهذا المسلك ذهبت إليه طائفة منهم الإمام فخر الدين الرازي – وأطال الكلام حول هذا المسلك ، ... حتى إنه قال بإسلام أبو إبراهيم – عليه السلام - ، وقال أن آزر لم يكن أبيه بل هو عمه ، فآباء الأنبياء جميعاً مسلمين ، ومنهم بلا شك أبوي النبي e .
قلت : أي السيوطي : وكذلك نقول في حق أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما لم يثبت عنهما حالة كفر بالله فلعل حالهما كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بكر الصديق وأضرابهما .
قلت : ومن عجائب قول السيوطي وهو يرد على حديث مسلم : " إن أبي وأباك في النار " .
قال : تقرير آخر : ما المانع أن يكون قول السائل فأين أبوك وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس " إن أبي " إن ثبت ـ المراد به عمه أبو طالب لا أبوه عبد الله كما قال بذلك الإمام فخر الدين في أبي إبراهيم أنه عمه .
قلت : ومن عجائب السيوطي أيضاً قوله " أنه ليس كل حديث في صحيح مسلم يقال بمقتضاه لوجود المعارض له ، وهذا المعارض الذي يتحدث عنه الإمام السيوطي ويستدل به ضعيف بإتقان المحدثين ، أو موضوع في قول البعض .
المسلك الثالث: أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به. وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من حفاظ المحدثين وغيرهم منهم ابن شاهين والحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي والسهيلي والقرطبي والمحب الطبري والعلامة ناصر الدين بن المنير وغيرهم .00000000
وذكر استدلالهم بحديث ضعيف باتفاق المحدثين ، كما قال السيوطي نفسه ، بل هناك من العلماء من قال بوضعه .
قال السيوطي : خاتمة :
وجمع من العلماء لم تقو عندهم هذه المسالك فأبقوا حديثي مسلم ونحوهما على ظاهرهما من غير عدول عنها بدعوى نسخ ولا غيره ومع ذلك قالوا لا يجوز لأحد أن يذكر ذلك.
قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم لقوله "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات" وقال تعالى : (إن الذين يؤذون الله ورسوله) الآية.
وسئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية عن رجل قال إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار. فأجاب بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) قال ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار.
ومن العلماء من ذهب إلى قول خامس وهو الوقف، قال الشيخ تاج الدين الفاكهاني في كتابه الفجر المنير: الله أعلم بحال أبويه.
وقال الباجي في شرح الموطأ قال بعض العلماء: إنه لا يجوز أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره ، وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذي بمباح وليس لنا المنع منه ولا يأثم فاعل المباح وإن وصل بذلك أذى إلى غيره .... الخ " اهـ انظر الحاوى للفتاوى ج2 ص231 ـ 238 باختصار
" الرد على مضمون رسالة السيوطي في إسلام أبوي النبي e " .
وهذا الرد للإمام ملا على القاري ، ومن خلال رسالته " أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه السلام " .
قال بعد المقدمة : أما بعد : فيقول أفقر عباد الله الباري – على بن سلطان محمد القاري ، قد قال الإمام الأعظم والهمام الأقدم في كتابه المعتبر – المعبر بالفقه الكبر .
ما نصه : " ووالدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماتا على الكفر " .
فقال شارحه : هذا رد على من قال بأن والدي رسول الله ماتا على الإيمان ،.
وعلى من قال ماتا على الكفر ثم رسول الله دعا الله لهما فأحياهما الله وأسلما ثم ماتا على الإيمان.
فأقول وبحوله أصول : إن هذا الكلام من حضرة الإمام لا يتصور في هذا المقام لتحصيل المرام إلا أن يكون قطعي الدراية لا ظني الرواية لأنه في باب الاعتقاد لا يعمل بالظنيات ولا يكتفي بالآحاد من الأحاديث الواهيات والروايات الوهميات .
إذ من المقرر والمحرر في الأصل المعتبر أنه ليس لأحد من أفراد البشر أن يحكم على أحد بأنه من أهل الجنة ولا بأنه من أهل العقوبة إلا بنقل ثبت بنص من الكتاب أو تواتر من السنة أو إجماع علماء الأمة بالإيمان المقرون بالوفاة أو بالكفر المنضم إلى آخر الحياة .
فإذا عرفت ذلك فنستدل على مرام الإمام بحسب ما أطلعنا عليه في هذا المقام بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة الأعلام .
ما جاء في الكتاب :
الأدلة من الكتاب .
أما الكتاب فقوله تعالى : " إنا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ".
قلت : ثم ذكر – رحمه الله – ما جاء في أسباب نزول هذه الآية ، وأطال الكلام في ذلك ، وكل ما ورد في سبب نزولها فهو ضعيف .
قال العلامة أحمد شاكر – رحمه الله – في تعليقه على تفسير ابن كثير :
" وقوله " ولا تسئل عن أصحاب الجحيم " قراءة أكثرهم " ولا تُسئل " بضم التاء على الخبر ، وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بفتح التاء على النهي ، أي : لا تسأل عن حالهم .
قال أحمد شاكر : هذه قراءة نافع ، أي : بالفتح ، والأولى قراءة باقي السبعة ، ثم ذكر ابن كثير هنا حديثين مرسلين ضعيفين جداً ، من رواية عبد الرزاق ، ورواية الطبري : أن سبب نزول هذه الآية : سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما فعل أبواه ؟
ثم نقل عن القرطبي : " أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به " .
ثم قال ابن كثير : والحديث المروي في حياة أبويه – عليه السلام – ليس في شئ من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف ، وهو كما قال .
وما نقله القرطبي والرد عليه ليس في المخطوطة الأزهرية " اهـ [ من عمدة التفسير – جـ 1 ص121– لأحمد شاكر ] .
ما جاء في السنة :
وأما السنة فما رواه مسلم عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله : " أين أبي فقال في النار فلما قفى دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار ".
قلت : ثم ذكر الكثير من الآثار التي يقوي بعضها بعضا .
ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك : حديث مسلم ورواه أيضا أبو داود عن أبي هريرة – رضى الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم استأذن في الاستغفار لأمه فلم يأذن له " .
قلت : والحديث واضح في أن من مات على الشرك فلا يجوز الاستغفار له .
ما جاء في الإجماع :
وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك من غير إظهار خلاف لما هنالك والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق .
والعجب من الشيخ جلال الدين السيوطي مع إحاطته بهذه الآثار التي كادت أن تكون متواترة في الأخبار أنه عدل عن متابعة هذه الحجة وموافقة سائر الأئمة وتبع جماعة من العلماء المتأخرين وأورد أدلة واهية في نظر الفضلاء المعتبرين منها – وذكر هذه الأدلة مع الرد عليها .
من ذلك حديث : " أن الله سبحانه أحيا أبويه حتى آمنا به " – قال : وهذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين كما اعترف به السيوطي وقال ابن كثير : إنه منكر جدا ورواته مجهولون .
فقول الشيخ ابن حجر المكي في شرح الهمزية هو حديث صحيح صححه غير واحد من الحفاظ مردود عليه بل كذب صريح وعيب قبيح مسقط للعدالة وموهن للرواية لأن السيوطي مع جلالته وكمال إحاطته ومبالغته في رسائل متعددة من تصنيفاته ذكر الاتفاق على ضعف هذا الحديث فلو كان له طريق واحد صحيح لذكره في معرض الترجيح .
وقد قال الحافظ ابن دحية كما نقله العماد ابن كثير عنه إن هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع .
قال الله تعالى : " ولا الذين يموتون وهم كفار "اهـ .
والمعنى : أنه ثبت كفرهما بما سبق من دلالة الآية السابقة المنضمة إلى رواية السنة المتقوية بإجماع الأمة مع قوله تعالى "ولا الذين يموتون وهم كفار" أي ليست التوبة صحيحة ممن مات وهو كافر لأن المعتبر هو الإيمان الغيبي لقوله تعالى : " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " .
والحاصل أنه لم يثبت إحياؤهما وإيمانهما والدليل على انتفائهما عدم اشتهارهما عند الصحابة ......... – إلى أن قال - فإن الحديث إذا كان ضعيفا باتفاق المحدثين وموضوعا عند المحققين ، ومخالفا للكتاب عند المفسرين ، كيف يصلح أن يكون معارضا لحديث مسلم في الصحيح .
وفي الرد على قول السيوطي أنهما مات قبل البعثة وأنهما من أهل الفترة :
قال " ولا يخفى ما فيه من الدلالة على أن أهل الفترة هو الذي يكون على أصل الفطرة من التوحيد ولم يظهر منه من الكفر ما ينافي التفريد كما يدل عليه قوله سبحانه : " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " .
وكما ورد في حديث : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " الحديث ، وهو صحيح .
وفيه دليل على أن كل مولود في حال عقله وكمال حالة إذا خلي هو من طبعه اختار التوحيد لله في الذات والتفريد له في الصفات كما يدل عليه قصة الميثاق الذي وقع عليه الاتفاق على ما هو مقرر في محله ما يليق به .
ولهذا قال الإمام فخر الدين : من مات مشركا فهو في النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه في النار وأخبار عقوبات الله لأهله متدوالة بين الأمم قرنا بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت وحين ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيتة وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر
وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة في الجنة " اهـ .
ثم نقل قول السيوطي : أنه ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم يمتحنون يوم القيامة .
قال في الرد على ذلك : ولا يخفى أن هذا على تقدير صحته وقوته لمعارضة مخالفته ،إنما يكون فيمن مات من أهل الفترة ولم يعلم حاله من إحداث الشرك أو التوحيد على الفطرة وأما من ثبت كفره بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة فلا وجه لإدخاله في أصحاب الامتحان للطاعة كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وغيرهما ممن ثبت توحيدهما ولا نحو صاحب المحجن وغيره ممن ثبت شركهما " .
الرد على من قال أن عبد المطلب من الناجين يوم القيامة :
قال ابن حجر فيما نقله عنه السيوطي : ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها " أي النار " طائعا فينجوا إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن ، وثبت في الصحيح أنه في ضحضاح من نار " اهـ .
قال الإمام ملا على القاري ردا على ذلك :
" ولا يخفى أن إدخال عبد المطلب في القصة خارج عن الصحة لما ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما .
أن رسول الله دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قائلين أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فنزل : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء "
فهذا يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك بلا شك " .
الرد على من قال بعدم كفر أبو إبراهيم عليه السلام :
قال : " ثم اعلم أن ما اختاره الفخر الرازي وتبعه السيوطي في أن أبا إبراهيم عليه السلام لم يكن كافرا فساد عظيم في الدين وتشكيك لعقيدة أرباب اليقين وإن كان كل واحد منهما يدعي أنه من المجددين بل يصح أن يقال إنهما من المحدثين لما ورد : " أنه من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " من بين المجتهدين
وبيانه : أن المسلمين من أهل الشرق والغرب أجمعين يقرؤون القرآن العظيم ويتلون الفرقان الكريم فإذا رأوا فيه نصا على انتساب الكفر إلى أبي إبراهيم عليه التحية والتسليم ، فهم يؤمنون ويعتقدون ذلك حيث لم يكن صارف عن حمله على الحقيقة هنالك ولا يدرون أن إخباريا يهوديا أو نصرانيا ذكر أن المراد بأبيه عمه قاصدا بذلك الطعن في دين النبي وكتاب ربه
فهل يحكم ببطلان هذا القول الذي هو مخالف لظاهر الكتاب ومعارض لما قدمناه في هذا الباب أو يحكم بفساد اعتقاد جميع المسلمين من أهل البر والبحر أجمعين إلا من اعتقد اعتقاد الرازي والسيوطي مع أنهما قبل وصول هذا القول الباطل إليهما لم يكونا شاكين في أن أبا إبراهيم عليه السلام ما كان على الدين القويم والطريق المستقيم فلما حققا ذلك وصنفا بيان ما هنالك رجعا عن اعتقادهما الباطل على زعمهما إلى الاعتقاد الحق عندهما حتى قلدهما ابن حجر المكي وبالغ حتى قال
وهذا هو الحق " فماذا بعد الحق إلا الضلال " . والله سبحانه يصلح الأحوال ...... " .
الرد على من قال أن هذه المسألة ليست من الاعتقادات :
قال ابن الكمال : وبالجملة : هذه المسألة ليست من الاعتقادات فلا حظر للقلب منها ، أما اللسان فحقه أن يصان عما يتبادر منه النقصان خصوصا إلى وهم العامة ، لأنهم لا يقدرون على دفعه وتداركه .
قلت : " أي ملا على القاري " : " ما ثبت بالكتاب والسنة يجب اعتقاده مجملاً أو" 1"" مفصلا نعم لو لم يخطر ببال مؤمن هذا المبحث لا نفيا ولا إثباتا لا يضره ككثير من المسائل المذكورة في كتب العقائد المسطورة .
ثم هذه المسألة لو لم تكن في الجملة من المسائل الاعتقادية لما ذكرها الإمام المعظم المعتبر في ختم فقه الأكبر وكان هذا من علامة ولايته رضي الله عنه حيث كوشف له هذا المعنى أن يقع الاختلاف في هذا المبنى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1" مسألة : تكفير المشركين يكون إجمالا وتفصيلا
لا ريب أنه يجب على كل مسلم مكلف أن يُكفر المشركين ، وأن يَكفَر بمعبوداتهم الباطلة ، وأن يتبرأ منهم ويبغضهم ويعاديهم ، كل ذلك على وجه الإجمال ،
فيعتقد المسلم أن كل من دان بغير دين الإسلام فهو كافر أينما كان وأينما حلّ وفى أى زمان كان ، قريبا كان هذا المشرك أو بعيدا ، فيحمل له المسلم فى قلبه البراءة الكاملة ، والبغضاء والعداوة الشاملة ، فهذا يجعل المسلم محققا لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله " إجمالا ، وهذا معنى ما جاء فى آية سورة الممتحنة 0
أما تفصيلا : فيجب على كل مسلم مكلف متى ثبت له على وجه اليقين أن طائفة معينة ، أو شخصا بعينه ثبت كفره ، فهذا يجب تكفيره بعينه ، ومناصبته العداوة والبراءة منه 0
فمثلا : المسلم يكفر اليهود والنصارى والمشركين ، والطوائف المرتدة مطلقا أو عموما أو إجمالا ، كل ذلك على التعيين بلا شك ، ولكن قد يعيش بيننا أو بعيدا عنا كثير من هؤلاء المشركين ، ونحن لا نعرفهم ، ولا نعرف حقيقتهم ، فهؤلاء يكون تكفيرهم عاما مجملا
أما إذا ثبت أن هذا الشخص يهودى أو نصرانى أو مشرك أو مرتد ـ وجب تكفيره على التعيين ، أو تفصيلا ، والقيام معه بلوازم ذلك من البراءة منه وبغضه ومعاداته
وهذه المسألة لا لبس فيها لظهورها ووضوحها ، وإنما يقع اللبس فى بعض الطوائف ، أو الأشخاص الذين يحكم بردتهم ، ولا يستفيض العلم بذلك ، أو لا يشتهر عنهم ذلك ، أو مع وجود من يدافع عنهم ويتأول لهم ويأخذ لهم المعاذير
والمسألة تحتاج إلى ضرب أمثلة :
المثال الأول : تكفير ابن عربى الزنديق ، صاحب نظرية الحلول والإتحاد ،
فالعلماء يقولون بكفره لما ثبت عنه من مقالات كفرية ، واعتقادات باطلة وفاسدة ، وهذه الأقوال ثلبتة عنه فى كتبه مثل " فصوص الحكم "أو " الفتوحات المكية "
ولكن هناك من العلماء من لم يكفر ابن عربى من أمثال الإمام الألوسى كما فى تفسيره ، وكذلك العلامة جمال الدين القاسمى فى تفسيره ، فى تفسير سورة يونس ، فقد دافع عنه دفاعا كبيرا ،
فمن هؤلاء من يعتذر عن ابن عربى بأن هذه المقالات مكذوبة عليه ، أو ليست من كلامه ،ومنهم من يتأولها على غير ظاهرها ، وهناك ما هو أكثر من ذلك : وهو أن جمهور الناس لا يعرف شيئا عن ابن عربى مطلقا ،
وعلى كل : فمتى ثبت صحة الكلام الكفرى المنقول عن ابن عربى ، عن طريق العدول من أهل العلم ، وهو ثابت ، فلا شك فى كفره ، بل لا شك فى كفر من لا يكفره ،
وهذا الحكم يجرى على كل من كان حاله مثل حال ابن عربى ، وغيره ، من أمثال : الحلاج ، وابن الفارض ، وغبرهم
فإن هؤلاء كفرهم شر من كفر اليهود والنصارى ، وإن كنا لا نشك فى كفر اليهود والنصارى ، فكيف نشك فى كفر هؤلاء وأمثالهم
أما أكثر الناس الذين لا يعرفون من هو ابن عربى ، ولم يسمعوا عن أقواله ، فلا شئ عليهم ، لأنهم يكفرون به فى الجملة، أما إذا وقفوا على حقيقة أمره فلا يسعهم إلا اعتقاد كفره وردته عن دين الإسلام تعيينا 0
المثال الثانى : يخص بعض المرتدين المعاصرين ، وما أكثرهم فى هذا الزمان ، إنه المرتد " نصر أبو زيد" فهذا الرجل لا شك فى كفره وردته لمل صدر عنه من الطعن فى الإسلام ، وفى أحكامه ، وفى شريعة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن الغريب أن مع تكفير العلماء له ، كذلت حكمت بكفره وردته بعض المحاكم المصرية ، وذلك لشناعة كفره ، وعظيم ردته عن الإسلام ، وهذا عادة لا يحدث فى المحاكم المصرية ، ولكنها على ما يبدوا لم تجد له أدنى مخرجا، ، أو لم تجد له عذر مقبول لترفع عنه هذا الحكم ، وقد نُشرهذا الحكم فى الصحف اليومية ،
وبناء على ذلك : فمن وصله حال هذا الرجل وأمثاله ووقف على حقيقة أمره ، مع تكفير العلماء له ، فمن لم يكفره بعد ذلك كان كافرا، وأما من لم بسمع عنه ، وعن أقواله ، فلا شئ عليه ، فليس كل من يرتد فى هذا الزمان أو فى غيره ، يكون معلوما ، فهذا أمر لا يمكن حصره ، فيكفى إذن التكفير الإجمالى لكل من دان بغير الإسلام ، أو ارتد بعد الإسلام ، أما التكفير التفصيلى التعيينى فمتى وقفنا عليه قمنا به ، ونسأل الله السلامة
"ثم لا عبرة بالعوام فهم كالأنعام في عقائدهم الفاسدة وتأويلاتهم الكاسدة وإنما المراد على كلام الخواص من العلماء الأعلام الذين هم قدوة أهل الإسلام ) . اهـ باختصار عقيدة الموحدين ص454 ـ 459
خلاصة الضابط الأول من ضوابط هذه القاعدة :
1- أن الكافر المقطوع بكفره من الكفار الأصليين يهوداً كانوا أو نصارى أو مجوس , وكل من دان بغير دين الإسلام , يكفر من لم يكفرهم , بل يكفر كل من وقف أو شك في كفرهم , وكذلك من صحح مذهبهم .
2- أن تكفير الكافرين إجمالاً وتفصيلاً .
فالإجمال : تكفير كل من دانبغير دين الإسلام على سبيل الإجمال , أو في الجملة , فهذا يجب على كل مسلم مكلف , ولا يتحقق إسلامه إلا بذلك .
أما التفصيل : فكل من ثبت كفره وعلمناه بعينه , فيجب تكفيره على وجه الخصوص والتعيين , والقيام معه بلوازم ذلك .
3- من لم يكفر بعض المشركين لشبهة قوية عنده , أو لتأويل صحيح أو قريب من الصحة , فهذا يكون معذوراً بتأويله ولا يكفر .
وضربنا المثال على ذلك بما وقع من الإمام السيوطي وغيره باعتقاده في إسلام أبوي النبي e , نسأل الله تعالى أن يرحم علماء المسلمين .
الضابط الثاني من ضوابط هذه القاعدة :
هذه القاعدة ( من لم يكفر الكافرين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر ) تنطبق أيضاً على من أجمع العلماء على ردته , وهذه الردة قد تكون جماعية أو فردية , فالجماعية مثل ارتداد بعض الطوائف عن الإسلام مع إجماع العلماء على ردتهم وكفرهم .
مثال : الذين ارتدوا بعد وفاة الرسول e .
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة t : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب , قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل , فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه , فقال عمر بن الخطاب : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال قال فعرفت أنه الحق ) .
قال الإمام أبو العباس القرطبي في شرح صحيح مسلم :
( وقوله : وكفر من كفر من العرب , قال ابن اسحاق : لما قبض رسول الله e ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد , مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد الأقصى , وقال القاضي أبو الفضل عياض : كان أهل الردة ثلاثة أصناف : فصنف كفر بعد إسلامه وعاد كجاهليته واتبع مسيلمة والعنسي وصدق بها , وصنف أقر بالإسلام إلا الزكاة , وقالوا : إن أخذ الصدقة من قبل الحاكم خاص بالنبي e لقوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " , وصنف اعترف بوجوبها ولكن امتنع من دفعها إلى أبي بكر , فقال : إنما كان قبضها للنبي e خاصة لا لغيره وفرقوا صدقاتهم بأيديهم , فرأى أبو بكر والصحابة قتال جميعهم , وأما الصنفان الأولان ـ لردتهما ـ والثالث لا متناعهم .
قال المؤلف – رحمه الله - : وهذا الصنف الثالث هم الذين أشكل أمرهم على ( عمر ) فباحث ( أبو بكر ) في ذلك حتى ظهر الذي كان ظاهراً لأبي بكر فوافقه على ذلك – إلى أن قال – ثم إن أبا بكر قاتل جميع المرتدين وسبى ذراريهم .
قال القاضي : وحكم فيهم بحكم الناقضين للعهد , فلما توفى أبو بكر وولى عمر رد عليهم سبيهم وحكم فيهم بحكم المرتدين , وكان أبو بكر يرى في أولاد المرتدين , وبذلك قال أصبغ بن الفرج من أصحابنا , وكان عمر يرى أنهم لا يسبون , ولذلك رد سبيهم وبهذا قال جمهور العلماء وأئمة الفتوى .
ثم قال القرطبي بعد كلام طويل : لكن الواقع أن الإجماع لم ينعقد على سبي ذراري المرتدين والذي فعله أبو بكر إنما فعله اجتهاداً منه أنهم كفرة , وأما عمر فاعتبر أن أولاهم كانوا مسلمين كآبائهم , فلما ارتد آباؤهم لا يحكم بكفر الصغار لأنهم لا يواخذون حتى يبلغوا ) . اهـ ( المفهم بشرح صحيح مسلم – جـ1ص132 ـ 133 ) .
يؤخذ من ذلك : أن الناس بعد وفاة الرسول e ارتدوا ردة جماعية , ووقع الإجماع على ذلك , وإنما وقع الخلاف في سبي ذراري المرتدين .
توضيح وبيان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب :
ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – قصة أهل الردة في عهد الصديق t مع بيان أصناف المرتدين وهي :
قال رحمه الله تعالى : ( تأمل رحمك الله ستة مواضع من السيرة وافهمها فهماً حسناً لعل الله أن يفهمك دين الأنبياء لتتبعه , ودين المشركين لتتركه , فإن أكثر من يدعي الدين , ويدعي أنه من الموحدين لا يفهم السنة كما ينبغي ......
الموضع السادس : قصة الردة بعد موت النبي e , فمن سمعها ثم بقى في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين الذين يسمون العلماء , هي قولهم هذا هو الشرك لكن يقولون ( لا إله إلا الله ) ومن قالها لا يكفر بشيء , وأعظم من ذلك تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة ولكن يقولون ( لا إله إلا الله )" ", وهم بهذه اللفظة في الإسلام , وحرم الإسلام مالهم ودمهم مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله , ومع علمهم بإنكار البعث , واستهزائهم بمن أقر به , واستهزائهم وتفضيلهم دين آبائهم مخالفاً لدين النبي e , ومع هذا كله يصرح هؤلاء الشياطين المردة الجهلة أن البدو أسلموا ولو جرى منهم ذلك كله , لأنهم يقولونها . وأيضاً : كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة , أعني : البوادي المتصفين بما ذكرنا .
والذي يبين ذلك من قصة الردة – أن المرتدين افترقوا في ردتهم :
1- فمنهم من كذب النبي e , ورجعوا إلى عبادة الأوثان , وقالوا : لو كان نبياً ما مات .
2- ومنهم من ثبت على الشهادتين , ولكن أقر بنبوة مسيلمة ظناً أن النبي e أشركه في النبوة , لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا بذلك فصدقهم كثير من الناس . ومع هذا أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك , ومن شك في ردتهم فهو كافر .......
3- ومنهم من أقر بالشهادتين , وصدق طليحة في دعواه النبوة .
1- ومنهم من صدق العنسي صاحب صنعاء , كل هؤلاء – أجمع العلماء أنهم سواء "" 2- ومنهم من كذب النبي e ورجع إلى عبادة الأوثان على حال واحدة ......
ومنهم أنواع : أخرهم الفجاءة السلمي لما وفد على أبي بكر وذكر له أنه يريد قتال المرتدين , ويطلب من أبي بكر أن يمده , فأعطاه سلاحاً , ورواحل , فاستعرض السلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم , فجهز أبو بكر جيشاً لقتاله , فلما أحس بالجيش , قال لأميرهم : أنت أمير أبي بكر , وأنا أميره ولم أكفر , فقال : إن كنت صادقاً فألق السلاح , فألقاه , فيعث به إلى أبي بكر فأمر يتحريقه بالنار وهو حي .
فإذا كان هذا حكم الصحابة في هذا الرجل مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة , فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة ؟ إلا أن يقول ( لا إله إلا الله ) بلسانه مع تصريحه بتكذيب معناها , وتصريحه بالبراءة من دين محمد e , ومن كتاب الله , ويقولون : هذا دين الحضر وديننا دين آبائنا , ثم يفتون هؤلاء المردة الجهال أن هؤلاء مسلمون ولو صرحوا بذلك كله إذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) سبحانك هذا بهتان عظيم ) . اهـ ( مجموعة التوحيد ص211 ـ 212)
ومن المعلوم أن الردة الجماعية لبعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام وقعت كثيراً على مدار التاريخ , وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم , وأغنى عن إعادته في هذا الموضوع .
فالمقصود أن الردة عياذاً بالله منها , إذا وقعت لطائفة معينة , وأجمع العلماء على ردتهم , وجب تكفيرهم , ومن لم يفعل أو شك في كفرهم كان كافراً , وهذا الحكم أيضاً على الردة الفردية , فمتى عُلم عن إنسان بعينه أنه ارتد وأجمع العلماء على ردته , وجب تكفيره , ومن لم يفعل ذلك , أو شك في كفره كان كافراً .
فصـــــــــــــــل
من المعلوم أن الردة عن الإسلام قد تكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد أو بالشك ونحو ذلك .
وقد تحدث العلماء – رحمهم الله – عن ذلك بالتفصيل في الحديث عن نواقض الإسلام , سواء في كتب الاعتقاد , أو في كتب الفقه - في باب حكم المرتد .
ونحن نذكر بصورة مختصرة في هذا الموضوع بعض ما قاله الإمام القاضي عياض – رحمه الله – في كتابه العظيم ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى – جـ 2 ص121 ـ 122) :
قال : ( " فصل " في بيان ما هو من المقالات كفر ، و ما يتوقف أو يختلف فيه ، و ما ليس بكفر:
اعلم أن تحقيق هذا الفصل و كشف اللبس فيه مورده الشرع ، ولا مجال فيه للعقل""، و الفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله ـ فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، و سائر فرق أصحاب الإثنين من الديصانية أو المانوية ...... قلت : أما أصحاب الاثنين : هم الذين يتخذون إلهين قائلين : هذا إله الظلمة , وهذا إله النور , ومن هؤلاء من يسمون بالديصانية , وهي طائفة منسوبة إلى رجل مجوسي إسمه ديصان , كان يقول للنور إله وللظلمة إله , وللخير إله , وللشر إله .
وأما المانوية : طائفة منسوبة إلى رجل اسمه ماني , كان في بلاد فارس , وله مقولة هي : أن خالق العالم اثنان , أحدهما : النور , وهو الذي خلق الخير , والثاني : الظلام وهو الذي الذي خلق الشر ) . اهـ
ثم قال القاضي عياض – رحمه الله - : ( وأشباههم من الصابئين و النصارى و المجوس ، و الذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة ، أو الشياطين ، أو الشمس ، أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب ، و أهل الهند و الصين و السودان و غيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب , و كذلك القرامطة و أصحاب الحلول و التناسخ من الباطنية و الطيارة من الرافضة , .
و كذلك من اعترف بإلالهية الله و وحدانيته ، و لكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، و أنه محدث أو مصور ، أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه ، أو مدبراً غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين .
ثم قال – رحمه الله : كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين و الطبائعيين . و كذلك من ادعى مجالسة الله ، و العروج إليه ، و مكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة والباطنية ، و النصارى ، والقرامطة .
وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح و انتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، وتعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها و خبثها
.و كذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية ، ولكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، ومعظم اليهود والأروسية من النصارى ، والغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، وكالمعطلة و القرامطة والإسماعيلية والعنبرية من الرافضة ، وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .
و كذلك من دان بالوحدانية و صحة النبوة ، و نبوة نبينا- صلى الله عليه و سلم ، و لكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة ـ بزعمه ـ أو لم يدعها فهو كافر بإجماع ، كالمتفلسفين ، وبعض الباطنية ، والروافض ، وغلاة المتصوفة ، وأصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع ، وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان و يكون من أمور الآخرة و الحشر و القيامة ، و الجنة و النار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها و مفهوم خطابها ، و إنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع ، و تعطيل الأوامر و النواهي ، و تكذيب الرسل ، و الارتياب فيما أتوا به .
و كذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه و سلم تعمد الكذب فيما بلغه و أخبر به ، أو شك في صدقه ، أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ ، أو استخف به ، أو بأحد من الأنبياء ، أو أزرى عليهم ، أو آذاهم ، أو قتل نبياً ، أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .
و كذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيراً أو نبياً من القردة و الخنازير و الدواب و الدود . و يحتج بقوله تعالى :" وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . و فيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه ، وتكذيب قائله .
وكذلك من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، و بنبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، و ليس الذي كان بمكة و الحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به .
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، و كالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة "علي" في الرسالة للنبي صلى الله عليه و سلم و بعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة و الحجة .
إلى أن قال : و لهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم ، أو شك ، أو صحح مذهبهم ، و إن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده ، واعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .
و كذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة و تكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم ، إذ لم تقدم علياً . و كفرت علياً ، إذ لم يتقدم و يطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها و نقل القرآن ، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، و إلى هذا ـ و الله أعلم ـ أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة .
ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي - صلى الله عليه و سلم - على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه و هو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، و صلى الله على رسوله و آله .
و كذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدرإلا من كافر و إن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم ، و للشمس و القمر ، و الصليب و النار ، و السعي إلى الكنائس و البيع مع أهلها بزيهم : من شد الزنانير ، و فحص الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا [ الفعل ] لا يوجد إلا من كافر ، و أن هذه الأفعال علامة على الكفر و إن صرح فاعلها بالإسلام .
قلت : ( قال أهل العلم أن هذه الأفعال التي ذكرها القاضي عياض – رحمه الله – هي الكفر ذاته , وليست مجرد علامة على الكفر ) . اهـ
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة .
و كذلك نقطع بتكفير كل من كذب و أنكر قاعدة من قواعد الشرع ، و ما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول ، ووقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها و سجداتها ، و يقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة ، و كونها خمساً ، وعلى هذه الصفات و الشروط لا أعلمه ، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي ، و الخبر به عن الرسول صلى الله عليه و سلم خبر و احد .
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، وعلى تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم .
و قول بعض المتصوفة : إن العبادة و طول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها وإباحة كل شيء لهم ، ورفع عهد الشرائع منهم .
إلى أن قال : وكذلك من أنكر القرآن ، أو حرفاً منه ، أو غير شيئاً منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية والإسماعيلية ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي - صلى الله عليه و سلم - ، أو ليس فيه حجة و لا معجزة ، كقول هشام الفوطي ، و معمر الصيمري : إنه لا يدل على الله ، و لا حجة فيه لرسوله ، و لا يدل على ثواب و لا عقاب ، و لا حكم ، و لا محالة في كفرهما بذلك القول .
و كذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه و سلم حجة له ، أو في خلق السموات و الأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع و النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم باحتجاجه بهذا كله و تصريح القرآن به .
و كذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن ـ بعد علمه ـ أنه من القرآن الذي في أيدي الناس و مصاحف المسلمين ، و لم يكن جاهلاً به ، و لا قريب عهد بالإسلام ، و احتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ، و لا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذب [ للقرآن ، مكذب ] للنبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه تستر بدعواه .
و كذلك من أنكر الجنة أو النار ، أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، و إجماع الأمة على صحة نقله متواتراً ، و كذلك من اعتراف بذلك ، و لكنه قال : إن المراد بالجنة و النار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى غير ظاهره , وأنها لذات روحانية ومعان باطنة , كقول النصارى والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة , وزعم أن معنى القيامة الموت , أو فناء محض , وانتقاض هيئة الأفلاك , وتحليل العالم كقول بعض الفلاسفة ) . اهـ ( الشفا جـ2 ص 371 : 373 ) .
وكل ما ذكرناه في هذا الفصل مما أجمع العلماء على أنه كفر صريح مخرج من الملة , وهذا لا يعني أن كل من تلبس بشئ من هذه المكفرات يكون كافرا، بل لابد من التفصيل في شأن الشخص المعين , وفي شأن المكفرات من حيث الظهور والخفاء , فمن ثبت كفره بمكفر أجمع عليه العلماء فهو كافر , ويكفر من لم يكفره أو شك في كفره , وبالتالي تنطبق عليه هذه القاعدة التي نحن بصدد ذكر ضوابطها .
الضابط الثالث من ضوابط هذه القاعدة :
هذه القاعدة ( من لم يكفر الكافرين أو شك في كفرهم , أو صحح مذهبهم كفر ) , لا تنطبق على من اختلف العلماء في كفره , والأصل في ذلك قوله تعالى : ) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً""( . [ النساء : 88 ] . قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – عند تفسير هذه الآية :
( يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين: واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد: عن زيد بن ثابت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه , فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم, وفرقة تقول: لا, هم المؤمنون, فأنزل الله [ فما لكم في المنافقين فئتين ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ) . اهـ - جـ 2 ص154.
والشاهد من الآية : وما جاء في سبب نزولها : اختلاف الصحابة – رضي الله عنهم – في بعض المنافقين على قولين , فمنهم من يقول بنفاقهم وقتلهم , والفريق الآخر يقول : بعدم نفاقهم وعدم قتلهم , فنزل القرآن الكريم وحسم القضية بتصويب رأي الفريق القائل بنفاقهم وجواز قتلهم .
ولم يُكفر هذا الفريق الآخر لحكمهم للمنافقين بالإسلام , وبالتالي فإن هذه القاعدة ( من لم يكفر الكافرين ) لا تنطبق على من كان على مثل هذه الحالة من اختلاف العلماء في كفر البعض ,
ولا زال العلماء قديماً وحديثاً , سلفاً وخلفاً , يختلفون في تكفير الطوائف , أو في تكفير بعض الأشخاص , ولم نسمع قط أن الذي كفر طائفة من الطوائف مثلاً يقول بتكفير من لم يكفرها بناء على مثل هذه القاعدة .
وقد ذكرنا قبل ذلك طرفاً من الأشياء التي وقع فيها اختلاف بين العلماء , فمنهم من يقول بالكفر ومنهم من لا يرى ذلك , مثل اختلافهم في تكفير بعض الفرق والطوائف , ومثل اختلافهم في كفر تارك أحد مباني الإسلام – إلى غير ذلك .
ونزيد الأمر وضوحاً بضرب الأمثلة :
المثال الأول : حكم جاهل بعض الصفات :
قال القاضي عياض – رحمه الله- في كتابه ( الشفا – جـ 2 ص211ـ 213) :
( فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ها هنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري و غيره ، و قال به أبو الحسن الأشعري مرة .
و ذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن إسم الإيمان ، و إليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ، ويراه ديناً وشرعاً وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .
واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما طلب منها التوحيد لا غير, وبحديث القائل : لئن قدر الله عليّ ـ وفي رواية فيه : لعلي أضل الله
. ثم قال : فغفر الله له"". قالوا : ولو بُوحث أكثر الناس عن الصفات وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .
وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها"": 1- أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه ، بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، و لعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفراً , فأما ما لم يرد شرع فهو من مجوزات العقول .
2- أو يكون قدر بمعنى : ضيق ، و يكون ما فعله بنفسه إزراء عليها و غضباً لعصيانها .
3- و قيل : قال ما قاله و هو غير عاقل لكلامه و لا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به .
4- وقيل : كان هذا في زمن الفترة ، و حيث ينفع مجرد التوحيد.
5- قيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، و معناه التحقيق ، و هو يسمى تجاهل العارف ، و له أمثلة في كلامهم ، كقوله تعالى : ( لعله يتذكر أو يخشى ). و قوله : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سورة سبأ / 34 ] .
فأما من أثبت الوصف و نفى الصفة فقال : أقول عالم و لكن لا علم له ، و متكلم و لكن لا كلام له ،و هكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، و يسوقه إليه مذهبه ـ كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قوله لهم . و هكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة والقدرية وغيرهم .
و من لم ير أخذهم بمآل قولهم ، و لا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، و نحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه .
فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، و إذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك .
والصواب : ترك إكفارهم والإعراض عن الختم عليهم بالخسران و إجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم ووراثاتهم ، و مناكحاتهم ، و دياتهم ، و الصلاة عليهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و سائر معاملاتهم ، لكنهم يغلط عليهم بوجيع الأدب ، و شديد الزجر و الهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .
و هذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة و بعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأى الخوارج و الاعتزال ، فما أزاحو لهم قبراً ، و لا قطعوا لأحد منهم ميراثاً ، لكنهم هجروهم و أدبوهم بالضرب و النفي و القتل على قدر أحوالهم ، لأنهم فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين و أهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم ، خلافاً لمن رأى غير ذلك . و الله الموفق للصواب .
قال القاضي أبو بكر و أما مسائل الوعد و الوعيد ، والرؤية والمخلوق ، وخلق الأفعال ، و بقاء الأعراض ، و التولد و شبهها من الدقائق ـ فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله تعالى ، و لا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئاً منها جهل بالله تعالى، ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئا منها ،
و قد قدمنا في الفصل قبله من الكلام و صورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى) . اهـ ( الشفا للقاضي عياض – جـ 2 ) .
المثال الثاني : اختلاف العلماء فيمن كَفَّرَ مسلماً :
نذكر الأحاديث الواردة في ذلك , ثم نذكر ثانياً تأويل أهل العلم لهذه الأحاديث .
أولاً : الأحاديث الواردة في ذلك بلغت حد التواتر :
1- روى مسلم عن أبي ذر t أن رسول الله e قال : ( ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) . أي : رجع .
2- روى البخاري عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال : ( إذا قال المسلم لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما ) .
3- روى البخاري ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عمر – رضي الله عنهما - أن رسول الله e قال : ( إذا قال المسلم لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما ) . والأحاديث في ذلك كثيرة
قال الإمام ابن الوزير – رحمه الله – بعد ذكر هذه الأحاديث في كتابه ( إيثار الحق على الخلق ) : ( وأما شواهد هذه الأحاديث الخمسة بغير لفظها فكثيرة متواترة منها أحاديث مروق الخوارج من الإسلام وكان دينهم الذي اختصوا به من بين الداخلين في الفتن هو تكفير بعض المسلمين بما حسبوه كفرا فوردت الأحاديث بمروقهم بذلك وتواترت وهي في دواوين الإسلام الستة عن علي – رضى الله عنه - وسهل بن سعد ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عمر ابن الخطاب ، وأبي ذر ، ورافع بن عمرو الغفاري ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وابن مسعود ،وأبي برزة الأسلمي ، وأبي أمامة .
ثم قال – رحمه الله تعالى : " فإذا ثبت أن النص على الكفر غير قاطع فما ظنك بغيره ،فلهذه الوجوه الأربعة لم يعمل الجمهور بظاهر هذه الأحاديث .
وأما من كفر أخاه متعمدا غير متأول فاختلفوا فيه وأشارمن تقدم إلي كفره ،
ووجهه الغزالي : بأنه لما كان معتقد لإسلام أخيه كان قوله إنه كافر قولا بأن الذي هو عليه كفر والذي هو عليه كفر دين الإسلام فكأنه قال: إن دين الإسلام كفر وهذا القول كفر من قائله وإن لم يعتقد ذلك ،
على أن أبا هاشم وأصحابه من المعتزلة لا يكفرون من تعمد النطق بالكفر من غير إكراه عليه وإن كانا يفترقان في الإثم كما تقدم، وهذا بعد كثير من التكفير في هذه الصورة فلو طردوا الاحتياط لتركوا التكفير بالقياس ومآل المذهب لكنهم كفروا بهما وهو أضعف من التكفير بتعمد النطق بالكفر اختيارا بلا إكراه
وأما النووي فقال في شرح مسلم في هذا الحديث الذي يقتضي كفر من كفر أخاه : " هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي وهذا منها فقيل في تأويله وجوه :
الأول : أنه محمول على المستحل لذلك وبهذا يكفر .
الثاني : أن المعنى : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
الثالث : أنه محمول على الخوارج ورواه ابن بطال أيضا عن مالك قال : " فقيل له فيكفرون قال : لا أدري " اهـ . كلام ابن بطال .
قال النووي : وهو ضعيف لمخالفته الأكثرين والمحققين في كفر الخوارج .
الرابع : أنه قال النووي: محمول على أنه يؤول به إلي الكفر فإن المعاصي بريد الكفر واحتج عليه برواية أبي عوانة " وإلا باء بالكفر " وفي رواية فقد " وجب الكفر على أحدهما " اهـ . والظاهر أن هاتين الروايتين حجة عليه لا له .
الخامس :أن معناه فقد رجع عليه تكفيره وليس الراجع عليه حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المسلم كافرا فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام ، وهذا هو الذي ذكره ابن بطال في توجيه كلام البخاري في الفرق بين العامد والمتأول .
وترك النووي القول السادس : وهو اختيار البخاري والغزالي والفقيه حميد في تأويل الحديث بالعامد دون المتأول بهذا التوجيه المذكور .
وترك أيضا القول السابع : وهو أن الحديث على ظاهره من غير تأويل وهو الذي حكاه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة كما سلف ولا حجة قاطعة مانعة من صحته وعدم الحجة القاطعة المانعة من صحة ظاهره يوجب الاحتياط البالغ بتركه احتياطا للإسلام وتعظيما له عن المخاطرة به وتعريضه لما لا يؤمن أن يبطله ويسلب نعمته العظمى وينظم صاحبه في جمله أهل الكفر والعمى " اهـ ص423ـ 424
قال الإمام ابن الوزير – رحمه الله –في ( إيثار الحق على الخلق ص425 ـ 426) :
( " تنبيه " ذلك أن هذا الكلام في التحذير من تكفير المبتدعة الذين لم نستيقن أن بدعتهم كفر مع قبحها وفحشها وكراهتنا لها
وأما تكفير عوام المسلمين لأنهم لم يعرفوا الله تعالى بدليل قاطع على شروط أهل علم الكلام فإنه يزداد الأمر قوة في كفر من كفرهم لأن الحكم بإسلامهم معلوم ضرورة من الدين وتكفيرهم جحد ذلك وقد دل القرآن على صحة إسلامهم حيث قال تعالى : ) قَالَتِ الأََعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ""وقد تقدمت الأدلة على هذا في أول الكتاب هذا فليراجع وهذا لجلائه لا يحتاج إلى بسط) اهـ ) . المثال الثالث : اختلاف العلماء في كفر الساحر : مما لا شك فيه أن السحر محرم في الشريعة الإسلامية وذلك بالإجماع لثبوت ذلك بنص الكتاب العزيز والسنة المباركة , قال تعالى : ) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاِّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( . [ البقرة : 102 ] .
وقال جل وعلا :) وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( . [ طه : 69 ] .
وعن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : ( اجتنبوا السبع الموبقات , قالوا : يا رسول الله ما هن , قال : الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل الربا , وأكل مال اليتيم , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) . رواه البخاري ومسلم .
وعن أبي موسى t : عن النبي e قال : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن خمر , وقاطع رحم , ومصدق بالسحر ) رواه الإمام أحمد في مسنده , وقال الهيثمي في المجمع : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات .
فالسحر كبيرة من كبائر الذنوب , وإنما وقع الخلاف بين العلماء في حكم الساحر هل يكفر أم لا ؟
الخلاف في كفر الساحر :
قال الإمام ابن هبيرة : اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله ,
فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك . إلا أن من أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر , ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه فإنه يكفر , ولم ير الإطلاق , وإن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر .
وقال الشافعي رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك فان وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر , وإن كان لا يوجب الكفر , فإن اعتقد إباحته فهو كافر ) . اهـ من ( المحلى لابن حزم – جـ 13ص327 )
أمثلة من أقوال العلماء الذين يكفرون الساحر :
قال الدردير المالكي : فقول الإمام رضي الله عنه : إن تعلم السحر وتعليمه كفر , وإن لم يعمل به ظاهر في الغاية إذ تعظيم الشياطين ونسبة الكائنات إليها لا يستطيع عاقل يؤمن بالله أن يقول فيه أنه ليس بكفر ) . اهـ ( حاشية الدسوقي على الشرح الكبير – جـ 2 ص123) .
وقال الخرشي : والمشهور أن تعلم السحر كفر , وإن لم يعمل به ) . اهـ ( الخرشى على مختصر خليل – جـ 7 ص432) .
وقال ابن قدامة : ( إن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء أو إباحته وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر ) . اهـ ( المغني – جـ 8 ص612 ) .
أمثلة من أقوال العلماء الذين لا يكفرون الساحر :
قال الإمام الشافعي – رحمه الله : ( والسحر اسم جامع لمعان مختلفة فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به , فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئا , وإن كان ما يسحر به كلاما لا يكون كفراوكان غير معروف ولم يضر به أحدا نهى عنه , فإن عاد عزر, وإن كان يعمل عملا إذا عمله قتل المعمول به وقال عمدت قتله قتل به قودا , إلا أن يشاء أولياؤه أن يأخذوا ديته ) . اهـ ( الأم – جـ 1ص544 ) .
والراجح في المسألة :
والراجح في هذه المسألة التفصيل على ما ذكره أهل التحقيق من العلماء .
قال الإمام النووي – رحمه الله – في شرح صحيح مسلم جـ 7 ص215 :
( قد يكون " السحر " كفرا وقد لا يكون كفرا بل معصيته كبيرة فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر وإلا فلا ، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب ) . اهـ
وقال الإمام الشنقيطي – رحمه الله – في تفسيره أضواء البيان – جـ 4 ص468:
( التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل : فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع , ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع , كما دل عليه قوله تعالى : ) وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِللاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( [ البقرة : 102 ] ) وإن كان السحر لا يقتضى الكفر كالإستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها ، فهو حرام حرمة شديدة ، ولكنه لا يبلغ الكفر " اهـ
فائــــــــــــــــدة
السحر الذي يُعد كفراً , قد يقع قولاً باللسان , أو اعتقاداً بالقلب , أو عملاً بالجوارح .
فمثال الذي يقع باللسان : هو الذي لا يتأتى إلا عن طريق الشياطين , كأن يستغيث بهم , ويدعوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله , وينطق بكلمة الكفر من أجل رضاهم والاستمتاع بهم .
وأما مثال الذي يقع بالاعتقاد : كالذي يعتقد في نفع الشياطين وضرهم بغير إذن من الله تعالى .
ومثال الذي يقع بالفعل : مثل الذي يذبح للشياطين ونحوهم على سبيل التقرب إليهم , أو يهين ما أوجب الله تعالى تعظيمه من القرآن وغيره , أو يدعي لنفسه أو لشياطينه علم الغيب ومشاركة الله في ذلك .
وأخيراً
فإن الأمثلة كثيرة جداً في بيان ما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم في كون الساحر كفر أم لا , وقد ذكر العلماء – رحمهم الله – في باب حد المرتد من كتب الفقه طرفاً من ذلك , فقد اختلفوا في أفعال وأقوال كثيرة هل هي مكفرة أم لا ؟
وبالتالي اختلفوا فيمن تلبس بمثل هذه الأقوال أو تلك الأفعال هل يكفر أم لا ؟
وعلى كلٍ فمن قال بكفر بعض الطوائف المختلف فيها , لا يكفرون من لم يكفرها , لأن هذه القاعدة لا تنطبق على مثل هذه الحالة .
فمثلا : من قال بكفر تارك الصلاة كسلاً لا يكفر من لم يكفره , وهكذا في كل من اختلف العلماء في كفره , لا فرق في ذلك بين ما هو من الأصول أو الفروع , فإن مما لا شك فيه أن الكثير من الطوائف والفرق خالفت أهل السنة في بعض الأصول , ومع ذلك اختلف العلماء في تكفير هذه الطوائف .
فصـــــــــــل
( في ترجيح ترك إكفار أهل البدع والمتأولين )
كما سبق أن أشرنا إلى أنه قد وقع نزاع بين العلماء في تكفير بعض الطوائف , أو تكفير بعض الأشخاص , وقد اتفقوا على أنه لا يكفر من لم يكفرهم أو بعضهم , فمن قال بكفرهم لما ثبت عنده من الأدلة فلا إنكار عليه , ومن لم يكفرهم لعدم وضوح الأدلة عنده أو لأسباب أخرى فلا إنكار عليه , وهذا القول يقال في الفرق الإسلامية المنتسبة لأهل القبلة المخالفة لأهل السنة والجماعية , فقد اختلف العلماء في كفر أصحابها , وما يجري مجرى ذلك من اختلافهم في حكم تارك الصلاة كسلاً , أو الخلاف في تكفير بعض الصحابة أو بعضهم , أو كفر الساحر , إلى غير ذلك .
ولقد أفاد وأجاد في هذه المسألة العلامة ابن الوزير – رحمه الله – في كتابه القيم ( إيثار الحق على الخلق ) – ونحن نختصر كلامه حول هذه المسألة لأهمية ذلك :
قال رحمه الله : ( ومذهب السلف الصالح في ذلك هو المختار مع أمرين :
أحدهما : القطع بقبح البدعة والإنكار لها والإنكار على أهلها .
وثانيهما : عدم الإنكار على من كفر كثيرا منهم فإنا لا نقطع بعدم كفر بعضهم ممن فحشت بدعته بل نقف في ذلك ونكل علمه والحكم فيه إلى الله سبحانه وذلك لوجوه :
الوجه الأول :خوف الخطأ العظيم في ذلك فقد صح عن رسول الله بل تواتر ذلك لأهل البحث عن طرق الحديث حتى تواتر أنه كفر ،روى ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو ذر وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري خمستهم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كثرة الطرق عنهم من غير ما لحديثهم من الشواهد الجمة بألفاظ مختلفة مثل ما ورد في الخوارج والروافض .
ثم ذكر – رحمه الله – بعض الأحاديث ، وقد ذكرنا بعضها فيما سبق .
ثم قال – رحمه الله - : " وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام وتجنبه للكبائر وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدعة لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها فإن العصمة مرتفعة وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلا ولا شرعا
بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" وهي من عجائب العقوبات الربانية والمحذرات من المؤخذات الخفية " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .....
الوجه الثاني : من مرجحات ترك التكفير
أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك في هذه المسألة بالنصوصية والخصوصية وهذا من أوضح المرجحات وفي ذلك أحاديث منها حديث أنس قال رسول الله وآله : " ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل" الحديث رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن ورواه أبو يعلى من طريق أخرى وليس فيها من ضعف إلا يزيد الرقاشي العبد الصالح ضعف من قبل حفظه وقد أثنى عليه الحافظ ابن عدي ووثقه وقال عنده أحاديث صالحة عن أنس أرجو أنه لا بأس به هذا مع الثناء النبوي على عموم التابعين فأقل أحواله أن يقوي طريق أبي داود ويشهد لها .
قلت : قال الشيخ أشرف عبد المقصود في تحقيقه لمتن " لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد " لابن قدامة .
قال في تحقيق هذا الحديث : حديث ضعيف ، أخرجه أبو داود ، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان ، وإسناده ضعيف فيه يزيد بن أبي شيبة ، وهو مجهول كما في التقريب ، وضعف إسناده المنذري في مختصر سنن أبي داود لهذا السبب " اهـ .ص16
ثم ذكر ابن الوزير – رحمه الله – بعض الأحاديث الأخرى ، وهي ضعيفة – كما ذكر بعض الآثار كشواهد للأحاديث على هذا الوجه .
الوجه الثالث : أنها قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى
قال الله تعالى في خطاب أهل الإسلام خاصة "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم "
وقال تعالى "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا "وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال قد فعلت في حديثين صحيحين أحدهما عن ابن عباس والأخر عن أبي هريرة "" . وقال تعالى : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون "فقيد ذمهم بعلمهم .
..... إلى أن قال – رحمه الله - : ومن أوضحها حجة حديث الذي أوصى لإسرافه أن يحرق ثم يذري في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر حتي لا يقدر الله عليه ثم يعذبه ، ثم أدركته الرحمة لخوفه ،وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة منهم :حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة، بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر كما في جامع الأصول ومجمع الزوائد وفي حديث حذيفة : " أنه كان نباشا وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد لذلك خاف العقاب .
وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤا بذلك وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحدا منهم لقوله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل ويعضد ما تقدم بأحاديث" أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" وهي ثلاثة أحاديث صحاح ولهذا قال جماعة جلة من علماء الإسلام أنه لا يكفر المسلم بما يندر منه من ألفاظ الكفر إلا أن يعلم المتلفظ بها أنها كفر .
قال صاحب المحيط : وهو قول أبي علي الجبائي ومحمد والشافعي .
قال الشيخ مجتبى : وبه يفتى ولعل هذا الحديث الصحيح بل المتواتر حجتهم على ذلك وهذا خلاف متجه بخلاف قول البهاشمة لا يكفر وإن علم أنه كفر حتى يعتقده .
.........إلى أن قال – رحمه الله - : وقد بالغ الشيخ أبو هاشم وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية – أي : قوله تعالى : " ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر لا يكفر وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فإنه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معا واختاره الامام يحيي عليه السلام والأمير الحسين بن محمد ، وهذا كله ممنوع لأمرين :
أحدهما : معارضة قولهم بقوله تعالى "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة "فقضي بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره فلو قال مكلف مختار غير مكره بمقالة النصاري التي نص القرآن على أنها كفر ولم يعتقد صحة ما قال لم يكفروه مع أنه لعلمه يقبح قوله يجب أن يكون أعظم إثما من بعض الوجوه لقوله تعالى : " وهم يعلمون " فعكسوا وجعلوا الجاهل بذنبه كافرا والعالم الجاحد بلسانه مع علمه مسلما .
الأمر الثاني : أن حجتهم دائرة بين دلالتين ظنيتين قد اختلف فيهما في الفروع الظنية :
أحداهما : قياس العامد على المكره والقطع على أن الإكراه وصف ملغى مثل كون القائل بالثلاثة نصرانيا وهذا نازل جدا ومثله لا يقبل في الفروع الظنية .
وثانيتهما : عموم المفهوم ولكن من شرح بالكفر صدرا فإنه لا حجة لهم في منطوقها قطعا وفاقا، وفي المفهوم خلاف مشهور هل هو حجة ظنية مع الاتفاق على أنه هنا ليس بحجة قطعية ثم في إثبات عموم له خلاف ، وحجتهم هنا من عمومه أيضا وهو أضعف منه ...... إلى أن قال – رحمه الله - : " وقد أجمعت الأمة على العمل بمقتضى النصوص في الإكراه والنسيان فكذلك أخوهما وثالثهما : وهو الخطأ إن شاء الله تعالى بل هو أكثر منهما ذكرا وشواهد في الكتاب والسنة والبلوى به أشد والرخصة إنما تكون على قدر شدة البلوى .
الوجه الرابع : أن مؤاخذة المخطيء لا تخلو إما أن تكون من تكليف ما لا يطاق أو من أعظم المشاق
فإن كانت من الأول فهو لا يجوز على الله تعالى كما تقدم القول فيه مبسوطا بسطا شافيا ،وإن لم تكن منه كانت من أعظم المشاق وقد نفي الله تعالى وجود ذلك في دينه .
أما أنه قد نفى ذلك في دينه فالنصوص فيه كثيرة .
قال الله تعالى : " ما جعل عليكم في الدين من حرج " وقال : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"
وتواتر هذا المعنى في السنة وقد جمعته في مؤلف مفرد ذكرت فيه أكثر من ثلاثين آية من كتاب الله تعالى وأزيد من مائة وثمانين حديثا فلا نطول بذكره لوضوحه .
وأما أن ذلك من أعظم الحرج والمشاق فلأمرين :
الأمر الأول : أن العاقل المعظم لأمر الله تعالى المؤثر لمرضاته لو خير بين أمرين أن يكلف الصبر على القتل عند الإكراه على كلمة الكفر أو الاحتراز من الخطأ بعد تقرير أن الخطأ كفر لا يغفر ويوجب الخلود في النار لاختار الصبر على القتل لأنه يفضي به إلى الجنة وإنما هو صبر ساعة وهو لا يأمن أن يقع في الخطأ الذي يكفر به ولا يغفر له مع عدم العصمة وعدم المسامحة لأن الخطأ قد جربت كثرة وقوعه من الأذكياء والأفراد في المعارف الذين ضربت الأمثال بهم في العقل والذكاء والفهم والعلم وذلك عند تعارض الأنظار والآيات والآثار والمتشابهات والمحتملات وتخصيص أكثر العمومات حتى وقع بعض الأنبياء في شيء من ذلك مع العصمة والتأييد الرباني
هذا نوح عليه السلام ظن أن ابنه داخل في عموم أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ولم يعلم تخصيص هذا العموم ولو علمه ما سأل، وقد قيل في الوجه في ذلك أن ابنه كان منافقا
وهذا موسى عليه السلام راعه ما وقع من الخضر عليه السلام من المتشابهات حتى عيل صبره وأخلف وعده .
الأمر الثاني : أنه لم يتحقق ورود الشرع بعقوبة المخطيء بعد الرغبة في معرفة الصواب وحسن النية في تعرفه وإن لم يبلغ جميع ما يمكن البشر في علم الله تعالى ،أما مع بلوغه ذلك فلا شك في العفو عنه ،
وأما المشاق العظيمة فقد يرد الشرع بها نادرا في هذه الشريعة تخصيصا لعموم المسامحة فيما شق حيث تقتضي ذلك الحكمة كما في وجوب الصبر للقصاص في القتل وقطع الأعضاء والرجم في عقوبة الزاني وكان هذا أكثر في شرائع من قبلنا لقوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " ومنه وجوب القتل في توبة بني إسرائيل ونحو ذلك ، فثبت أن المشاق العظيمة قد تحقق ورودها في الشرائع نادرا حيث يقتضي ذلك المصلحة وأن عقاب المخطيء بعذاب النار لم يتحقق وروده في شريعة من الشرائع فثبت أنه أحق المشاق بأن يسمحه أكرم الأكرمين وخير الغافرين سبحانه وتعالى ،ولا برهان قاطع على أن المكفرين من أهل التأويل لا يسمون مخطئين ولا على خروجهم من الأدلة الدالة على العفو عن المخطئين.
الوجه الخامس :أن أخوة يوسف لما قالوا " إن أبانا لفي ضلال مبين " وقالوا " تالله إنك لفي ضلالك القديم "لم يكفروا بذلك لما كانوا باقين على شهادة أن لا إله إلا الله وأن يعقوب رسول الله ،معتقدين مع ذلك صحة نبوته ودينه وإنما جوزوا عليه مع ذلك الضلال في حب يوسف لأنه عندهم من الضلال في الرأي ومصالح الدنيا وقد قاربوا الاستهانة وعدم التوقير لولا جلالة بقائهم على الشهادتين وإيمانهم بالله تعالى ورسله فثبت أن للبقاء على ذلك أثرا عظيما فإن الأمارات لا تقاومه ،وإن الشرع ورد بتعظيم ذلك وطرح المعارض له
ولذلك عظم ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ على أسامة بن زيد قتل الكافر الذي ضربه فلما قدر عليه أسلم
وعظم على أصحابه الكلام في بعض من كانوا يعدونه من المنافقين وقال : أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ،ويصلي ؟ قالوا: بلى ولا شهادة له ولا صلاة قال : إني لم أومر أن أفتش على قلوب الناس ،وأمثال ذلك كثيرة صحيحة .
الوجه السادس :أن الخارجي الذي قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعدل يا محمد والله إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ،تكلم بكلام من أقبح الكلام وظن ظنا من أسوأ الظنون ولم يحكم النبي بكفره مع ذلك مع أنه لو كفر لوجب قتله بالردة إلا أن يتوب ولم تنقل له توبة ،
بل جاء في الحديث ما معناه: أنها تخرج من ضئضئه الخوارج، وإنما لم يكفر والله أعلم لأنه بقي على شهادة أن محمدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما جوز عليه أن يذنب كذنوب الأنبياء كما قال تعالى : " وعصى آدم ربه فغوى "
وهذا يدل على تعظيم حرمة الشهادتين مع عظم الخطأ
وكذلك لم يكفر حاطب ابن أبي بلتعة ـ رضى الله عنه ـ مع خيانته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما نزل فيه أول سورة الممتحنة وقوله تعالى : " فيه تلقون إليهم بالمودة " ، و " تسرون اليهم بالمودة " وقد قال تعالى : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ومع ذلك وصفه بالإيمان في أول السورة حيث قال "يا أيها الذين آمنوا" وإنما قلنا أنه داخل فيمن خوطب بذلك لأن العموم نص في سببه بالإجماع ولذلك أدخله الله مع المؤمنين وخاطبه بأجمل الخطاب حيث قال: " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ".
وكذلك ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل عذره " "" وذلك كله يدل على ما قاله الإمام المهدي محمد بن المطهرـ رحمه الله ـ أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي أن تحب الكافر لكفره والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضرر أو خصلة خير فيه والله أعلم .
الوجه السابع : أن الله تعالى نص على تحريم التفرق في كتابه الكريم وجاء ذلك بعبارات كثيرة في الكتاب والسنة ولا أفحش في التفرق من التوصل إلى التكفير بأدلة محتملة تمكن معارضتها بمثلها ويمكن التوصل بها إلى عدم التكفير وإلى جمع الكلمة وإنما قلنا أنه لا أفحش من ذلك في التفرق المنهي عنه لما فيه من أعظم التعادي والتنافر والتباين وقد قال رسول الله وآله في حق المحدود في الخمر مرارا حيث لعنوه بسبب ذلك : " لا تعينوا الشيطان على أخيكم أما إنه يحب الله ورسوله " ولا شك أن في التفرق ضعف الإسلام وتقليل أهله وتوهين أمره .
قال الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا(" [12]" . وقال بعدها بآية واحدة : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " .
........ إلى أن قال – رحمه الله - وقد مرّ في الوجه الأول من هذه الوجوه ما له من الشواهد المتواترة الرائعة في تحريم ذلك وأنه مقرون بالشرك في حرمان صاحبه الغفران ،وهذا أمر مجمع على تحريمه في الأصل فيجب مراعاة أسبابه ومقوياته فكلما كان أقرب إلى الاجتماع كان أرجح وكلما كان أقرب إلى التفرق وادعى إليه وإلى إثارته كان أفسد وأبطل وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية وتكثير العدد بهم وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله وتقوية أمره فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الإسلام ويحقن الدماء ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق وتجتمع عليه الكلمة وتحقق إليه الضرورة مثل كفر الزنادقة والملاحدة الذين أنكروا البعث والجزاء والجنة والنار وتأولوا الرب جل جلاله وجميع أسمائه بإمام الزمان وسموه باسم الله تعالى ،وفسروا لا إله إلا الله أي لا إمام إلا إمام الزمان في زعمهم، خذلهم الله تعالى وتلعبوا بجميع آيات كتاب الله عز وجل في تأويلها جميعا بالبواطن التي لم يدل على شيء منها دلالة ولا إمارة ولا لها في عصر السلف الصالح إشارة وكذلك من بلغ مبلغهم من غيرهم في تعفية آثار الشريعة ورد العلوم الضرورية التي نقلتها الأمة خلفها عن سلفها والله يحب الإنصاف قطعا .
الوجه الثامن :أن الخطأ لما كان منقسما إلي مغفور قطعا كالخطأ في الاجتهاديات على الصحيح وغير مغفور قطعا كالخطأ في نفي البعث والجنة والنار وتسمية الإمام بأسماء الله تعالى إلي غير ذلك .
ثم قال – رحمه الله : ومختلف فيه محتمل للإلحاق بأحد القسمين
نظرنا لأنفسنا في الإقدام على تكفير أهل التأويل من أهل القبلة وفي الوقف عنه عند الاشتباه فوجدنا الوقف عنه حينئذ مع تقبيح بدع المبتدعة لا يحتمل أن يكون كفرا ولا خطأ غير معفو عنه ،لأنه لا يدل على ذلك برهان قاطع ولا دليل ظاهر بل الأدلة واضحة في العفو حينئذ على تقدير الخطأ كما تقدم بيانه في الوجه الرابع وأما الإقدام على التكفير فعلى تقدير الخطأ فيه لا نأمن أن يكون كفرا أو خطأ غير معفو عنه كخطأ الخوارج لورود النصوص الصحيحة الكثيرة بذلك وعدم الإجماع على تأويلها كما تقدم في الوجه الأول فوجدنا الوقف حينئذ أحوط للدين والدار الآخرة حتى لو قدرنا والعياذ بالله تعالى أن الخطأ في كل واحد منهما ذنب غير مغفور لكان الخطأ في الوقف أهون من الخطأ في التكفير وفي الحديث والعقول دلائل على ذلك كثيرة ولذلك قيل :أن للشر خيارا ،ومنه قولهم: حنانيك بعض الشر أهون من بعض .
الوجه التاسع:أن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط من طريق أخرى وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره تقصير في حق من حقوق الغني الحميد العفو الواسع ،أسمح الغرماء وأرحم الرحماء وأحكم الحكماء سبحانه وتعالى، والخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عنهم .
وقد روى في ذلك من حديث أمير المؤمنين علي – رضى الله عنه - ومن حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كلاهما عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يغفره الله وهو الشرك بالله تعالى وديوان لا يتركه وهو حقوق المخلوقين وديوان لا يبالي به وهو ما بينه سبحانه وتعالى وبين عبده " .
فالتارك للتكفير إن قدرنا خطأه فإنما أخل بحق من حقوق الله تعالى وهو إجراء الأحكام عليهم وهو ههنا لم يتركه إلا لعدم شرط جوازه وهو تحقق الموجب له
وأما للكفر إن قدرنا خطأه فقد أخل بحق المخلوق المسلم بل تعدى عليه وظلمه أكبر الظلم وأفحشه فأخرجه من الإسلام وهو يشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن جميع رسله وكتبه وما جاء فيها عن الله عز وجل حق لا شك فيه ولا ريب في شيء منه على الجملة وإنما أخطأ في بعض التفاصيل وقد صرح بالتأويل فيما أخطأ فيه فإن وصف الله بوصف نقص فلاعتقاده أنه وصف كمال وإن نسب إليه قبحا فلاعتقاده أنه حسن وإن تعمد القبيح في ذلك فمحل التعمد هو القلب المحجوب عنا سرائره والحاكم فيه علام الغيوب
وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى ،وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصية، فلا يأمل المكفر أن يقع في مثل ذنبهم وهذا خطر في الدين جليل فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل
ولأجل هذا الخطر عذر المتوقف في التكفير وكان هذا هو الصحيح عند المحققين كما ذكره الفقيه " حميد " واختاره في " عمدة المسترشدين " بل كما قامت عليه الدلائل والبراهين .
الوجه العاشر :أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضى الله عنه - لم يكفر أهل الجمل وصفين ، ولم يسر فيهم السيرة في الكافرين ، مع صحة قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " . والمنافق إذا أظهر النفاق وحارب وكانت له شوكة جرت عليه أحكام الكفار بالإجماع بل قد صح أن سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر فكيف بسيد المسلمين ومولاهم الإمام بلا خلاف بينهم الواجب محبته وطاعته عليهم 0000000
ولم يكفرهم ـ رضى الله عنه ـ مع هذا وأمثاله فدل ذلك على أنه ـ رضى الله عنه ـ بعد عن التكفير لأجل المعارضات التي أشرنا إليها في حكم أهل الشهادتين، أو فيمن قام بأركان الإسلام ولجواز أن يراد كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وهذا الوجه مفارق للوجه الأول المتعلق بالخوارج لأن النزاع في كفر الخوارج ممكن أو مشهور وأما هؤلاء فلا خلاف بين أهل النقل والبصر وبالتواريخ أنه ـ رضى الله عنه ـ سار فيهم السيرة في البغاة على إمام الحق ولم يسر فيهم السيرة في أهل الكفر
ولهذا قال الإمام أبو حنيفة :أنه لولا سيرته ـ رضى الله عنه ـ في ذلك ما عرفت أحكام البغاة أو كما قال رحمه الله تعالى ،
وإنما كان فعله فيهم حجة على البعد عن التكفير لأنه تركه مع وجود النصوص الصحيحة بكفرهم ونفاقهم كما ذكرناه في الحديثين الشهيرين وشواهدهما بل كما في قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرين" وعدل إلى ترجيح معارضتهما ولا معنى للعبد عن التكفير إلا ذلك .
الوجه الحادي عشر : أنه قد يدق مراد المخالف ويخفي جدا ويحتمل الوقف فيفسر بما لم يقصده كما تقدم في هذا المختصر في اختلاف الناس في تحقيق فعل العبد إلى بضعة عشر قولا أكثرها غامضة وكما دق مذهب الأشعرية في الرؤية حتى قال الرازي: أن مرادهم أنه ينكشف لله تعالى صفة في الآخرة هي بالنسبة إليه كالرؤية بالنسبة إلى غيره ،
وقد ينقل عنه ما لم يقل لتوهم أنه لازم له وليس بلازم كما نسب تكليف ما لا يطاق إلى الأشعري، أو لازم ولكن اللازم الذي لم يقل به بل تبرأ منه ومن لزومه كالذي قاله ،
وكم يختلف أتباع العالم في كثير من مقاصده ويلزم ما لم يقصده كما يختلف في كثير من الآيات والأحاديث ،
وقد تقدم هذا في سبب الابتداع في الدين بتبديل العبارات وعليه بنيت هذا المختصر فإذا تقرر هذا فمن العجب تكفير كثير ممن لم يرسخ في العلم لكثير من العلماء وما دروا حقيقة مذاهبهم وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون .
الوجه الثاني عشر : أن في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط وذلك إسقاط العبادات عنهم إذا تابوا وإسقاط جميع حقوق المخلوقين من الأموال والدماء وغيرهما وإباحة فروج نسائهم إذا لم يتوبوا وسفك دمائهم مع قيام الاحتمال بشهادة وجود المخالفين الجلة من أئمة الملة ووجود المعارضات الراجحة الواضحة الأدلة وقد أشار إلى هذا الوجه شيخ الاعتزال المعروف بمختار في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذا الباب في كتابه " المجتبى "
قال فيه وعن بعض السلف أنه كان يكتب في الفتوى في هذا لا يكفر وغيري يخالفني
الوجه الثالث عشر: أن الخطأ في العفو خير الخطأ في العقوبة نعوذ بالله من الخطأ في الجميع ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية لكنا وجدنا الله تعالى لم يذم من أخطأ في نحو ذلك ،ألا تراه أثنى على خليله ـ عليه السلام ـ حين جادله في قوم لوط فقال : " إن إبراهيم لحليم أواه منيب "
وقال عز وجل فيه بعد حكايته استغفاره لأبيه " إن إبراهيم لأواه حليم "
وإنما كان جداله واستغفاره فيما يحتمل الجواز في شريعته لا فيما لا يجوز بالنص فإنه منزه عن ذلك ولا فيما يجوز بالنص فإنه لا يعاتب في ذلك ولا يحتاج إلى الاعتذار له فيه،
ونحو هذا من وجه آخر قوله عليه السلام :" ومن عصاني فانك غفور رحيم " وقول عيسى عليه السلام : " وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم "
وصلاة رسول الله على عبد الله بن أبي بعد نزول قوله تعالى : " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم "
وقوله في تفسيرها :إن الله خيرني ولم ينهني ولو أعلم أنه يغفر لهم إذا زدت على السبعين لزدت عليها .
وثبت أنه ـعليه الصلاة والسلام ـ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، وتواتر ذلك من أخلاقه الكريمة كما جمع في مصنف مفرد
ويشهد له بذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى : " وإنك لعلى خلق عظيم " هذا مع أنا نقف فيمن تفاحشت بدعته وقاربت الكفر ولا نواليه ولا ندعوا له بالرحمة والمغفرة إلا بشرط أن يكون من المسلمين محاذرة من أن نوالي من هو عدو لله في الباطن وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو هذا في حديث أهل الكتاب " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " حذرا من تكذيب الحق وتصديق الباطل فنعوذ بالله من موالاة أعداء الله ،
بل ننكر بدعهم وننهي عنها ما استطعنا ونكرهها ونتبرأ منها ونشهد الله تعالى أنا نعادي من عاداه علمناه أو جهلناه
فقد دل في الحديث على نفع هذا الاعتقاد الجملي ، وهو حديث زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه : " اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت " رواه أحمد والحاكم وقال حديث صحيح .
ويشهد لصحته ما تقدم عن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من الجدال عن قوم لوط والاستغفار منه لأبيه ولم يكن موالاة منه لهم ولا رضى بذنوبهم ولا ذم به بل بين الله تعالى عذره في بعض ذلك وعده من سعة حلمه في بعضه وهذا كله في حق الكافرين وأما أهل الإسلام المؤمنين الخاطئين فلا نص على تحريم ذلك فيهم فيما علمت وينبغي الاشتراط فيما شك فيه من الدعاء لبعضهم أن يكون موافقا لمراد الله تعالى في الشريعة النبوية ) اهـ . من كتاب [ إيثار الحق على الخلق ] ص498 ـ 509
تنبيه
ما ذكرناه في هذا الفصل من الإحجام عن التكفير أو التوقف فيه , متعلق بأصحاب البدع والأهواء الذين اختلف العلماء في شأنهم , ويجري مجرى ذلك من اختلف العلماء في كفره لأجل التأويل , أو الخطأ .
فمن طلب السلامة خشية الوقوع فيما لا يحمد عقباه أحجم عن التكفير , فهذا أولى وأفضل وأحوط , وإلا فمن كفرهم لما معه من الأدلة الدالة على كفرهم , فلا إنكار عليه , أما من بان كفره وظهر شركه , وكان ممن أجمع العلماء على كفره , سواء كان التكفير لطائفة , أو لأفراد , فلا يحل لمسلم أن يحجم عن تكفيرهم , بل يجب عليه القيام بهذا الواجب لحق الله تعالى , والسلامة هنا تقتضي تكفير من كفره الله ورسوله .
الخلاصة
وخلاصة هذا البحث تتلخص في الآتي :
1- أصل هذه القاعدة ( من لم يكفر الكافرين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر ) هو القرآن العظيم ، والإجماع
2- الإجماع منعقد على أن من لم يكفر المقطوع بكفرهم يكون كافراً , وهذا يدل على صحة هذه القاعدة بالإجماع .
3- هذه القاعدة ليست من وضع الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما هو مشهور , بل قال بها العلماء سلفاً وخلفاً , وقد ذكرنا بعض الأقوال .
4- بيان أساليب الرضا بالكفر , لتعلق ذلك بهذه القاعدة .
5- ضوابط القاعدة :
أ – الضابط الأول : انطباق هذه القاعدة على الكفار الأصليين المقطوع بكفرهم , فمن لم يكفرهم كان كافراَ .
ب – الضابط الثاني : انطباق هذه القاعدة على من أجمع العلماء على كفره وردته , فمن لم يكفرهم كان كافراَ .
جـ - الضابط الثالث : عدم انطباق هذه القاعدة على من اختلف العلماء على كفره .
6-فصل : في ترجيح ترك التكفير للذين اختلف العلماء في كفرهم من أهل البدع خاصة أهل التأويل والخطأ .
والحمد لله رب العالمين
أهم المراجع
1- فتح الباري شرح صحيح البخاري . ابن حجر العسقلاني .
2- شرح صحيح مسلم . النووي .
3- المفهم شرح صحيح مسلم . القرطبي .
4- إيثار الحق على الخلق . ابن الوزير اليمني .
5- مجموع فتاوى شيخ الإسلام . ابن تيمية .
6- الإيمان . ابن تيمية .
7- الإيمان الأوسط . ابن تيمية .
8- الشفا . القاضي عياض .
9- الفصل في الملل والنحل . ابن حزم .
10- عقيدة المسلمين . صالح البليهي .
11- الإيمان . محمد نعيم ياسين .
12- منهاج السنة النبوية . ابن تيمية .
13- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد . عبد الرحمن بن حسن .
14- سبيل النجاة والفكاك . حمد بن عتيق .
15- الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية . محماس الجلعود .
16- الحاوي للفتاوي . السيوطي .
17- أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول . ملا على القاري .
18- مجموعة التوحيد . ابن تيمية – محمد بن عبد الوهاب
19- كشف الشبهات . محمد بن عبد الوهاب .
20- الفرق بين الفرق . البغدادي .
21- تفسير القرآن العظيم . ابن كثير .
22- عمدة التفاسير . أحمد شاكر .
23- تفسير القرطبي . القرطبي .
24- تفسير فتح القدير . الشوكاني .
25- الأساس في التفسير . سعيد حوى .
26- تفسير السعدي . عبد الرحمن السعدي .
27- تفسير في ظلال القرآن . سيد قطب .
28- فتاوى السبكي . الإمام السبكي .
29- التفسير القيم . ابن القيم .
30- ضوابط التكفير . علي القرني .
31- القول المفيد على كتاب التوحيد . ابن عثيمين .
32- مع الأثنى عشرية في الأصول والفروع . علي السالوسي .
( وقال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟
والجواب : أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله.
قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك، ورده ابن الجوزي وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً،
وإنما قيل إن معنى قوله "لئن قدر الله علي" أي ضيق وهي كقوله " ومن قدر عليه رزقه " أي ضيق،
وأما قوله "لعلي أضل الله" فمعناه :لعلي أفوته، يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب، وهو كقوله "لا يضل ربي ولا ينسى"
ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال "أنت عبدي وأنا ربك" ويكون قوله" لئن قدر علي" بتشديد الدال أي: قدر علي أن يعذبني ليعذبني، أو على أنه كان مثبتاً للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان،
وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر) . اهـ
وذهب الإمام ابن الوزير : إلى أن هذا الحديث من أرجى الأحاديث لأهل الخطأ في التأويل :
قال رحمه الله في معنى الحديث: ( إنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد , ولذلك خاف العقاب , وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً فلا يكون كفراً , إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك وأنه ممكن مقدور , ثم كذبهم أو أحداً منهم , لقوله تعالى : ) وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( . وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل ) . اهـ من ( إيثار الحق على الخلق ص256) .
ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين - جـ 1ص176 :
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^