ابتلاء الله للمؤمنين
- سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
1-فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب , وعدل من جانب , وتربية للناس من جانب , فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره , وبما حققه فعله2- إن الإيمان أمانة الله في الأرض فهي أمانة كريمة ; وهي أمانة ثقيلة ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء3-وأنواع الفتن التي يتعرض لها هؤلاءأ-أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ; ثم لا يجد النصير الذي يسانده ب-هناك فتن كثيرة في صور شتى , ربما كانت أمر وأدهى .
منها فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه , . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ; وينادونه باسم الحب والقرابة , واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاكج- وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين , ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين , تهتف لهم الدنيا , وتصفق لهم الجماهير وهو مهمل منكر لا يحس به أحد , ولا يحامي عنه أحدد- وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدةهـ - فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة , وهي مع ذلك راقية في مجتمعها , متحضرة في حياتها و-وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض , وثقلة اللحم
فإذا طال الأمد , وأبطأ نصر الله , كانت الفتنة أشد وأقسى . . ولم يثبت إلا من عصم الله .ممن يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء , . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ; وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات , وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام , وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه , وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن . والذي يبذل من دمه وأعصابه , ومن راحته واطمئنانه , ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ; يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ; فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله( وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة , ويقع عليهم البلاء , أن يكونوا هم المختارين من الله , ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء)أما الذين يفتنون المؤمنين , ويعملون السيئات , فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين . مهما انتفخ باطلهم وانتفش , وبدا عليه الانتصار والفلاح . وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:
فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء .
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق .أما الأمر الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله , ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين:(من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت , وهو السميع العليم). .
فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ; ولتنتظر ما وعدها الله إياه , انتظار الواثق المستيقن ; ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين
والأمرالرابع : يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان , ومشاق الجهاد , بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها , وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد , وإنه لغنى عن كل أحد:
(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه , إن الله لغني عن العالمين). .
فلا يقفن أحد في وسط الطريق , وقد مضى في الجهاد شوطا ; يطلب من الله ثمن جهاده ; ويمن عليه وعلى دعوته , ويستبطئ المكافأة على ما ناله ! فإن الله لا يناله من جهاده شيء فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله , من تكفير للسيئات , وجزاء على الحسنات . وليصبروا على تكاليف الجهاد ; وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ; فالأمل المشرق والجزاء الطيب , ينتظرانهم في نهاية المطاف . ولما كانت فتنة الأهل والأحباء لها ثقلها في حياةالعبد. فصل سبحانه في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط , لا إفراط فيه ولا تفريط:إن الوالدين لأقرب الأقرباء . وإن لهما لفضلا , وإن لهما لرحما ; وإن لهما لواجبا مفروضا . ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله . وهذا هو الصراط إن الصلة في الله هي الصلة الأولى , والرابطة في الله هي العروة الوثقى . فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان
وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة , كما هم في الحقيقة ; وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر , وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا , فهي روابط عارضة لا أصيلة , لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها . ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء , ثم الادعاء العريض عند الرخاء .ذلك النموذج من الناس , يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل , هينة المؤونة ,,(فإذا أوذي في الله)بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى(جعل فتنة الناس كعذاب الله)فاستقبلها في جزع , واختلت في نفسه القيم , واهتزت في ضميره العقيدة ; وقال في نفسه:ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء , وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر , وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه .
. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي , وسوء التصوير وخطأ التقدير . ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة , وينتفش المنزوون المتخاذلون , ويستأسد الضعفاء المهزومون , فيقولون: إنا كنا معكم !
(أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ?). .وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين). .
وليكشفنهم فيعرفون ; فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون .
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: (جعل فتنة الناس كعذاب الله). .
فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات - وللطاقة البشرية حدود - ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدي الطاقة وجهد الاحتمال . . . إن الله في حس المؤمن لا يقوم له شيء , مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله . . وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء ; ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء ; ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء وهو المبدأ الإسلامي الكبير , الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره , وأفضل أوضاعه (وقال الذين كفروا للذين آمنوا:اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم . و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء . إنهم لكاذبون . وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم , وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون . ).
وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة والتبعات المشتركة ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم , فيرد كل إنسان إلى ربه فردا , يؤاخذه بعمله , لا يحمل أحد عنه شيئا:
(وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء). (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون).
ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة ; فيعلم الناس أن الله لا يحاسبهم جماعات . إنما يحاسبهم أفرادا , وأن كل امرىء بما كسب رهين . .
اجتهاد في الاختصارمن تفسير سورة العنكبوت للشهيد سيد قطب رحمه الله
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^