الأصول الثمانية للفرقة الناجية ــــالأصل الأول والثانى والثالث والرابع
الأصول الثمانية للفرقة الناجية
الأصل الأول
اعتقاد أن الشريعة الإسلامية هي دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده إلى قيام الساعة
تفصيل هذا الأصل :
1 ـ المراد بالشريعة : تطلق الشريعة في الاصطلاح على عدة معاني :
الأول :يراد بالشريعة : الدين كله الذي انزله الله تعالى على رسول من رسله ، فيدخل في ذلك : أصل الدين من الأحكام الاعتقادية ، وكذلك الأحكام العملية
قال الله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) الجاثية آية: (18)]
فالشريعة هنا المراد بها : الدين كله من الاعتقاد والعمل
الثاني :يراد بالشريعة : الشرائع العملية الخاصة بكل نبي في عصره وزمانه ، فهذه الشريعة هي التي تختلف من زمان إلى زمان ، كما قال تعالى "( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) المائدة آية: (48)]
الثالث :يراد بالشريعة : الأصول المتفق عليها في دعوة جميع الرسل من مسائل الاعتقاد وأعمال الطاعة ،
قال تعالى "( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) الشورى آية: (13)]
الرابع :يراد بالشريعة : أصل الدين ـ عند أهل السنة والجماعة ، مثل أركان الإيمان وما يتعلق بذلك من مسائل ، يدل على ذلك : مصنفات بعض السلف ، مثل كتاب " الشريعة " للإمام الآجرى ، فقد ذكر فيه عقيدة السلف
فائدة :
وإذا قلنا أن المراد بالشريعة : أصل الدين ومسائل الاعتقاد ، فهي لا يدخل عليها نسخ أو تبديل أو تغير ، فكذلك شريعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تُنسخ بشريعة بعدها ، لأنها خاتمة الشرائع ، كما أن نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم الأنبياء والرسل
2ـ المراد بكون شريعة الإسلام هي الحق :
أن هذا يعنى أن ما عداها فهو الباطل والضلال ، ومن ابتغى الهدى في غير شرع الله أضله الله وأخذاه ،
قال تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " وقال تعالى " والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير " وقال تعالى ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) الجاثية آية: (18)]
فإما إتباع شرع الله وإما إتباع الأهواء ، وكذلك الحكم : إما إتباع حكم الله وإما إتباع الهوى ،
قال تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص آية: (26)]
يؤخذ من ذلك :أن الحق محصور في كتاب الله تعالى ، لأنها منت عند الله ، أما الشرائع المنسوخة ، والوضعية لا تكون إلا باطلة فاسدة
قال تعالى ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) الأنبياء آية: (18)
3 ـ اعتقاد أن شريعة الإسلام هي شريعة الرب ـ جل وعلا ـ فيلزم من ذلك : أن الله تعالى اعلم بمصالح خلقه في الدارين ، قال تعالى ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) الملك آية: (14)
وقال تعالى ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )النحل آية: (17)
وهى كذلك شريعة أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين
قال سبحانه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) [التين آية: (8)
وقال ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) يوسف آية: (64)
وهى شريعة العليم الخبير ،
قال تعالى( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) الطلاق آية: (12
فلهذا لا ينبغي أن يكون التشريع إلا له سبحانه ـ
قال تعالى ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) يوسف آية: (40)]
يستلزم من ذلك: أن شريعة الله تعالى مبنية على مصالح العباد ، وذلك في الدارين ـ الدنيا والآخرة ـ أما المناهج الوضعية البشرية فهي بلا شك ناقصة وقاصرة ، ولا تعتبر إلا أمر الدنيا ، أما الآخرة فلا ، ومن قرأ أي دستور وضعي في أي دولة لا يجد ذكرا لأمر الآخرة على الإطلاق
قال تعالى ( إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ) الإِنسان آية: (27
وقال سبحانه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)( 6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم آية: (7)
وقال جل وعلا (بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا )(16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) الروم(17)"
وقال سبحانه( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ ) آل عمران آية: (185
فالدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء ، وهذا ما جاء مفصلا في الشريعة الإسلامية ، لأنها الشريعة الحق النازلة من عند الحق ـ جل وعلا ـ
4 ـ اعتقاد أن الخالق وحده له حق التشريع
والأدلة على ذلك كثيرة منها ، قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّلِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة آية: (31
وقوله سبحانه (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى آية: (21
فبيّن تعالى : أن من نازعه في التشريع لخلقه فقد وصفهم بالشركاء والأرباب ، ذلك أن الخالق سبحانه هو وحده له الأمر كما له الخلق
فقال تعالى ( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) الأعراف آية: (54)
وقال سبحانه ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) يوسف آية: (40
ومن هنا كان كل حكم سوى حكم الرب ـ جل وعلا ـ فهو حكم الجاهلية ،
قال تعالى أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) المائدة آية: (50)
5 ـ لا يقبل الله من العباد إلا شريعة الإسلام
والأدلة على ذلك : عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ـ وبالتالي لا تصح إلا شريعته ـ
قال تعالى قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) الأعراف آية: (158)
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) سبأ آية: (28)
وروى البخاري عن جابر ابن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة "
يؤخذ من ذلك :أن من ابتغى غير شريعة الإسلام كان خاسرا ، ولا يقبل الله تعالى منه 0
قال جل وعلا( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) آل عمران آية: (85)
وبالتالي فمن لم يقبل شريعة الإسلام ، أو لم يقبل بعضها ، فهو : كافر ، ومن أهل النار إن مات على ذلك
ثبت في صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار 0
بل إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوضح انه أُمر بقتال الناس حتى يؤمنوا به وبكل ما جاء به ـ كما في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم .... "
6 ـ شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة لا تُنسخ أبدا
ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم الأنبياء ـ وكذلك شريعته أخر الشرائع ، روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدى " وهذا يدل على أن السياسة من الدين
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده ... " رواه احمد وغيره من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ
والشاهد :أن النبي صلى الله ـ عليه وسلم ـ بعث بين يدي الساعة ، أي أنه أخر الرسل والأنبياء ، وبالتالي فشريعته هي خاتمة الشرائع 0
7 ـ شريعة الإسلام خالية من التحريف أو التبديل لأنها محفوظة 0
فالشرائع السابقة طرأ عليها تحريف وتبديل من قِبل اليهود والنصارى ، أما هذه الشريعة فمحفوظة بحفظ الله لها ،
والسبب في ذلك :أن هذه الشريعة هي حجة الله تعالى على خلقه ، فاقتضى ذلك حفظها ،
قال الله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر آية: (9)]
وكان من لوازم ذلك : أن قيّض الله تعالى لهذه الشريعة حملة يقومون بها في الناس ـ وفى ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " متفق عليه ـ من حديث معاوية ـ رضي الله عنه
قال الإمام الشاطبى ـ رحمه الله تعالى ـ في الموافقات ج1 ص58
" إن هذه الشريعة المباركة معصومة ، كما أن صاحبها ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة " اهـ
الأصل الثاني
اعتقاد كمال الشريعة
هذا الأصل مترتب على الأصل الذي قبله ، والسبب في ذلك : أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية عامة لجميع الخلق وباقية إلى يوم القيامة ، فان هذا يقتضى أن تكون هذه الشريعة مكتملة وافية بما يحتاجه الناس في حياتهم ومعادهم ، والدليل على هذا : قوله تعالى( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)المائدة آية: (3)
يؤخذ من هذه الآية : أن كمال الدين وإتمام النعمة ، من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على أمة الإسلام ، فلا يحتاجون إلى دين غير دينهم ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، وكذلك لا يحتاجون إلى شريعة بعد شريعة نبيهم
وقال الله تعالى "
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية كاملة وافية على سبيل الإجمال والتفصيل ، أو على سبيل التفصيل والتأصيل 0
وروى البخاري عن طارق ابن شهاب : قال : : " قال رجل من اليهود لعمر ـ رضي الله عنه ـ يا أمير المؤمنين لو أنّا علينا نزلت هذه الآية : (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) المائدة آية: (3)
لا تخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال عمر : إني لا أعلم أي يوم نزلت هذه الآية : نزلت يوم عرفة في يوم جمعة "
ورواه الترمذي عن ابن عباس ـ وفيه " فقال : نزلت في يوم عيدين ، يوم جمعة ، ويوم عرفة "
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ " لا تخذنا ذلك اليوم عيدا " أي : لجعلناه عيدا لنا في كل سنة لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين " اهـ فتح الباري ج1 ص105 ، ج8 ص270
وهذا دليل على أن اليهودي وقف على أهمية هذه الآية وعظم ما دلت عليه ، وما اشتملت عليه من النعم العظيمة
قال الشاطبى ـ رحمه الله ـ " قال ابن حبيب : اخبرني ابن الماجوشن أنه سمع مالكا ـ رحمه الله ـ يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليها سلفها فقد زعم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خان الرسالة ، لأن الله تعالى يقول : ( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) المائدة آية: (3
فما لم يكن يومئذ دينا ، فلا يكون اليوم دينا " اهـ الاعتصام ج2 ص18
قال الشاطبى ـ رحمه الله ـ " إن الله تعالى ـ أنزل الشريعة على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها تبيان كل شئ يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أُمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ، ولم يمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى كُمل الدين بشهادة الله ـ تعالى ـ بذلك ، حيث قال :
"( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) المائدة آية: (3)
فكل من زعم انه بقى في الدين شئ لم يكمل فقد كذّب بقوله (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) المائدة آية: (3)ـ إلى أن قال ـ ولكن المراد كليّاتها ، فلم يبقى للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بُينت غاية البيان ، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكلا إلى نظر المجتهد ، فان قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلابد من إعمالها ولا يسع تركها " اهـ الاعتصام ج2 ص304 ـ 305 ، والموفقات ج2 ص79
وروى البخاري عن مسروق عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت " من حدّثك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه ، إن الله ـ تعالى ـ
يقول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) المائدة آية: (67)
وفى رواية "من حدثك أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتم شيئا مما انزل الله عليه فقد كَذَبَ ، والله يقول : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) المائدة آية: (67)
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم "
لان هذه هي وظيفة الرسل كما قال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) النساء آية: (165)
قال الشيخ حافظ حكمي ـ رحمه الله تعالى
"وبعد هذا رسله قد أرسلا لهم وبالحق الكتاب أنزلا
لينذروه ويبشـــروهم ثم بذا العهد يذكروهم
كيلا يكون للنــاس بل لله أعلى حجة عز وجل
يستفاد من الأدلة السابقة ثلاثة أمور :
الأول :أن هذه الشريعة مكتملة وافية بما يحتاجه الخلق إلى يوم القيامة بما يصلح دنياهم وأخراهم
الثاني :أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذه الشريعة بكمالها ولم يكتم منها شئ ، يدل على ذلك علاوة على ما سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم " وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء "رواه أبو داود وهو حديث صحيح
وقول أبى ذر رضي الله عنه : لقد تركنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما"
وقيل لسلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قد علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة ـ قال : أجل "
الثالث :أن الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ما ترك خيرا إلا ودلّ الأمة عليه وما ترك شيئا إلا ونهى الأمة عنه
ما هي الأمور المترتبة على اكتمال الشريعة ؟
يترتب على هذا الأصل الثاني ، وهو اكتمال الشريعة عدة أمور
الأمر الأول : اكتمال الشريعة معناه : أنها لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ، وفى هذا إبطال لكافة أصناف البدع والمحدثات قديمها وحديثها
فهناك بعض الفرق الضالة زادت وغلت في بعض أمور الدين كالخوارج والشيعة ، وفرق أخرى تجدها نقصت وفرطت في جوانب كثيرة في الدين كالمرجئة والأشاعرة ، وهناك فرق أخرى جمعت بين الزيادة والنقصان كالمعتزلة والصوفية ، وهذا كله بسبب عدم التقييد بنصوص الوحي من الكتاب والسنة
الأمر الثاني : اكتمال الشريعة : فيه إبطال لقول من يقولون بان الحقيقة خلاف الشريعة ، فالمذاهب الباطنية وغلاة الصوفية وأهل التأويلات الذين يزعمون أنه يوجد علم الباطن وهو خلاف الظاهر ، أو حقيقة خلاف الشريعة ، فقد أبطل ذلك كله اكتمال الشريعة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " فان هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ، بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضا ، فان مضمونه : أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر والنواهي والأخبار " اهـ مجموع الفتاوى ج35 ص132
ذلك أن هؤلاء الملاحدة من الباطنية وغلاة الصوفية يذهبون إلى أن الصلاة ليست هي الركوع والسجود والقراءة بل شئ آخر ، وأن الجنة والنار ما هي إلا رموز ، وهكذا سائر الشريعة
الأمر الثالث:اكتمال الشريعة وتمامها يعنى : تنزيهها عن التناقض والتضارب
قال تعالى ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء آية: (82)
وقال جل وعلا ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز) ( لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت آية: (41) وآية: (42)
وقال تعالى (الـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود آية: (1)
مسالة :قد يقال إن هناك بعض النصوص شبه متعارضة ؟ فما هو الجواب عن ذلك ؟
النصوص التي ظاهرها التعارض يفسرها أهل العلم وذلك بتنزيل كل نص منزله ، وأما ما دون أهل العلم فيجب عليهم أن يعملوا بما علموه وظهر لهم ، وما أشكل عليهم امنوا به وردوه إلى عالمه
قال صلى الله عليه وسلم " إن القران لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، بل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه " رواه احمد والبغوى عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه للعقيدة الطحاوية
والعلماء سلفا وخلفا لهم كتب كثيرة في هذا الباب ، مثل : كتاب الإمام احمد بن حنبل : الرد على الزنادقة والجهمية ، وكتاب : تأويل مشكل القران للإمام ابن قتيبة وكتاب : درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وغيرهم من العلماء
الأمر الرابع :اكتمال الشريعة معناه : الاحاطة بجميع الأحكام
أي إنه ما من أمر إلا وللشريعة فيه حكم بالأمر أو النهى أو الإباحة ،وقد يكون حكم هذا الأمر مفصلا ، أو مندرجا تحت قاعدة كلية ، والجهل بالحكم لا يعنى عدم اكتمال الشريعة ، بل يعنى : أن الباحث عن هذا الحكم عجز عن التوصل إليه ، فينبغي عليه أن يسأل من هو أعلم منه
قال الله تعالى " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
الأمر الخامس :اكتمال الشريعة يعنى استغناؤها عما عداها من الشرائع السابقة
يستوي في ذلك الشرائع السابقة المنسوخة ، أو الأوضاع البشرية كالقوانين الوضعية ونحوها ، فمن ادعى أن المسلمين في حاجة إلى شئ من هذه القوانين لا شك في كفره ، لأنه بذلك يكون مكذبا بقوله نتعالى " اليوم أكملت لكم دينكم 00000)
ومكذبا بقوله تعالى " وما كان ربك نسيا "
وكذلك يكفر من يزعم أن المسلمين في حاجة إلى المذاهب العلمانية مثل : الديمقراطية أو الاشتراكية أو غيرها ، لتحلّ مكان الشريعة الإسلامية ، فقد عاش المسلمون ما يقرب من أربعة عشر قرنا وهو في غناء عن مثل هذه المذاهب ، فقد قامت في المسلمين خلافة النبوة ، ثم الممالك الإسلامية العظيمة ، وهى مستغنية عن هذه المذاهب الكفرية ، على الرغم من أن خلفاء وأمراء الإسلام كانوا يسوسون بلادا ممتدة من غرب الصين إلى الأندلس ، وهى تضم شعوبا شتى وأجناسا مختلفة ، ويحكمونهم بشرع الله ، ولم يقل أحد أنه لا سياسة في الدين ، أو أن أحكام الشرع لا تفي بهذه الأمور ، فمن قال هذا فقد وصف الشريعة بالنقص وعدم الاكتمال
يؤخذ من ذلك :أنه لا يجوز استبدال الأوضاع البشرية بالإسلام ، ولا يجوز خلطه بها ، كالذين يقولون : اشتراكية الإسلام ، أو ديمقراطية الإسلام ، وللأسف منهم من ينتسب إلى العلم والعلماء ، فالإسلام يعلو ولا يعلى ، ولا يخلط بغيره ،
قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) يوسف آية: (106)
فخلط الإسلام بغيره شرك بالله العظيم ، فالله جل وعلا ميّز بين الكافرين والمؤمنين بالمفاصلة الكاملة ،
قال تعالى " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قال تعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (49)
قال القاسمى ـ رحمه الله ـ عند تفسير هذه الآية :
" وان كثيرا من الناس لفاسقون" أي : لمتمردون في الكفر معتدون فيه ، وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة ، يعنى : إن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر " اهـ محاسن التأويل ج4 ص163
وإذا كان مجرد التولي عن بعض ما انزل الله يُعد من الاعتداء والتمرد في الكفر ، فما هو حال من تولى عن حكم الله وشرعه ،بل ما هو حال الذين بدّلوا وغيروا حكم الله تعالى بتشريع ما لم يأذن به الله ؟
وما هو حكم من اتخذوا بعض المناهج الأرضية الوضعية بدلا من منهج الإسلام ،
إن حكم الإسلام وشرع الله المرجعية فيه إلى الرب العليم الخبير وحده ، أما في حكم الجاهلية فالمرجعية إما أن تكون لغير الله مطلقا ، أو تكون لله ولغيره ، وهذا هو عين الشرك الأكبر
الأصل الثالث :
تحريم التقديم بين يدي الله ورسوله
ارتباط هذا الأصل بالذي قبله ـ وذلك من وجوه :
الوجه الأول :أن الأصل الثاني وهو : اعتقاد كمال الشريعة ـ دلّ على أن الشريعة وافية كافية بما يحتاج إليه الناس في كل شئ ، وبالتالي فلا مجال مطلقا للتقديم بين يدى الله ورسوله ، وهذا يتنافى مع اعتقاد أن الله تعالى أصدق قيلا ، وأصدق حديثا ،وأحسن حديثا ، وكذلك يتنافى مع علم الله وحكمته ورحمته ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً )(122) ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً )(87) ، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (23)
الوجه الثاني: ان كمال الشريعة يدل على عدم نقصها وعدم قبول الزيادة فيها لآن ذلك يتنافى مع اعتقاد كمال الشريعة ، وبالتالي فلا مجال مطلقا للتقديم بين يدى الله ورسوله ، لان من قال بنقص الشريعة فقد اتهم الله تعالى بالنسيان والجهل ، ومن قال بالزيادة فقد اتهم الله بعدم الحكمة
الوجه الثالث :أن تحريم التقديم بين يدى الله ورسوله نزل قبل كمال واكتمال الشريعة ، فتحريم ذلك أولى وأولى بعد إخبار الله بكمالها
وإذا كان الله حرّم على الصحابة الذين خُوطبوا بهذا القرآن ، وهم من أعلم الناس ، فكيف لا يحرم ذلك على من بعدهم ، ممن لا يدانيهم في علمهم ومنزلتهم
دليل هذه الأصل :
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات
وقوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا )(36)
وقوله تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(51)
وقبل ذلك أخبر الله تعالى أن المعرضين عن حكم الله ورسوله والتحاكم إليه من فعل المنافقين الظالمين
قال تعالى (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ ، اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ ، بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ )(50)
يؤخذ من ذلك : أن من قال وأعلن الإيمان بلسانه ولم يقم بمقتضيات ذلك فليس بمؤمن لقوله تعالى ( وما أولئك بالمؤمنين )وفى ذلك ردّ واضح على المرجئة قديما وحديثا ـ لان المرجئة المعاصرين يشترطون : استحلال القلب وجحوده ، والله تعالى علق الحكم في الآية على التولي ، وليس على الاستحلال أو غيره
وقوله تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون )
يدلّ على ان الإعراض عن حكم الله والتحاكم إليه دليل النفاق وعدم الإيمان ، والله تعالى علق الحكم في الآية على مجرد الإعراض ، ثم بيّن الحامل لهم على ذلك بقوله( وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ ، اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ ، بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ )(50)
قاعدة :( ألفاظ الكفر والشرك والظلم وغيرها تُحمل على إطلاقها إلا أن تأتى قرينة تصرفها عن ذلك )
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ـ رحمهم الله ـ ( ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ـ ونحو ذلك ـ من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، قد يراد مسماها المطلق وحقيقته المطلقة ، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ، والأول هو الأصل عند الأصوليين ، والثاني : لا يُحمل الكلام عليه الا بقرينة لفظية أو معنوية ، وإنما يُعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة ، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (4) اهـ الرسائل المفيدة ـ للشيخ عبد اللطيف ـ جمع الشيخ سليمان بن سحمان ص21 ، انظر : الإيمان عند السلف ج1 ص147 ،148
ما هو الدليل على ان هذا هو الأصل المتبادر إلى الذهن ؟
حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قصة خسوف الشمس ـ وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وأُريتُ النار فلم أر منظرا كاليوم قطُ وأفظع َورأيت اكثرأهلها النساء ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل : يكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثمّ رأت منك شيئا ، قالت ما رأيت منك خيرا قط )رواه البخاري
لما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالكفر هو الأكبر استفصل الصحابة عنه فبين لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ان المراد هنا هو الكفر الأصغر وليس الأكبر الذي يُخرج من الملة
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ
(في شرح حديث : " اثنتان في الناس هما بهم كفر 000 " الحديث عند مسلم
قوله " كفر " اى : هاتان الخصلتان كفر ، ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن ان يكون كافرا ، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان كالحياء والشجاعة والكرم أن يكون مؤمنا 0
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " بخلاف قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بين الرجل والشرك والكفر تركُ الصلاة " رواه مسلم
فإنه أتى بآل الدالة على الحقيقة ، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة ، بخلاف مجئ " كفر " نكرة ، فلا يدل على الخروج من الإسلام ) اهـ القول المفيد ج2 ص216 ، والتعليق على صحيح مسلم ج1 ص291ـ وكلام شيخ الإسلام في الاقتضاء ج1 ص237 ، انظر : الإيمان عند السلف ج1 ص146
قلت : يُؤخذ من ذلك :أن لفظ الكفر والشرك إذا جاء مُعرّفا فالمراد به المخرج من الملة ولا ينصرف إلى الأصغر إلا بقرينة تدل على ذلك
مثال : قوله تعالى " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُالْكَافِرُونَ "(44) فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج من الملة إلا أن تأتى قرينة تصرفه إلى الكفر الأصغر
أما قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات
قال القرطبى ـ رحمه الله ـ " قال (أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله ، وقول رسوله ، وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدنيا والدين )اهـ ج16 ص302
ذلك أن الأصل الإتباع وليس الإفتآتـ لقوله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
فهذا يقتضى أن المسلم لا يقول قولا ولا يفعل فعلا إلا بعلم من الكتاب والسنة ، ورحم الله الإمام البخاري عندما قال في كتاب العلم من صحيحه" باب العلم قبل القول والعمل ، لقوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )
فبدأ بالعلم
وقال الإمام القرطبى ـ أيضا(لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) أصل في ترك التعرض لأقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيجاب إتباعه والإقتداء به ) اهـ تفسير القرطبى ج16 ص303
أي : يحرم على المسلم ـ إن كان مسلما ـ أن يتعرض لأقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالطعن فيها ، أو بردها برأي أو عقل ، وما شابه ذلك ، كالذين يردون أحاديث قتل المرتد ، وأحاديث قتال الناس على التوحيد ، والذين يرون عدم صلاحية تطبيق الشريعة في الواقع الآن خاصة ما يتعلق بالحدود
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ
( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله 000 ) أي : لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتى ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه 00000 إلى أن قال 00000 والقول الجامع ـ في معنى الآية : " لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يفعل ) اهـ أعلام الموقعين ج1 ص51
وقال القاسمى نقلا عن ابن كثير ـ رحمهما الله تعالى
معنى الآية (لا تسرعوا في الأشياء قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب ـ حديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين بعثه إلى اليمن ـ " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله تعالى ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأى ، فضرب في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله )
والشاهد منه : أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما ، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله ) اهـ محاسن التأويل ج8 ص416ـ 417
قلت :الحديث رواه احمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، وهو مختلف في صحته ، والجمهور على صحته وقبوله كما رجحه ابن القيم في أعلام الموقعين والشنقيطى في أضواء البيان وابن كثير وغيرهم
ولا شك أن الحديث معناه صحيح حتى عند الذين قالوا بضعفه ، لأن الكتاب والسنة هما أصل الاستدلال ، ولا يقدم عليهما دليل آخر ، وكذلك مرتبة الكتاب في الاستدلال مقدمة على مرتبة السنة ، وكلاهما وحى
والآية فيها ردّ على أهل البدع من جانب ، وعلى أهل الضلال الذين يشرعون القوانين الوضعية ، ومن وافقهم على ذلك ، وعلى المطبقين لهذه القوانين
(الأمور المترتبة على تحريم التقديم بين يدي الله ورسوله )
الأمر الأول : تحريم القول على الله ، وفى دين الله بغير علم
1ـ تفصيل التحليل والتحريم في الكتاب والسنة
فمن رحمة الله ـ جل وعلا ـ بعباده ـ انه شرّع لهم التشريع الواضح البيّن الذي لا يلتبس ولا يشتبه على احد ، لماذا ؟ لأنه تشريع احكم الحاكمين ، وهو يناسب الناس أجمعين ، فمن اجل ذلك كانت أحكام الشريعة واضحة ، فكل ما يحتاجه الناس من أمر الحلال والحرام جاء واضحا مناسبا لفهم جميع المخاطبين ، قال تعالى ( يبين الله لكم أن تضلوا ) وقال سبحانه ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ) وقال جل وعلا (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس 000 ) وقال سبحانه ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم )
وقد اخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الحلال والحرام الذي يحتاج إليه جميع الناس قد جاء واضحا لا يشتبه على الناس ، لان هذا هو الذي يتناسب مع التخفيف والتيسير ، قال سبحانه ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال سبحانه ( يريد الله أن يخفف عنكم )
وفى الحديث المتفق عليه : أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال" إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس 0000 )
فقد قسم الرسولـ صلى الله عليه وسلم ـ الشريعة وأحكامها إلى ثلاثة أقسام ،
الأول :الحلال البين
الثاني :الحرام البين ،
الثالث : الأحكام التي تشتبه على أكثر الناس ،
وغالب هذه الأمور التي تشتبه على أكثر الناس لا يحتاجون إليها كحاجتهم إلى القسمين الأول والثاني ، لان المتشابه هذا لوا كان الناس في حاجة ضرورية إليه لبينه الله بيانا شافيا لكل الناس ، رفعا للحرج
ومع ذلك فقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن هذا المتشابه يعلمه أهل العلم ، فمن اشتبه عليه حكم من الأحكام ولم يكن من أهل العلم وجب عليه أن يسال أهل الذكر ،
قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )ومن اشتبه عليه كلام أهل العلم فلم يتبين له وجه الحق ، فعليه أن يأخذ بالتوجيه النبوي ( فمن اتقى الشبهات فقد إستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام )
أمثلة للحلال البيّن : قال تعالى _ (اليوم أحلت لكم الطيبات ) ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليم ) ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) ( وأحل الله البيع ) وهكذا
ويأتي لفظ الحلال بما يدل عليه من الأمر أو الندب ، أو ببيان الثواب والجزاء المترتب على الأعمال والأقوال
أما لفظ الحرام أو التحريم :
قال تعالى ( قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) ( حرمت عليكم الميتة والدم 0000 ) ( حرمت عليكم أمهاتكم 0000 ) ( قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن 000 ) ( وحرم ذلك على المؤمنين )
ومن الألفاظ التي تدل على الحرمة : النهى والكراهة ، أو من خلال بيان العقوبات المحددة والمقررة على بعض الأعمال والأقوال
2ـ خطورة القول على الله ، وفى دين الله بغير علم
أ ـ أن القول على الله بغير علم من أكبر وأعظم المحرمات
دلّ على ذلك قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
فبدأ الله تعالى بأسهل المحرمات وصولا بعد ذلك إلى أكبر وأخطر المحرمات وهو : القول على الله بغير علم
ب ـ أن القول على الله بغير علم أمنية الشيطان ـ لعنه الله ـ
فالشيطان ـ لعنه الله ـ يعمل جاهدا على تزيين ذلك للناس وأمرهم به ، لعلمه أن القول على الله بغير علم اكبر الذنوب
قال تعالى (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )(169)
قال القاسمى ـ رحمه الله تعالى ـ نقلا عن الإمام الرازي : قوله :وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل ، وتبعه القاضي ، فقال : في الآية تنبيه على تحريم إتباع ما لم يدل عليه برهان )
و" وقد حرّم عليكم "أن تقولوا على الله ما لا تعلمون " أي : تتقولوا عليه ، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم ، أو في الشرك ) اهـ محاسن التأويل ج5 ص51
ج ـ أن القول على الله ـ جل وعلا ـ يُعد افتراء على الرب ـ سبحانه ـ
دلّ على ذلك قوله تعالى ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (116)
فالتحليل والتحريم بدون إذن من الله تعالى من الافتراء الكبير على حق الربوبية ، لأنه سبحانه وحده هو الذي يحل ويحرم ، والآيات التي قبل هذه الآية تدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ )(116)
د ـ أن القول على الله ـ بغير علم ـ يؤدى إلى اتخاذ الأرباب من دون الله ،
دلّ على ذلك قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا َلا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (31)
وكأن الذين يحلون ويحرمون من عند أنفسهم في منزلة الأرباب لكونهم تشبهوا بما هو حق خالص للرب سبحانه ـ فجعلوا من أنفسهم أندادا للرب جل وعلا ، ومن اتبعهم على ذلك عالما بحالهم يكون مشركا ، لكونه صرف العبادة التي هي التحليل والتحريم لغير الله تعالى ـ دلّ على ذلك حديث عدى ابن حاتم في تفسير العبادة ، بأنها إتباع الأحبار والرهبان في تحليل الحرام وتحريم الحلال
ر ـ أن القول على الله بغير علم يؤدى إلى الفرقة والاختلاف
قال الله تعالى : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (106 )
وما حدث التفرق والاختلاف في صدر الإسلام وما يحدث الآن إنما بسبب القول على الله بغير علم ـ فالخوارج فرقوا جموع المسلمين لقولهم في الدين بغير علم ، وكذلك الشيعة والمعتزلة والمرجئة ، وغيرهم ، لما ابتعدوا عن منهج الصحابة في الفهم والاستدلال قالوا في دين الله ما ليس لهم به علم ، فترتب على ذلك التفرق والاختلاف ، وهذا ما اخبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما هو ثابت في أحاديث التفرق الذي سيقع في الأمة ، وقد وقع ما اخبر به صلى الله عليه وسلم ـ
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ووضح أن أهل الحق عند ذلك هم الذين يتمسكون بسنته وسنة الخلفاء الراشدون ( فانه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ 000 ) الحديث وهو صحيح رواه أحمد وابن ماجة
فأهل الحق جماعة واحدة ، وطائفة واحدة لكونهم اعتصموا بما يوجب الوحدة والاجتماع ( واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا ) وفى الحديث الصحيح ( ولا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم 000 ) رواه البخاري
أما أهل البدع فلا يزالون يختلفون ، ويتفرقون ، والفرقة الواحدة تصير إلى فرق متعددة ، وهكذا ، وكل هذا مرجعه إلى القول على الله بغير علم ، والقول في دين الله بغير علم 0
ز ـ أن القول على الله بغير علم دليل على عدم العقل وانتفاء الهداية
بدليل أن الله تعالى بيّن أن الذين يفترون على الله الكذب في تحليل الحرام أو تحريم الحلال لا يعقلون ، فقال تعالى
( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(103) وكان أول من غيّر وبدّل دين العرب ـ عمرو بن عامر الخزاعى ـ كما في صحيح البخاري عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال "إن أول من سيّب السيوب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته في النار يجر أمعاءه في النار "
وهذا الرجل كان سيدا مطاعا في قومه فاستحسن ما رآه في الشام من عبادة الناس لهذه الأصنام ، فجلب بعضها إلى جزيرة العرب وأمر الناس بعبادتها ، فأطاعوه ، فكفر ، وكفروا ، وان لم يقصدوا الكفر ، بل على العكس إنما أرادوا أن يتقربوا بها إلى الله فلم يكن ذلك عذرا لهم
لذلك نجد أن الله تعالى بيّن في كتابه أن الذين عبدوا هذه الأصنام تقليدا لإبائهم دون حجة وبرهان دليل على عدم هدايتهم وسفاهة عقولهم ، فقال سبحانه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )(170)
وقد بيّن الله تعالى أن المتمسكين بالباطل الذي كان عليه الآباء والأجداد مع إعراضهم عن الحق المبين إنما ذلك بسبب عدم علمهم وعلم آبائهم ،
قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَايَهْتَدُونَ) (104)
(الأمر الثاني بعض صور القول على الله بغير علم)
الصورة الأولى :تتمثل في الافتراء على الله بنسبة الولد والصاحبة له ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وهذا الباطل والافتراء العظيم وقع من طوائف أهل الكتاب والمشركين
أما أهل الكتاب : فكما حكى الله تعالى عنهم قولهم
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
وقال سبحانه مبينا غلو النصارى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(73)
تنبيه
في هذه الآيات وغيرها دليل لأهل السنة قديما وحديثا أن الكفر يكون بالقول كما يكون بالعمل والاعتقاد ، خلافا للمرجئة ومن تأثر بهم من علماء أهل السنة الذين حصروا الكفر في كفر الاعتقاد فقط ، أما القول المجرد ، والفعل المجرد لا يكون كفرا ، وإنما يدل على الكفر في الباطن ، وهذا خلاف ظاهر الآيات ، فقد قال الله تعالى في موضع أخر
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ) (74)
فلوا جاء إنسان الآن وقال " محمد ابن الله " عياذا بالله ، ثم قال : أنا لا اعتقد ذلك بقلبي ، وإنما أقوله بلساني فقط ، هل يكفر أم لا ؟ لا شك في كفره ولا دخل لنا بقلبه ، وإنما يكفر لمجرد قوله هذا ، لأنه قاله باختياره ، فكان قاصدا له
وقال المشركون بنفس مقالة أهل الكتاب في نسبة الولد والصاحبة لله جل وعلا بل زادوا عليهم كفرا أخر ، وهو أنهم نسبوا البنات لله جل وعلا
فائدة " تشابه القلوب يُوجب تشابه الأقوال والأعمال "
والسبب في ذلك واضح وهو : أن القلوب إذا تشابهت يظهر اثر ذلك على الجوارح والذي يظهر على الجوارح هو الأقوال والأعمال ، فأهل الكتاب عندهم من العلم ما ليس عند المشركين مما لا دين لهم ومع ذلك لما تشابهت قلوبهم في الكفر والشرك قال كل منهم بمقالة الأخر
قال الله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
أما قول المشركين الذين وافقوا فيه كفار أهل الكتاب حكاه الله تعالى بقوله : (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
وزاد المشركون على أهل الكتاب أنهم جعلوا الملائكة بنات الله ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
قال تعالى ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (28)
بل إن المشركين لعنهم الله قالوا أن هناك نسبا بين الله تعالى وبين الجنة
قال تعالى(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ )(159)
وقال تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ )(19)
ولقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك ، فقال (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ )(91)
وقال سبحانه ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (182)
ولقد نزّهت الجنة ربهم عن ذلك بعد إسلامهم ، فقال تعالى حكاية عنهم (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
الصورة الثانية :تتمثل في افتراء المشركين على الله بقولهم على الله بغير علم
وذلك من خلال عدة وجوه :
الوجه الأول : انه نسبوا لله أنه أمرهم بالفحشاء ـ والعياذ بالله
قال تعالى وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
والشاهد :أنهم تعللوا على فعل الفواحش بأمرين :
الأول :أنهم وجدوا آبائهم على ذلك ، وهذا ما كان يتعلل به المشركون دائما ، بل كان هذا الصارف الأول لهم عن الإيمان بالرسل ، وهو أنهم متبعون لما كان عليه الآباء والأجداد بغض النظر عن كونه حقا أم باطلا
الأمر الثاني :وهو أخطر وأقبح الأمرين : كونهم نسبوا إلى الله تعالى أنه هو الذي أمرهم بفعل الفواحش " والله امرنا بها "
فنزه الله نفسه عن ذلك بقوله " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء "
بل إنه جل وعلا ينهى عن الفحشاء ،
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(90) وقال تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (33)
وإنما الأمر بالفواحش وتحسينها للناس هو من فعل شياطين الإنس والجن ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (21)
بل إن الله تعالى أخبر أنه أعد العذاب الأليم لمن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين أمنوا وفى بلادهم
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )(19)
هذا في الذين يحبون ويتمنون ذلك وإن لم يفعلوه ، فما شأن الذين يباشرون ذلك بالقول والفعل ؟
من صور إشاعة الفاحشة في عصرنا :
1ـ انتشار التبرج والسفور والعرىفي كل مكان من بلاد المسلمين ، بحيث انك لا تعرف المسلمة من غيرها ، ولا تفرق بين المجتمع الغربي الكافر وبين المجتمع المسلم من هذه الناحية ، واقرب مثال لذلك مجتمع الجامعات ، والمدن الكبرى ، بل والصغرى أيضا ، فالمرأة المسلمة الملتزمة الآن بالزى الشرعي تجدها غريبة في وسط هذا العفن المنتشر في المجتمع
فائدة :
سمعت من بعض الدعاة يوما وهو يقول واصفا المرأة المسلمة الملتزمة في وسط هذه الجاهلية " أنت كالملاك " وهذا الوصف في الحقيقة خطير جدا ، لماذا؟ لأنه شبّه الملك بالأنثى ـ وهو قول المشركين الذي حذر الله منه ، بقوله " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا0000 "
لذلك قال العلماء : من وصف الملائكة بالإناث كفر ، ومن وصفهم بالذكورة فسق ،
والعجيب في واقعنا أن الحرية متاحة للمرأة المتبرجة ، محرمة على المراة المنتقبة ، وهذا دليل على الحرب المسعورة على الإسلام عامة وعلى المراة المسلمة خاصة ،
أضف إلى ذلك: الاستهزاء الواقع فى وسائل الإعلام ، بل ومن الناس بالمرأة المنتقبة في الوقت الذي لا تتعرض له المتبرجة لبعض هذا الاستهزاء ،
والسبب واضح وهو :أن نظام الدولة يدعوا إلى ذلك بدليل أن الشوارع والميادين العامة وغير ذلك لا تجد فيها إلا الصور العارية كإعلانات للأفلام والمسرحيات
2ـ من صور إشاعة الفاحشة :خروج المرأة من بيتها بغير ضرورة ، وما ترتب على ذلك من الاختلاط في كل مكان بين الرجال والنساء ، وما ينتج عن ذلك من وقوع الفواحش ، وجرائم الاغتصاب كما هو مشاهد ومعلوم للجميع وهذا كله بسبب الإعراض عن هدى الكتاب والسنة المطهرة
والتوجيه الشرعي في ذلك واضح وصريحقال تعالى
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
والذي ساعد على ذلك أكثر هو :عدم وجود الحاكم الشرعي الذي يقوم على مصالح الأمة ويدفع عنها الفساد والمفاسد ، فان من مهام الحاكم المسلم في الدولة المسلمة منع الاختلاط بين الرجال والنساء كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم " الطرق الحكمية "
3ـ ومن صور إشاعة الفاحشة :تربية الأولاد على غير منهج الإسلام
لأن فاقد الشئ لا يعطيه ، فأكثر الآباء والأمهات ليسوا ملتزمين بدين الله تعالى ولا بمنهج الإسلام ، فكيف يربون نشأ على منهج الإسلام ؟ بل إنهم تركوا أولادهم يتربون على مناهج وسائل الإعلام ، فأضاعوا أنفسهم وأضاعوا أولادهم
4ـ ومن أخطر وسائل انتشار الفاحشة : انتشار وسائل الإعلام بشتى أنواعها وتسخيرها لنشر الفاحشة بين الذين امنوا ، بداية من الصحف والمجلات التي لا تخلوا من الصور العارية ، ومرورا بما هو اخطر من ذلك وهو التلفاز والوسائل الحديثة من الفضائيات والأجهزة الإكترونية وغيرها
5ـ جعل أهل الفن الذين يشيعون الفواحش بين المؤمنين هم القدوة والأسوة للناس، من خلال كثرة الحديث عنهم وعن حياتهم وعن تاريخهم حتى أصبح الناس يعرفون عنهم ما لا يعرفون عن نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم جميعا ،
وإذا أردت مثالا على ذلك :انظر عند موت عالم من العلماء تجد أن الدولة لا تعبا بذلك ولا تهتم بذلك في وسائل الإعلام ولا غيرها ، أما عند موت راقصة أو فنان فكل شئ مسخر للحديث عنهم وعن تاريخهم وإنجازاتهم وعرض أفلامهم 000إلى غير ذلك ، أضف إلى ذلك أن أهل الفن هم الذين يستحوذون على جوائز الدولة كما هو معلوم
الوجه الثاني :افتراء المشركين على الله تعالى بعبادة غيره تقربا إليه
وذلك باتخاذ الشفعاء والوسطاء ، فكانوا بذلك مشبهين الخالق بالمخلوق ، وهذا أثبته الله تعالى عنهم في مواضع
قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
فبعد أن حذر الله تعالى من افتراء الكذب عليه وأن ذلك من أعظم الظلم بين الله تعالى بعض أحوال المشركين الذين سلكوا مسلك الكذب على الله تعالى ، فهم يعبدون غير الله تعالى معتقدين أن ألهتهم هذه سوف تشفع لهم عند الله جل وعلا ـ وكأنهم يحكمون ويفرضون على الله هؤلاء الشفعاء " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " والله تعالى بيّن أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه "
وقريب من هذه الآية قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (3)"
فكان هذا منهم كذب وافتراء على الله لأنه جل وعلا لا يحتاج إلى الوسائط كما يحتاج إليها الخلق
الوجه الثالث :افتراء المشركين على الله تعالى بأنه شاء لهم الشرك وعبادة غيره
قال تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ )(22) والشاهد : أنهم نسبوا إلى الله تعالى أنه شاء لهم عبادة غيره ، فكان هذا منهم قول على الله بغير علم
وقريب من هذا : قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
وقريب من هذا أيضا ـ قوله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )(150)
والشاهد :أن الحجة قائمة على المشركين ببعثة الرسل وبما أيدهم الله به من المعجزات
قال تعالى (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " )(165)
الصورة الثالثة : تتمثل في افتراء اليهود على الله تعالى ، وقولهم على الله بغير علم ، ومن ذلك
1ـ أنهم وصفوا الله تعالى بالتعب والنصب
كما في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ )(39 ) فاليهود ـ لعنهم الله ـ قالوا : إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
2ـ كذلك وصف اليهود ـ لعنهم الله ـ ربهم بأنه فقير
قال تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (182)
3ـ كذلك وصفهم الله تعالى بالإمساك والتقتير وعدم الإنفاق
قال الله تعالى :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )(64)
الصورة الرابعة :تتمثل في افتراء فرقة الجهمية على الله تعالى وقولهم على الله بغير علم ، ومن ذلك :
1ـ قولهم أن الله تعالى في كل مكان ، ونفوا أن يكون الله على عرشه ، أى أنهم جعلوا الله تعالى يحلّ في كل شئ ، لذلك سمّاهم العلماء : الجهمية الحلولية
فمن أقوالهم الشنيعة :" هو تحت الأرض السابعة ، كما هو على العرش ، فهو على العرش وفى السموات وفى الأرض وفى كل مكان ، وقرأوا قوله تعالى (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (3)
واستدلوا بقول الله تعالى(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (7)
وكذلك بقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(4)
والرد على ذلك باختصار :
أولا :الفطرة السليمة تشهد بقبح مثل هذا القول ، لما استقر في الفطر من علو الله تعالى على خلقه
ثانيا :الأدلة القرآنية كثيرة جدا في إثبات علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه
قال تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (5)
وقال تعالى (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )(59)وقوله (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ )(16)
ثالثا :لازم قول الجهمية ، ومن قال بقولهم من المعتزلة والأشاعرة :أن الله تعالى يكون في الأماكن النجسة والحمامات والقاذورات ، وما شابه ذلك ـ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
رابعا :معنى الآية الأولى " وهو الله في السموات 0000 "
هو إله من في السموات وإله من في الأرض ، وهو سبحانه على عرشه ، أحاط علمه بما دون العرش 0
ولا يخلو من علم الله مكان ، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان ، فذلك قوله تعالى(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا )(12)
ومعنى آخر للآية :قوله " وهو الله في السماوات " إثبات لعلوا الله على خلقه ـ أى أن الله تعالى على السماوات ، فإن " في " تأتى بمعنى " على " كقوله تعالى" أأمنتم من في السماء" أى على السماء ، وقوله تعالى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) (71)
وقوله " وفى الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون "إثبات صفة العلم الكامل لله رب العالمين بكل شئ
وقيل في تفسير الآية :أنه ـ سبحانه ـ معبود من في السماوات ، ومعبود من في الأرض ، أى : يعبده أهل السماء ، ويعبده أهل الأرض ، كما في قوله تعالى " وهو الذي في السماء اله وفى الأرض اله 000 "
أما قوله تعالى " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم 0000 "فالمراد بالآية : العلم ـ بدليل أن الله تعالى إفتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم ـ كما قال الإمام أحمد ـ وغيره
أما قوله تعالى " هو الذي خلق السماوات والأرض 00000 وهو معكم أينما كنتم 000 "
هذه الآية في الحقيقة فيها رد على هؤلاء الجهمية ، لأن الله تعالى أثبت فيها أولا استواءه على عرشه " ثم استوى على العرش " ثم بقية الآية تتحدث عن علم الله ـ تعالى ـ وإحاطة علمه بكل شئ
مثال تقريبي ـولله المثل الأعلى
" لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف ، وفيه شراب صاف ، لكان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح ، والله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شئ من خلقه "
مثال آخر :" لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ، ثم أغلق بابها وخرج منها : كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره ، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار ، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع ما خلق ، وعلم كيف هو ؟ وما هو ؟ من غير أن يكون في شئ مما خلق "
2ـ من افتراءات الجهمية على الله تعالى : تعطيل الصفات
فقاموا بنفي صفات الله تعالى وقالوا إنها على سبيل المجاز ، والسبب في ذلك على حد زعمهم : قولهم : إذا أثبتنا لله الصفات لزم أن يكون الله مشابها لخلقه ، والله يتعالى عن المشابهة للمخلوقين
والرد على ذلك :أن يقال : اللازم ليس بلازم ، فكما أنه تعالى له ذات تليق به ، فلخلقة ذوات تليق بهم ، فله ـ جل ولا ـ صفات لائقة بعظمته وكبريائه ـ سبحانه وتعالى ـ ومن لا تعرف ذاته لا تُكيف صفاته ، والحديث عن الصفات فرع من الحديث عن الذات ، فذاته لا تشبه ذوات المخلوقين ، فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين
أصل مقالة الجهمية :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ( ثم أصل هذه المقالة ـ التعطيل للصفات ـ إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين ، وضلال الصابئين ، فان أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام ـ أعنى أن الله ـ سبحانه ـ ليس على العرش حقيقة ، وإنما : استوى بمعنى : استولى ، ونحو ذلك ، أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم ، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه ـ وقد قيل : أن الجعد أخذ مقالته عن إبان بن سمعان وأخذها إبان من طالوت ابن أخت لبيد ابن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) اهـ الفتوى الحمية ص24
كفر الجهمية :
قال ابن المبارك ـ رحمه الله ـ " إنا لنستطيع أن نحكى كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية "
ولقد قام أكثر من خمسمائة من العلماء بتكفيرهم
قال ابن القيم رحمه الله :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في 0000عشر من العلماء في البلدان
ذكر شارح الطحاوية " أن أحمد ابن أبى دؤاد القاضي أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة " ليس كمثله شئ وهو العزيز الحكيم " حرّف كلام الله بنفي وصفه تعالى بأنه : السميع البصير "
كما قال الضال الآخر : جهم بن صفوان " وددت أنى أحك من المصحف قوله تعالى : " ثم استوى على العرش" اهـ عقيدة المسلمين للبليهى ج2 ص252
مشابهة الجهمية لليهود في التحريف
قال العلماء :" لام الجهمية ـ كنون اليهود " قالت الجهمية : "الرحمن على العرش استوى " أي : استولى ، وقيل لليهود : "ادخلوا الباب سجدا وقوا حطة " فقالوا " حنطة "
الصورة الخامسة : تتمثل في افتراء الحلولية ـ الصوفية ـ على الله تعالى وقولهم في حق الله تعالى الأقوال الشنيعة 0
1ـ القول بوحدة الوجود :ذهب ابن عربي الطائي زعيم الحلولية إلى القول بوحدة الوجود ، اى : أن وجود الخالق ، هو وجود المخلوق ، فالوجود عندهم واحد ، الخالق هو المخلوق ، والمخلوق هو الخالق ، والعابد هو المعبود ، والمعبود هو العابد ، ، والرب هو العبد ، والعبد هو الرب ـ وقد اشتهر عن ابن عربي قوله :
العبد رب والرب عبـد يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكــلف
والعجيب :أن ابن عربي القائل بوحدة الوجود ـ قُبر في مسجد في حي الصالحية في دمشق ينتابه الجهال والنساء يسألونه ويتبركون به
لازم قول الحلولية :
" أن من عبد الأصنام أو الأوثان أو الشمس أو القمر أو النجوم أو الشجر أو الحجر وحتى النار والبقر والقرود والكلاب والخنازير فقد عبد الله ، لان هذه الأشياء هي عين وجود الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
وعلى قول أهل الحلول والإتحاد
أن قوم نوح ـ عليه السلام ـ قالوا صوابا وحقا ، لمّا قالوا (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )(23)
وكذلك يكون فرعون من العارفين :ومصيب في قوله " أنا ربكم الأعلى " وكل من إدعى الربوبية ، أو يدعيها كالمسيح الدجال ، لا لوم ولا عتب عليه في هذا لأنه محق في ما قال
ومن شعر هؤلاء الملاحدة :
وفى كل شئ له آيـة تدل على انه عينــــــه
وقال آخر
أنا الذاكر المذكور ذكرا لذاكر
أنا الشاكر المشكور شكرا بنعمة
من افتراءات ابن عربي على الله وعلى رسوله
انه نسب كتاب " فصوص الحكم " للني صلى الله عليه وسلم ـ
قال صاحب كتاب عقيدة المسلمين ج2 ص501 ـ 502
" يزعم ابن عربي : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطاه كتاب " فصوص الحكم " وقال له : اخرج به إلى الناس ينتفعون به ، ويقول : فحققت الأمنية ، كما حدده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقصان ،
ثم يقول :
فمن الله فاسمعوا والى الله فارجعوا " اهـ
2ـ توحيد العبادة عند ابن عربيـ هو عبادة كل شئ ،
كل شئ رب للصوفية " لقد كفرت الصابئة ، لأنهم عبدوا الكواكب ، وكفرت اليهود لأنهم عبدوا العجل ، وكفرت النصارى لأنهم عبدوا ثلاثة أقانيم ، وكفرت الجاهلية ، لأنهم عبدوا أصناما أقاموها لمن مات من أوليائهم ، أما الصوفية فهي تدعوا إلى عبادة كل شئ
قلت : لأنهم يعتقدون أن كل مخلوق هو الله " اهـ عقيدة الموحدين ج2 ص503
3ـ ابن عربي يقول الولي أعلى درجة من الرسول
قال ابن القيم " وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي ، وابن سبعين ، والعفيف التلمسانى وأضرابهم على هؤلاء بما قال شيخ الطريقة : محمد ابن عربي : أن الولي أعلى درجة من الرسول ، لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يُوحى إلى الرسول ، فهو أعلى منه بدرجتين ، فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسول بدرجتين 00" اهـ إغاثة اللهفان ج2 ص253
4ـ فتوى شيخ الإسلام في طائفة الحلولية وأصحاب وحدة الوجود
قال رحمه الله ـ لما سئل عن ابن عربي ، وعن كتابه " فصوص الحكم " ( الحمد لله رب العالمين : ما تضمنه كتاب " فصوص الحكم وما شاكله من الكلام : فانه كفر باطنا وظاهرا ، وباطنه أقبح من ظاهره ، وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة ، وأهل الحلول ، وأهل الاتحاد ، وهم يسمون أنفسهم المحققين 00000 إلى أن يقول 0000 ممن يقولون : إن الوجود واحد ، ويقولون : إن وجود المخلوق هو وجود الخالق ، لا يثبتون موجودين ، خلق أحدهما الآخر ، بل يقولون : الخالق هو المخلوق ، والمخلوق هو الخالق 0
ويقولون : إن وجود الأصنام هو وجود الله ، وإن عبّاد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله 000 ويقول أعظم محققيهم : إن القران كله شرك ، لأنه فرّق بين الرب والعبد ، وليس التوحيد إلا في كلامنا ،
فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأم حراما ؟ فقال : الكل عندنا واحد ، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام ، فقلنا حرام عليكم 0000 إلى أن قال 000 فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع المسلمين كلهم ، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ، ومعرفة دين الإسلام ، فهو كافر ، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى ، والمشركين 0000 " اهـ مجموع الفتاوى ج2 ص286ـ ص491 باختصار
5 ـ ابن حزم ـ رحمه الله ـ يبين ضلال ـ طائفة الصوفية
قال : " ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله ـ تعالى ـ من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل ، وقال : من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك ، وحلّت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك ، واستباحوا بهذا نساء غيرهم ، وقالوا : إننا نرى الله ونكلمه وكلما قذف في نفوسنا فهو حق " اهـ الفصل في الملل والنحل ج4 ص226
الأمر الثالث : من الأمور المترتبة على تحريم التقديم بين يدي الله ورسوله : إبطال مذهب المتكلمين بتقديم العقل على النقل
فأهل الكلام الذين يقدمون العقل على النقل إنما يأخذون بمذهب إمامهم إبليس ـ لعنه الله تعالى ـ فهو أول من عارض الشرع برأيه وقياسه الفاسد كما في قوله تعالى
" إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
فلما جاءه الأمر الشرعي ، سارع إلى معارضته بقياسه الفاسد ورأيه الباطل ، فقال " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
يقول العلاّمة ابن القيم ـ رحمه الله تعالىـ " وكل من له مُسكة من عقل يعلم أن فساد العلم وخرابه إنما نشا من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على العقل ، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ، وفى امة إلا فسد أمرها أتم فساد ، فلا اله إلا الله كم نُفى بهذه الآراء من حق ، واُثبت بها من باطل ، وأميت بها من هدى ، واُحيى بها من ضلالة " اهـ إعلام الموقعين ج1 ص68
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ عند قول الله تعالى ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (50) "فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما ، إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به ، وإما إتباع الهوى ، فكل ما لم يأت به الرسول فهوى من الهوى ـ إلى أن قال ـ وقال تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )
فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو ـ سبحانه ـ عليها وأوحى إليه العمل بها ، وأمر الأمة بها ، وبين إتباع أهواء الذين لا يعلمون ، فأقر الأول ، ونهى عن الثاني " اهـ إعلام الموقعين ج1 ص47
والتطبيق العملي لذلك :
خروج أهل البدع والضلال وانتشار فرقهم بين الأمة بسبب تقديم عقولهم على نصوص الكتاب والسنة ، فضلوا وأضلوا كثيرا ، بخلاف طريقة أهل السنة الذين لا يعدلون عن النص الصحيح ولا يعارضوه بعقولهم ، ولا بقول فلان وفلان 0
وكذلك أساس العلمانية الكافرة الحديثة التي انتشرت في مجتمعات المسلمين هو تقديم الرأي على الشرع ، وهذه العلمانية نتج عنها الدعوة إلى الديمقراطية ، وبالتالي الحكم الوضعية ، فهؤلاء جعلوا من أنفسهم أندادا لله رب العالمين بلسان الحال أو بلسان المقال وكأنهم يقولون : نحن نعلم كما أن الله يعلم "
هل تقديم النقل على العقل تحقير من شان العقل ؟
لم يقل أحد على الإطلاق من أهل السنة أن تقديم النقل على العقل تحقير لشان العقل ، فالعقل هو مناط التكليف ، وهذا فيه رفعة وعلو للعقل ، بل إن الله تعالى أثنى على العقلاء من أولى الألباب في ست عشر آية ،وكذلك ذّم الله تعالى الذين لا يعقلون ، بل أن أهل النار يعترفون على أنفسهم أنهم لم يكونوا يعقلون ، قال تعالى " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ )(11)"
إذن غاية الأمر أن العقل لا يقدم على الشرع ، لأن الأمر لو كان كذلك لاستغنى الخلق عن الرسل وما جاءوا به 0
ولكن الحق أن العقل يعمل داخل دائرة الشرع ـ قال تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )(18)
فهؤلاءاستمعوا إلى الحق الذي هو الشرع النازل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفهموه بعقولهم فكانت النتيجة الإتباع لما انزل الله ، والكل في النهاية عائد وراجع إلى توفيق الله وفضله " أولئك الذين هداهم الله "
الأمر الثالث : المترتب على تحريم التقديم بين يدي الله ورسوله
أهميةالوقوف على مراتب الأدلة :
تحريم التقديم بين يدي الله ورسوله يقتضى الوقوف على مراتب الأدلة الشرعية التي يستدل بها على الأحكام الشرعية ، والسبب في ذلك واضح وهو : حتى لا يقدم دليل أدنى على دليل أعلى في القوة والحُجّية 0
فمن قدم دليل أدنى على دليل أعلى كان بذلك متقدما بين يدي الله ورسوله
لأجل ذلك أطلق العلماء قولهم " لا اجتهاد مع النص " وهذا يعنى أن رتبة الاجتهاد متأخرة على رتبة وجود النص ، سواء من الكتاب أو السنة
ترتيب الأدلة الشرعية عند علماء الأصول :
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه " علم أصول الفقه " ص21 ـ 22
" الأدلة الشرعية بالإجمال : ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية التي يستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة : القران والسنة والإجماع والقياس ،
وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها ، واتفقوا أيضا على أنها مرتبة في الاستدلال بها هذا الترتيب : القران ، فالسنة ، فالإجماع ، فالقياس ، أي انه إذا عرضت واقعة ، نظر أولا في القران ، فان وجد فيه حكمها أُمضىَ ، وان لم يوجد فيه حكمها ، نظر في السنة ، فان مجد فيها حكمها أُمضىَ ، وان لم يوجد فيها حكمها نظر هل اجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها ، فان وجد أُمضىَ ، وان لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكمها بقياسها على ما ورد النص بحكمه
أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )(59) "
فالأمر بإطاعة الله وإطاعة الرسول ، أمر بإتباع القران والسنة ، والأمر بإطاعة أولى الأمر من المسلمين أمر بإتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام لأنهم أولوا الأمر التشريعي من المسلمين ، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر بإتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع فيه ، رد المتنازع فيه إلى الله والرسول لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوى الواقعتين في علة الحكم ،
فالآية تدل على إتباع هذه الأربعة ــــ إلى أن قال ـــ وتوجد أدلة أخرى عدا الأدلة الأربعة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها ، واشهر هذه الأدلة المختلف في الاستدلال بها ستة : الاستحسان ، والمصلحة المرسلة ، والاستصحاب ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا ،
فجملة الأدلة الشرعية عشرة ، أربعة متفق من جمهور المسلمين على الإستدل بها ، وستة مختلف في الاستدلال بها " اهـ
فائدة
إشارة مختصرة حول أدلة أهل الباطل :
أهل الضلال من أهل البدع وغيرهم ممن خالفوا أهل الحق الذين هم أهل السنة والجماعة ، لم يقفوا عند الحق من الأدلة الشرعية ، بل تعدوا ذلك إلى الباطل ، واعتبروا ما ليس دليلا من الأدلة وقدموه على الأدلة الشرعية ، ومن ذلك "
1 ـ الرؤيا، وهى لا تفيد تحليلا أو تحريما ، أو مخالفة ما ثبت بالشرع ، والرؤيا عند الصوفية معتبرة بل مقدمة على أدلة الكتاب والسنة خاصة الرؤى التي تأتى عن طريق كبارهم ، فكم من أضرحة شُيدت بسبب تلك المنامات الشيطانية التي يُحلُون بها الحرام ويحرمون بها الحلال ، وهكذا
2ـ الكشف، وخرق العادة ، " الكرامة " وهى لا تفيد أيضا تحليلا أو تحريما أو مخالفة الشرع ، ولا تعطى صاحبها هذا الحق مما يسبغه عليه جهلة الناس
3ـ حديث النفس، وما يقع في القلب " الإلهام " لا يفيد تحليلا أو تحريما أو مخالفة للشرع ،
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح قصة موسى مع الخضر ـ " ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا : انه يستفاد من قصة موسى والخضر : أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء ، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم ــ إلى أن قال ــ فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر ، فانه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى ، ويؤيده الحديث المشهور " استفت قلبك وإن أفتوك "
قال القرطبى : وهذا القول زندقة وكفر ، لأنه إنكار لما علم من الشرائع ، فان الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تُعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينيٍّين لشرائعه وأحكامه ـ كما قال تعالى " يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس "
وقال " الله أعلم حيث يجعل رسالته " وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به ، وحث على طاعتهم ، والتمسك بما أمروا به ، فان فيه الهدى ، وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك
فمن إدعى أن هناك طريقا أخرى يُعرف بها أمره ونهيه غير الطريق الذي جاءت بها الرسل يستغنى بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يُستتاب
قال : وهى دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا ، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة من إلى كتاب ولا سنة ، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ،كما قال نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن روح القدس نفث في روعي " قال وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال " أنا لا أخذ عن الموتى وإنما أخذ عن الحى الذي لا يموت " وكذا قال آخر : أنا أخذ عن قلبي عن ربى ، وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع ، ونسال الله الهداية والتوفيق " اهـ فتح الباري ج1 ص221ـ 222
4 ـ استحسان العقل أو استقباحه لشئ ، فالعقول تتفاوت ، فالعقل لا يستدل به على حل أو حرمة ، والتحسين والتقبيح العقلي هو مذهب المعتزلة ، وأقبح منه تحكيم العقل في الشرع " انظر في ذلك الاعتصام للشاطبى ج2 ص99
5 ـ الاحتجاج بالكثرة والغالبية
وهذا لا يدخل في نطاق الأدلة مطلقا ، ذلك أن الكثرة قد تكون مخالفة للحق والصواب ، فقول من يقول : لو كان هذا الأمر أو هذا العمل باطلا أو حراما ما عمل به كل هؤلاء الناس ، فهذا في الحقيقة استدلال من استدلالات أهل الجاهلية ، كما قال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )(116)
قال بن مسعود ـ رضي الله عنه الجماعة ما وافق الحق وان كنت وحدك رواه بن عساكر في تاريخ دمشق وصححه الشيخ الألباني في هامش مشكاة المصابيح ج 1 ص 61
قال الشاطبي رحمه الله: أعلم إن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحدة وإن خالفه أهل الأرض ) ا هـ إعلام الموقعين ج 3 ص 397
يؤخذ من ذلك أيضا :أن المسلم في حال الغربة لا يستوحش من طريق الحق لقلة سالكيه وكثرة الناكبين عنه
6- ليس من الأدله تقليد الآباء والأسلاف في شئ من الدين بغير دليل ولا برهان
لأن الاستدلال بذلك هو عين ما كان عليه أهل الجاهلية بل هو أصل من أصول كفرهم وشركهم قال تعالي ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) قال تعالي ( إذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا )
7 ـ عمل العلماء ليس من الأدلة الشرعية
فكثير من العامة وغيرهم يحتجون على جواز الشئ أو فعله بعمل العلماء أو بعضهم ، فيقولون لو كان هذا الشئ حراما أو مكروها لامتنع منه العالم الفلاني ، ومن أكثر الأمور التي تهدم الدين وتذهبه ـ زلة العالم ، والأئمة المضلون ، وجدال المنافقين بالقران
وقد حذرنا الله تعالى من إتباع العلماء عند فسادهم فقال تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
قال ابن الحاج في المدخل ج1 ص94 ـ 95
" وهذا هو الذي أذهب شريعة عيسى ـ عليه السلام ـ أعنى التقليد لأحبارهم ورهبانهم دون دليل يدلهم على ذلك حتى صار أمرهم انه في كل جمعة من الأحد إلى الأحد يجدد لهم القسيس شريعة جديدة بحسب ما يراه لهم من المصلحة في وقته على ما يقتضيه نظره وتسديده على زعمه ، فتجدهم يخرجون من كنائسهم وهم يقولون لقد جُدد اليوم شريعة مليحة ، وقد عصم الله والحمد لله هذه الشريعة ، فالحذر من هذا الداء العضال " اهـ
والخلاصة :إن أقوال العلماء ليست بحجة في مخالفة ما ثبت بالدليل الشرعي ، ولا يجوز تقديمها بين يدي الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا لأدى ذلك ـ والعياذ بالله ـ إلى تبديل هذه الشريعة كما بدل اليهود والنصارى بما شرعه لهم الأحبار والرهبان
قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )(31) فهناك من الفجار من يستدلون مثلا بإباحة الغناء والملاهي والربا ببعض فتاوى علماء الضلال ، وهناك من يقول مثلا : ببدعية النقاب للمرأة ، إلى غير ذلك
الأصل الرابع:
تحقيق الانقياد والإذعان للوحي
هذا الأصل مرتب على الأصول الثلاثة السابقة لأن المسلم إذا اعتقد أن الشريعة الإسلامية هي دين الله الحق لجميع عباده إلى قيام الساعة
واعتقد أن هذه الشريعة كاملة فإنه يحرم عليه أن يتقدم بين يدي الشريعة الإسلامية بعقل أو رأى أو غير ذلك بل يجب عليه الانقياد والإذعان والتسليم لما جاء في شريعة الله الحق الكاملة
تحقيق الانقياد والإذعان ثمرة الاعتقاد الحق
الانقياد الصحيح والإذعان السليم إنما هو ثمرة ايجابية لصحة الاعتقاد أي أن الانقياد والتسليم ترجمة عملية لتحقيق توحيد العبادة
الانقياد أحد شروط كلمة التوحيد
كلمة التوحيد لها شروط ولوازم ومقتضيات وليست مجرد كلمة تقال باللسان
فالله تعالى لا يقبل هذه الكلمة إلا إذا جاء بها العبد بشروطه
1 ـ العلم المنافي للجهل
2-اليقين المنافي للشك 3-القبول المنافي للرد 4-الانقياد المنافي للترك - 5 ـ الصدق المنافي للكذب 6-الإخلاص المنافي للشرك
7-المحبة المنافية للبغض
والشاهد: أن الانقياد المنافي للترك من شروط كلمة التوحيد
والمراد بالانقياد:الخضوع والتسليم وإظهار ذلك بمقتضى العهد والميثاق بين العبد والرب قال تعالى ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور)
والمقصود: تحقيق القصد والإخلاص مع صدق المتابعة فمن فعل ذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى وهى لا اله إلا الله كما قال أهل التفاسير نقلا عن السلف
انقياد المخلوق للمخلوق وانقياد المخلوق للخالق:
لو كان انقياد المخلوق للخالق كانقياد المخلوق للمخلوق لحسن حال الناس فإن الناس يخضع بعضهم لبعض أكثر من خضوعهم لله رب العالمين انظر مثلا إلى خضوع العسكر والجند إلى قادتهم ورؤسائهم وانقيادهم لهم والتسليم المطلق لهم حتى وكأنهم عبيد لهم
#مثال لانقياد المخلوق للمخلوق وطاعة الأمراء للملوك:
"لما بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان اضطراب أهل العراق وكثرة التمرد فيها والنفاق جمع أهل بيته وأُولي النجدة من جنده ، وقال:أيها الناس إن العراق تكدر ماؤها وكثر غوغاؤها وأملولح عذبها وعظم خطبها وظهر ضرامها وعسر إخماد نيرانها فهل من ممهد لهم بسيف قاطع وفهم جامع وقلب ذكى وأنف حمى فيخمد نيرانها ويردع غيلانها وينصف مظلومها، ويداوى الجرح حتى يندمل فتصفو البلاد ويأمن العباد، فسكت القوم ولم يتكلم أحد
فقام الحجاج فقال :يا أمير المؤمنين أنا للعراق ، قال من أنت لله أبوك ؟ قال :أنا الليث الضمضام والهزبر الهشام أنا الحجاج بن يوسف الثقفي،قال ومن أين؟ قال: من ثقيف كهوف الضيوف ومستعملوا السيوف قال: اجلس لا أم لك لست لها
ثم قال عبد الملك بن مروان :مالي أرى الرؤوس مطرقة والوجوه ممزقة .فلم يجبه أحد
فقام الحجاج فقال :أنا مجندل الفساق ومطفئ نار النفاق ْ
قال :ومن أنت ؟قال :أنا قاصم الظلمة ومعدن الحكمة !الحجاج بن يوسف ،معدن
العفو والعقوبة وآفة الكفر والريبة،قال إليك عنى فلست لها .
ثم قال :من للعراق ؟فسكت القوم فقام الحجاج وقال: أنا للعراق .فقال إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وأن لكل شئ يا ابن يوسف أية وعلامة ،فما آيتك وما علامتك ؟
قال الحجاج :آيتي وعلامتي : العقوبة والعفو والاقتدار والبسط والازورار والإدناء
والإبعاد والجفاء والبر والتأهب والحزم، وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب ، فمن جادلني قطعته ومن نازعني قصمته ومن خالفني نزعته ، ومن دنا منى أكرمته ، ومن طلب الأمان أعطيته، ومن سارع إلى الطاعة بجلته فهذه آيتي وعلامتي ، وما عليك يا أمير المؤمنين إلا أن تبلوني الانقياد ،فإن لم أكن للأعناق قطاعا وللأموال جماعا،وللأرواح نزاعا فاستبدلني يا أمير المؤمنين فإن الناس كثير ومن يقوم بهذا الأمر عدد قليل،قليل
فقال عبد الملك بن مروان :أنت لها ،فما الذي تحتاج إليه ،قال:قليل من الجند والمال ، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال هيئ له من الجند شهوته وألزمهم طاعته وحذرهم مخالفته ،ثم دعا الخازن فأمره مثل ذلك
فخرج الحجاج قاصدا نحو العراق فصعد المنبر ونهض قائما فكان أول شئ نطق به أن قال :والله إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها وإني لصاحبها ،وإني لأرى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى، ثم قال :يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين
فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم ، فلم يرد أحد من الجالسين ،فقال الحجاج :أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون، أهذا أدبكم الذي تأدبتم به ،أما والله لأؤدبنكم أدبا غير هذا الأدب ،اقرأ يا غلام،فقرأ حتى بلغ قوله :سلام عليكم ،فلم يبقى أحد إلا قال :وعلى أمير المؤمنين السلام ،" اهـ من المستطرف في كل فن مستظرف ج1 ص117
والشاهد :انظر إلى انقياد الأمير لملك من ملوك الدنيا ثم انظر إلى انقياد الرعية للأمير، فأولى بذلك كله الرب الرؤوف الرحيم
ويكفى في ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله ؟قال :من أطاعن دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى .
*انقياد المؤمن لربه كانقياد الجمل لصاحبه:
روى ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني من حديث العرباض بن سارية –رضي الله عنه –أنه قال "وعظنا رسول الله – موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة مودع ،فماذا تعهد إلينا ؟قال:قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ،من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ،فعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد"
*الانقياد الحقيقي مثل انقياد الشجرة للرسول صلى الله عليه وسلم
روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه قال :سرنا مع رسول الله- يقضى حاجته ،فاتبعته بإداوة من ماء ،فنظر رسول الله - فلم يرى شيئا يستتر به ،فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال :انقادي علىّ بإذن الله ،فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده ،حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال انقادي علىّ بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما ،يعنى جمعهما ، فقال:التئما علىّ بإذن الله فالتأمتا ،قال جابر :فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله بقربى فيبتعد فجلست أحدث نفسي فحانت منى لفتة ،فإذا برسول الله -مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما "
#البيعة على السمع والطاعة:
روى البخاري من حديث جرير بن عبد الله –أنه قال "بايعت النبي – على السمع والطاعة فلقنني فقال:فيما استطعت والنصح لكل مسلم "
وروى مالك في الموطأ:عن ابن أبى مليكة أن عمر – رضي الله عنه – مرّ بامرأة مجذومة وهى تطوف بالبيت فقال لها:يا أمة الله لا تؤذى الناس ،لو جلست في بيتك ،فجلست ؟فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها :إن الذي قد نهاك قد مات فاخرجي ،فقالت :ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا"
*عقوبة ترك الانقياد لله تعالى ولرسوله- صلى الله عليه وسلم :
1ـ الوعيد بالفتنة والعذاب:قال تعالى "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "
2ـ الوقوع في الضلال:قال تعالى "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"
3ـ بطلان الأعمال :قال تعالى "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " فالانقياد شرط لصحة الأعمال وكمالها ،وعدم الانقياد يؤدى إلى إحباطها وبطلانها
4ـ غضب الرسول ممن تردد فى قبول أمره :
في صحيح مسلم عن عائشةأنها قالت "قدم رسول الله -لأربع مضت من ذي الحجة أو خمس ،فدخل علىّ وهو غضبان ،فقلت :من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار ؟قال :أو ما شعرت أنى أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون "
دلّ الحديث على أن أمره -صلى الله عليه وسلم - واجب النفاذ دون تردد أو عصيان
وعند البخاري من حديث ابن عباس -أن بريرة كانت أمة متزوجة من عبد يقال له :مغيث، وأنجبت له ولدا ،فأعتقتها عائشة -فخيرها رسول الله - بين أن تبقى زوجة للعبد أو أن تنفصل عنه وتنعم بحريتها ،فاختارت حريتها وفضلتها على البقاء مع زوجها وقالت :لو أعطيت كذا وكذا ما بقيت معه فكان يمشى خلفها ويطوف حولها ويبكى حتى تسيل دموعه على لحيته ويقول عودي إلى يا بريرة فتأبى عليه، فكان رسول الله يقول للعباس :يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا ، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم يا بريرة لو أرجعتيه فإنه أبو ولدك ؟ قالت يا رسول الله أتأمرني ؟قال إنما أنا شفيع ،قالت فلا حاجة لي فيه"
أمثلة واقعية على الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عله وسلم
1ـ على وجه العموم"عموم استجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم
الدليل على ذلك قوله تعالى"الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم"
روى الطبراني عن عكرمة قال:لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قالوا لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم شر ما صنعتم،فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فـندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد أو بئر أبى عيينة فأنزل الله تعالى "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح"
وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم ـ موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا ،فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة فأتوه فلم يجدوا به أحدا وتسوقوا ـ فأنزل الله قوله تعالى "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء "صححه الحافظ ابن حجر،وكذلك السيوطى في أسباب النزول،وكذلك الشيخ مقبل،والصحيح الإرسال ـ انظر الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل ص56.
لك أن تتخيل حال الصحابة بعد غزوة أحد،وما أصابهم وما حلّ بهم،فعندما سمع ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بما عزم عليه أبو سفيان والمشركون من العودة إلى المدينة،أذن مؤذن رسول الله ـ في الناس بطلب العدو،وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا أمس،
فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبى كان خلفني على أخوات لي سبع،وقال :يا بنى إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن،ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نفسي فتخلف على أخواتك،فتخلفت عليهن،فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه،وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وإن الذي أصابهم لم يوهنم عن عدوهم" اهـ انظر تفسير بن كثير جـ2ص100.
فالصحابة رغم جراحاتهم،وتعبهم ونصبهم،علاوة على البلاء الذي أصابهم بقتل سبعين منهم وجرح النبي صلى الله عليه وسلم هبّوا مستجيبين لله وللرسول لما وصلهم ما أراد الكفار فعله ـ قالوا ما أخبر الله تعالى به (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل)
ـ ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل) قالها إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين ألقى في النار،وقالها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال لهم الناس:( النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل).
وكذلك روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ (الذين استجابوا لله والرسول)قالت لعروة:يا ابن أختي كان أبواك منهم ـ الزبير وأبو بكر ـ رضي الله عنهما ـ لما أصاب نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال:"من يرجع في أثرهم" فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبيرـ هكذا رواه البخاري منفرداً بهذا البيان"
2ـ أما على وجه الخصوصـ فقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سرعة الاستجابة لله وللرسول والإذعان والخضوع لكل ما جاء في شرع الله الحكيم.
المثال الأول:أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه
روى الإمام أحمد في مسنده،وصححه الشيخ الالبانى في صحيح الجامع 866
عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس : فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ بخ بخ مال رابح ذاك مال رابح وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين ]
فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
يؤخذ من ذلك:
1ـ تفاعل الصحابة مع نصوص القرآن الكريم
2ـ إيثار الآخرة على الدنيا ـ وهذا يدل على يقينهم وتعلقهم بما عند .
3ـ إنفاق الطيبات من الرزق،وأنفس الأموال لله رب العالمين،
وحول نفس الآية" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"
روى البزار في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال"حضرتني هذه الآية" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلىّ من جارية رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله،فلو أنى أعود في شئ جعلته لله لنكحتها ـ يعنى تزوجتها"
هذا هو التطبيق العملي لنصوص الوحي الشريف،وهذا هو تفاعل الصحابة مع القرآن الكريم.
المثال الثاني:قوله تعالى" وإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَىلَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها."اهـ تفسير ابن كثير جـ1 ص330
وجاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ـ أن أخت معقل بن يسارـ رضي الله عنه ـ طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت" فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"
وفى رواية الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له : يا لكع بن لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا أخر ما عليك قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } إلى قوله { وأنتم لا تعلمون } فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك ـ زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني"
يؤخذ من ذلك أمور:
1ـ أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الخلق بعد النبيين كان يقع منهم ما يقع من بقية الناس من الغضب وما يترتب على ذلك من الطلاق ونحوه .
2ـ أن الآية فيها دلالة مع سبب نزولها:أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تملك ذلك ،وأنه لابد في النكاح من ولى ـ ففي الآية قوله"فلا تعضلوهن" أي: لا تمنعوهن،فها دليل على أن الولي من حقه أن يباشر ذلك،
وفى الحديث المذكور في سبب النزول" فأبى معقل فنزلت الآية"
3ـ أن الأولى والأحق بالمرأة زوجها لما كان بينهما من عشرة،وخاصة إذا كان معهما أولاد حفاظا على الأسرة.
4ـ سرعة الاستجابة لأمر الله جل وعلا والانقياد والإذعان للتوجيه الرباني
يؤخذ ذلك من قول معقل بن يسار رضي الله عنه بعد نزول الآية "سمع لربى وطاعة ثم دعاه فقال أزوجك وأكرمك" يقول له ذلك بعد أن قال له أولا:"يا لكع بن لكع"وأقسم أنه لا يزوجها له،وهذا هو حقيقة تحقيق الانقياد.
5ـ أن الإنسان لو أقسم على شئ ووجد ما هو أفضل كفَّر عن يمينه وأتى الذي هو خير
المثال الثالث:قوله تعالى" إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"
إلى قوله تعالى" وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
والشاهد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما خاض من خاض في حادثة الإفك وكان منهم ابن خالته مسطح ابن أثاثة رضي الله عنه وكان من المهاجرين.
روى البخاري في الحديث الطويل المتعلق بحادثة الإفك".....قالت عائشة رضي الله عنها قال أبو بكر رضي الله عنه " ـ ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله تعالى" وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى" إلى قوله" أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
فقال أبو بكر:بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه،وقال:والله لا أنزعها منه أبدا......"
يؤخذ من ذلك:
سرعة الاستجابة من الصديق رضي الله عنه ـ في تطبيق التوجيه الرباني على الرغم مما يوجد في النفوس بسبب هذه الحادثة.
"ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فالجزاء من جنس العمل،فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك ،وكما تصفح يصفح عنك.
لذلك قال الصديق : بلى والله إنا نحب ياربنا أن تغفر لنا ياربنا"
المثال الرابع: قال تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
" لما نزل تحريم الخمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير"فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام الصلاة نادى ألا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى" فهل أنتم منتهون" قال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا"
يؤخذ من هذا الحديث:
سرعة الاستجابة والانقياد لأمر الله تعالى بالانتهاء عما حرمه الله عز وجل.
وفى آثار أخرى ثابتة:أن النهى الصريح عندما وصل إلى الصحابة ـ قاموا بإهراق ما عندهم من الخمر في البطحاء.
وكذلك في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له صديق من ثقيف أومن دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يا فلان أما علمت أن الله حرمها. فأقبل الرجل على غلامه فقال اذهب فبعها،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فلان بماذا أمرته؟فقال أمرته أن أبيعها قال إن الذي حرمه شربها حرم بيعها" فأمر بها فأفرغت في البطحاء"
أسباب التقصير في الانقياد التام
السبب الأول:تأويل النصوص:
كلمة التأويل من الكلمات الواردة في الكتاب والسنة ، وبيان ذلك
1ـ التأويل في اللغة:يطلق على التفسير،وكذلك التفسير يطلق على التأويل،فالإمام الطبري سمى تفسره(جامع البيان عن تأويل أي القرآن)وعند تفسير الآيات يقول"القول في تأويل كذا أواختلف أهل التأويل،أو اتفق أهل التأويل...وكذلك فعل القاسمى في تفسيره(محاسن التفسير).
وممن ذهب إلى عدم التفرقة بين التفسير والتأويل أبو عبيد،وأبو العباس أحمد بن يحيى،وابن الأعرابي،وثعلب،غير أنه قال:التفسير والتأويل واحد،أوهو كشف المراد عن المشكل،والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر"راجع علم التفسيرج1ص427
والتأويل:ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة
وقال ابن حبيب النيسابورى والبغوى وغيرهما:التأويلصرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها،تحتمله الآية،غير مخالف للكتاب والسنة،من طريق الاستنباط....
وقال ابن الأثير:المراد بالتأويل:نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ" اهـ انظر مع الشيعة الأثنى عشية في الأصول والفروع ج2ص10-11.
2ـ كلمة التأويل في القرآن
وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم سبع عشرة مرة.
فقد تأتى كلمة التأويل يراد بها التحريف،وقد يراد بها التفسير الصحيح وكلا المعنيين مذكور في قوله تعالى(هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)
والمعنى: هنا أن الذين في قلوبهم زيغ،أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل،يصرفون المتشابه عن معناه الذى يوافق المحكم إلى ما يوافق أغراضهم وباطلهم،ولا يعلم تأويله الحق الذى يحمل عليه وتفسيره الصحيح إلا الله،والعلماء الثابتون في علمهم المتمكنون يرجعون المتشابه إلى المحكم،ويقولون:كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا،فلا يمكن أن يخالف بعضه بعضا.
فكلمة تأويل الأولى تعنى تحريف المعنى،ولهذا يأخذون من القرآن الكريم "المتشابه الذى يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة،وينزلوه عليها،لاحتمال لفظه لما يصرفونه،فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم" اهـ انظر تفسير ابن كثير ج1ص345.
وكلمة"تأويله"الثانية تعنى التأويل الحق الذى يحمل عليه المتشابه،وهو المعنى الصحيح الذى لا يتعارض مع المحكم.
3ـ كلمة التأويل في السنة
وردت كلمة التأويل في أحاديث كثيرة
روى الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- دعا له فقال"اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل"
وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة"اللهم اعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل"انظر فتح البارى ج7 ص100
روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:سبحانك اللهم ربنا وبحمدك،اللهم اغفر لي،يتأول القرآن"
تعنى:أنه مأخوذ من قوله تعالى(فسبح بحمد ربك واستغفره) والأحاديث في ذلك كثيرة.
[التأويل المنافي لأصل وتمام الانقياد هو التأويل الباطل]
أنواع التأويل الباطل:
قال الإمام ابن القيم:" والتأويل الباطل أنواع:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه الأول مثل تأويل قوله صلى الله عليه وسلم(حتى يضع رب العزة فيها رجله) رواه البخاري
بأن الرِّجل:جماعة من الناس،فإن هذا الشئ لا يعرف في شئ من لغة العرب البتة.
الثاني:ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع،وإن احتمله مفردا كتأويل قوله (لما خلقت بيدي) بالقدرة.
الثالث:مالم يحتمله سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق كتأويل قوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته التى هى من أمره ،وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد. _
وكتأويل قوله"إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر صحوا،ليس دونه سحاب،وكما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب" رواه البخاري ومسلم.
فتأويل الرؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتها وظاهرها في غاية الامتناع:وهو رد وتكذيب يستتر صاحبه بالتأويل.
الرابع:ما لم يُؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث.وهذا موضع زلت فيه أقدام كثير من الناس حيث تأولوا كثيرا من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة،وإن كان معهودا في اصطلاح المتأخرين،وهذا مما ينبغي التنبيه له،فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل...... وكتأويل(ثم استوى على العرش) بأن المعنى:أقبل على خلق العرش،فإن هذا لا يعرف في لغة العرب ولا غيرها من الأمم،لا يقال لمن أقبل على الرحل استوى عليه،ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو دراسة أو كتابة أو صناعة قد استوى عليها،وهذا التأويل باطل من وجوه كثيرة سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى،لولم يكن منها إلا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب هذا التأويل لكفاه،فإنه ثبت في الصحيح"إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة،وعرشه على الماء"
فكان العرش موجوداً قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فكيف يقال إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش،والتأويل إذا تضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فحسبه ذلك بطلانا.
الخامس:ما ألف استعماله في غير ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذى ورد النص،فيحمله المتأول في هذا التركيب الذى لا يحتمله على مجيئه في تركيب أخر كتأويل اليدين في قوله تعالى(ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) بالنعمة،ولاريب أن العرب تقول:لفلان عندي يد ،وقال عروة بن مسعود للصديق رضي الله عنه- لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك 000
فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب كذلك قوله تعالى(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) يستحيل فيها تأويل النظر بانتظار الثواب....
السادس:كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم [أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" صحيح- صححه الشيخ الالبانى في صحيح ابن ماجه
فيحمله على الأمة،فإن هذا التأويل من شدة مخالفته لظاهر النص يرجع على أصل النص بالإبطال،وهو قوله" فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" ومهر الأمة إنما هو للسيد،.......
السابع:التأويل الذى يوجب تعطيل المعنى الذى هو في غاية العلو والشرف،ويحطه إلى معنى دونه بمراتب،
مثاله تأويل الجهمية( وهوالقاهرفوق عباده)ونظائرهبأنها فوقية الشرف،كقولهم الدراهم فوق المفلس،فعطلوا حقيقة الفوقية المطلقة التى هى من خصائص الربوبية المستلزمة لعظمة الرب تعالى،وحطوها إلى كون قدره فوق قدر بنى آدم" اهـ مختصر الصواعق المرسلةج1ص43ـ48 باختصار.
السبب الثانى:الأخذ ببعض النصوص دون البعض الآخر
الأصل فى تمام الانقياد الأخذ بمجموع النصوص الواردة فى المسألة الواحدة ومن خالف فى ذلك فأخذ ببعض النصوص وترك البعض الآخر،فقد سلك مسلك المبتدعة الضالين.
وقد بيَّن الله تعالى فى القرآن الكريم ـ أن من الناس من يضل بالقرآن،كما أن القرآن الكريم سبب من أسباب الهداية.
قال تعالى(يضل به كثيراً ويهدى به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين).
فمن أسباب الضلال:الأخذ ببعض النصوص وترك البعض الآخر،أما سبب الهدى فالانقياد التام لكل نصوص الوحى.
وكذلك وصف الله تعالى أن القرآن سبب شفاء المؤمنين،وفى نفس الوقت فيه خسارة للظالمين.
قال تعالى(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خسارا)فالخوارج ضلوا بسبب جهلهم بكتاب الله تعالى وأخذ ببعض الآيات دون البعض الآخر.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فى الخوارج ـ "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين......" البخاري
وكذلك كانوا يأخذون بجانب من النصوص،فكانوا يأخذون بآيات الوعيد مع إهمالهم جانب الوعد
،وعلى النقيض نجد المرجئة أخذوا بالجانب الآخر ـ جانب الوعد مع إهمالهم لجانب الوعيد،فضلوا ضلالاً مبينا.
قال شارح الطحاوية:"وإذا اجتمعت نصوص الوعد التى استدلت بها المرجئة،ونصوص الوعيد التى استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبيَّن لك فساد القولين،ولا فائدة من كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة على فساد مذهب الطائفة الأخرى" اهـ شرح العقيدة الطحاوية ص322.
فائدة
الانقياد واجب على العبد حتى الوفاة
الانقياد واجب على كل عبد مسلم حتى الموت،فلا يسقط عن العبد هذا التكليف في أي مرحلة من مراحل الحياة،وفى هذا ردّ على المبتدعة الذين يقولون أن التكليف يسقط عنهم عندما يصلون إلى حالة معينة.
وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) واليقين هو الموت.
فد روى البخاري عن أم العلاء الأنصارية ـ أنه لما تُوفى عثمان بن مظعون قال رسول الله عليه وسلم ـ "أما هو فقد جاءه اليقين"
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو أفضل من عَبَدَ الله تعالى لم ينقطع عن العبادة قط في أي مرحلة من مراحل حياته،وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه ـ "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فهذه القاعدةـ وهذا الأصل"الانقياد التام الكامل" يعتبر هو الميزان في الحكم على الناس ـ وقد قال الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
ولا يكون العبد من المتقين حق التقوى إلا إذا كان محققا للانقياد التام
قال تعالى(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^