الرسالة الثانية السبك فى بيان أسباب الشرك (2)
الرسالة الثانية
السبك
فى بيان أسباب الشرك
(2)
المقدمة
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102.
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (الأحزاب:70-71.
أمّا بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمدصلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كانت الرسالة الأولى تتعلق بأضرار الشرك ومفاسده ،وهذه هى الرسالة الثانية ونتحدث فيها عن أسباب الشرك ويعقبها إن شاء الله تعالى رسائل أخرى متتمة للحديث عن مسائل الشرك وما يتعلق به ،فإن معرفة ذلك من أهم الواجبات على كل المكلفين
تمهيد
حملة القرآن على الشرك
شدد الإسلام حملته على الشرك، وقعد له كل مرصد، وحاربه بكل سلاح، وقرر أنه الإثم العظيم، والضلال والبعيد، والجرم الأكبر، والذنب الذي لا يغفر
قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]،
وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء:116].
وبين القرآن الكريم أنه ليس في العالم المخلوق شيء يستحق أن يسجد له الإنسان أو يتضرع إليه أو يرجوه أو يخشاه، فالملائكة ومن دونهم عباد لله خاشعون خاضعون مربوبون
قال تعالى (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19-20]،
وقال تعالى (لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]،
وقال تعالى (لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 27-28].
والبشر وإن علا سلطانهم، أو عظم قدرهم، أنبياء كانوا أو سلاطين، هم أيضًا عباد الله، لا يملكون لأنفسهم، فضلا عن غيرهم، ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والعبودية هي الوصف اللازم لهم جميعا:
قال تعالى (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95].
والشمس والقمر والنجوم إن هي إلا كواكب مسخرات بأمره تعالى، لا يجوز أن يحني صلب من أجلها راكعا، أو يخر وجه من أجلها ساجدًا:
قال تعالى(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
وكل ما يدعي من دون الله في الأرض أو السماء هو مخلوق عاجز لا قدرة له، محتاج لا قيام له بذاته، ضعيف لا يقوى على حياة نفسه
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73]،
وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء: 56-57]،
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الأعراف: 194].
وبعد هذه الحملة على الشرك والمشركين جاء القرآن الكريم بتقرير التوحيد للواحد القهار على سبيل التأكيد أن المعبود المستحق للعبادة واحد لا شريك له وهو رب العالمين
قال تعالى "إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات : 4
أى :إن معبودكم المستحق لكل أصناف وأشكال العبادة واحد ،والوحدانية لا تثبت إلا لرب البرية – جل فى علاه -
وقال تعالى "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة : 163
أى :معبودكم معبود واحد ،وهو الواحد الموصف بأنه الرحمن الرحيم
وبذلك أمر الله تعالى الخلق أجمعين
وقال تعالى "وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل : 51
أى :لا تعبدوا معبودين لأن المعبود بحق واحد لا يتعدد ،لذلك قال تعالى فى موضع آخر "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج : 62]
فائدة :
لماذا كان النهى عن الشرك قبل الأمر بالتوحيد فى بعض الآيات ؟
قال تعالى حكاية عن قول لقمان" يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13 )
من الملاحظ أن لقمان الحكيم لم يبدأ هذه الوصايا بالأمر بالعبادة ،فلم يقل له : يابنى اعبد الله ،وإنما بدأ بالنهي عن الشرك،فما الذى يستفاد من ذلك :
أولا : التوحيد هو الأساس، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم شيء، كما فى تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله
ثانيا: العبادة تكون بعد التكليف ، بمعنى : أنه ينبغى أولا أن يتعلم الإنسان فى صغره العقائد الصحيحة وما ينافيها ثم تأتى العبادة بعد ذلك 0
فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، مهما وصل إلى أعلى الشهادات ، وهذا واضح جلى
إذن : ما يناقض التوحيد تعلمه لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد التكليف.
ثالثا : أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك (أي بالتوحيد) هو أيسر من التكليف بالعبادة، العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء والتكليف.
أسباب الشرك
من المعلوم أن الشرك له أنواع وصور وأشكال ، فكذلك له أسباب ، فنذكر فى هذه الفائدة بعض هذه الأسباب ، فمن ذلك
1 – السبب الأول : الشيطان – لعنه الله –
إن الشيطان – بدأ في العمل على انحراف الإنسان وغوايته وإبعاده عن هدى الله تعالى ،مبكرا ،فمنذ اللحظة الأولى التي امتنع فيها الشيطان عن السجود لأدم ،بدأ في الغواية والعداء لبني آدم
قال تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
ولقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم تأثير الشيطان الرجيم على فطرة بني آدم ودوره في انحرافهم عن الحق ،والآيات في ذلك كثيرة .
قال تعالى " قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
وقال تعالى " تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل : 63]
وقال تعالى " ....لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
فالشيطان - لم يقتصر على مجرد الإضلال ،بل تعدى ذلك إلى أن زين لهم الباطل والضلال ،حتى ظنوا أنه الحق والصواب فزادهم شرا إلى شرهم ،فغرر بهم ،حتى يثبتوا على باطلهم ،ثم انتقل معهم إلى ما هو أكبر من ذلك فأمروا أن يغيروا خلق الله الظاهر والباطن ،فالظاهر تغيير الخلقة الظاهرة بوشم ونحوه ،والباطن غيروا ما فطر الله عليه عباده من التوحيد إلى الشرك ،وقد جاءت الأحاديث الثابتة ببيان تسليط الشيطان على الإنسان منذ ولادته واستمراره معه مدى الحياة .
روى البخاري – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " ما من بني ادم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ،فيستهل صارخا من مس الشيطان ،غير مريم وابنها " رواه البخاري جـ3صـ1265 ومسلم جـ4صـ1838 ) .
قال القرطبي – رحمه الله – " هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط " اهـ .(فتح الباري لابن حجر جـ6صـ541) .
وروى البخاري – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " إن الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم " رواه البخاري جـ2صـ717 ،ومسلم جـ4صـ1712 ) .
ومن أصرح الأحاديث في إفساد الشيطان للفطرة –
ما رواه مسلم عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه - أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذاتَ يوم في خطبته: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أن أُعَلِّمَكمْ مَا جَهِلْتُمْ مما عَلَّمني يومي هذا. كُلّ مال نَحَلْتُه عبدا حلال،وإني خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كلّهم.وإنهم أَتَتْهُمُ الشياطين فاجْتَالَتْهم عن دينهم.وحرمت عليهم ما أَحللتُ لهم.وأمرْتَهُم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانا. "
مسالك الشيطان في إفساد فطرة الإنسان
يمكن تلخيص ذلك في عدة صور منها :
أ – التشكيك في وجود الرب – جل وعلا –
عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لن يدع الشيطان أن يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماوات والأرض ؟ فيقول : الله فيقول : فمن خلقك ؟ فيقول : الله فيقول : من خلق الله ؟ فإذا حس أحدكم بذلك فليقل : آمنت بالله وبرسله )
قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح(رواه البخاري جـ3صـ1194ومسلم 0جـ1صـ119- 120،ورواه ابن حبان بلفظه جـ1صـ362) .
وقد أوقع الشيطان بهذا الأسلوب كثيرا من الناس في الزندقة والإلحاد ،واقرب مثال ما عليه أصحاب المذهب الشيوعي .
ب – التشكيك في اختصاص الله – تعالى – بالعبادة ،ودعوة الناس إلى عبادة غيره – جل وعلا –
عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير قوله تعالى :
" وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح : 23]
قال : " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ،ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت " .(رواه البخاري تعليقا جـ4صـ1873،وابن كثير في التفسير جـ8صـ3629،وابن حجر في فتح الباري جـ8صـ535) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – " فعبدوها بتدريج الشيطان لهم " اهـ . ( فتح الباري جـ8صـ536 ) .
ومن تشكيك الشيطان – للإنسان – في اختصاص الله – تعالى – بالعبادة ،تزيينه للناس تلقي التشريع والتحليل والتحريم من غير الله تعالى ،كما قال الله تعالى " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة : 31] " وكان هذا الاتخاذ بوحي الشيطان وتزيينه ،ولهذا يخاطب الله تعالى يوم القيامة من وقع في هذا الضلال
فيقول : " وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
تنبيه
ليس الوحي بعبادة غير الله تعالى ،وتلقي التحليل والتحريم من غير الله تعالى – قاصر على شياطين الجن ،بل هناك شياطين الإنس وهو يفوقون شياطين الجن في ذلك – قال تعالى " شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام : 112]
فإن شيطان الجن لا يملك أن يتسلط على الناس ويرغمهم قصرا على قبول وسوسته من تشريع ما لم يأذن به الله ،أو تحليل الحرام ،وتحريم الحلال ،فإن الشيطان لا يملك إلا الوسوسة والإغواء والتزيين ،
وحتى هذه الوسوسة أو التزيين أو الإغواء ،لا سلطان للشيطان على أحد بذلك إلا على أتباعه وأوليائه ،أما أهل الإيمان الخلص ،فلا سلطان للشيطان عليهم – قال تعالى " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
ويأتي الشيطان يوم القيامة ويتبرأ من أتباعه ،لأنه ما كان له عليهم من سلطان ،وإنما كل ما في الأمر أنه دعاهم إلى الكفر والضلال فسرعان ما استجابوا له
" وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم : 22]
وهذا هو الذي ظنه إبليس في الناس ،كما قال تعالى " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ : 20] وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ : 21]
وفريق المؤمنين الذي لا سلطان لإبليس عليهم هم أهل الإخلاص باعتراف إبليس نفسه على ذلك – قال تعالى " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
أما شياطين الإنس فيملكون ما لم يملكه إبليس الرجيم فمثلا في قضية التحليل والتحريم انشأوا الجامعات التي يدرسون فيها القوانين الوضعية التي تحل الحرام ،وتحرم الحلال ،ثم أسسوا الهيئات الثلاث على وفق القانون الوضعي ،فالهيئة التشريعية هي التي تقوم وتباشر وضع التشريع المخالف لشرع الله تعالى ،فيحلون فيه الحرام ،ويحرمون فيه الحلال وتأتي الهيئة القضائية تباشر الفصل والقضاء بين الناس على أساس هذا التشريع الوضعي ،وبعد ذلك تأتي الهيئة الثالثة ،الهيئة التنفيذية لتنفيذ أحكام القضاء بالقوة .
فهل يملك شياطين الجن ما يملكه شياطين الإنس ،فإن كان الشيطان الجني مهمته تنحصر في الإغواء والتزيين والوسوسة ،فإن الشيطان الإنسي تجاوز ذلك إلى حيز التنفيذ والعمل ،فهو الذي يصد فعلا عن دين الله تعالى ،وشيطان الإنس هو الذي يحارب فعلا على تثبيت دعائم القوانين الوضعية ،ويحارب بالفعل من ينادون إلى تطبيق شرع الله القائم على إعطاء الرب حقه من اختصاصه وحده بحق التشريع والتحليل والتحريم ،فأيهما أخطر شياطين الجن أم شياطين الإنس ؟
ومن اخطر وأبشع وأفظع ما وقعت فيه البشرية قديما وحديثا من عبادة الشيطان التي حذر منها رب العالمين في الآيات السابقة ،عبادة طائفة من البشر لذات الشيطان ،عبادة تذلل وخضوع وتقديس ببعض الطقوس
وهؤلاء هم الطائفة المشهورة باسم " عبدة الشيطان " وهذه الطائفة على ضلالها وفسادها انتشرت في عدة دول من دول العالم ،على الرغم من مصادمة ذلك للفطرة
جـ - التشكيك في العقائد الإيمانية :
فقد شكك الشيطان – الرجيم – طوائف من الناس في العديد من مسائل العقيدة الإسلامية ،وأوقعهم في ضلالات وأباطيل كثيرة ،مثل التشكيك في الإيمان بالبعث واليوم الأخر – كما في قول الله تعالى
" وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
وقوله تعالى حكاية عن المشركين " أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21
وهناك من تشكك في الإيمان بالملائكة والجن ،وهناك من شكك في إرسال الرسل وعصمتهم ،كما تشكك كثير من المبتدعة من هذه الأمة في بعض مسائل الاعتقاد ،كالذين يعطلون أسماء الله وصفاته – إلى غير ذلك .
د – الوسوسة والتشكيك في كثير من الأمور الدينية والدنيوية :
والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
عن عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله : " إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ،فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ،قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني " رواه مسلم جـ4صـ1728 .
ولا شك أن الشيطان – الرجيم – يعمل جاهدا على إفساد فطرة الناس فهو دائما لا يأمرهم إلا بما فيه هلاكهم وبعدهم عن دينهم ،فيزين لهم الكفر والفسق والعصيان ،ويزين لهم الشهوات ،ويوقعهم في الشبهات
ففي الحديث – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ،قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " رواه مسلم جـ4صـ2167-2168 .
من أجل ذلك كله أمر الله تعالى بأخذ الحذر والحيطة من هذا الشيطان الرجيم ،وأمر المؤمنين بالاستعاذة منه
قال تعالى " وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف : 200]
ونهانا عن إتباع خطواته لشدة عداوته للمؤمنين
قال سبحانه " َلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة : 168]
والشاهد :أن الشيطان يقعد للإنسان فى كل الطرق والمسالك التى يسلكها لكى يضله عن سبيل الله
عن سَبرة بن أبي فاكه - رضي الله عنه - قال : سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول :إنَّ الشيطانَ قَعَدَ لابن آدم بأطْرُقه ، قَعَدَ في طريق الإسلام ، فقال : تُسْلِمُ وتَذَرُ دِينَك ودِين آبائك وآباء آبائِك ؟ فعصاه وأسلم ، وقَعَدَ له بطريق الهجرة ، فقال : تُهاجِرُ وتَذَرُ أرضك وسماءَك ؟ وإنما مَثَلُ المهاجر كَمَثَلِ الفرس في الطِّوَل ، فعصاه فهاجر ، ثم قَعَدَ له بطريق الجهاد ، فقال : تُجاهِدُ ؟ فهو جهد النفس والمال ، فتُقاتِل فتُقْتَل ، فتُنكَح المرأة ويُقسَم المال ؟ فعصاه فجاهد ،قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : « فَمَنْ فَعَلَ ذلك كان حقَّا على الله أن يُدْخِلَهُ الجنة ، وإن غَرِق كان حقَّا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصَته دابته كان حقّا على الله أن يُدْخِلَهُ الجنة».أخرجه النسائي.قال الشيخ الألباني : صحيح ج6ص21
2 – السبب الثاني من أسباب الشرك : البيئة المنحرفة الفاسدة
والمراد بالبيئة هنا جميع ما يؤثر في الإنسان ،ويتسبب في تغيير وتبديل سلوكه الذي وجد عليه سواءا كان هذا المغير سببا ماديا أو بشريا أو معنويا ،فهي تشمل المكان والإنسان والأفكار والعادات والإنسان بطبعه كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش حياته منعزلا وحيدا لأنه لابد أن يحتاج إلى الآخرين ،وبالتالي فلابد للإنسان أن يتأثر بمن حوله ،وبما هو سائد في أسرته أو مجتمعه ،وهكذا .
فائدة:
من غرائب بعض العلماء المعاصرين كالشيخ الألباني – رحمه الله –
أنه جعل الجهل والبيئة الفاسدة من موانع التكفير حتى في حق من سب الله أو سب رسوله – صلى الله عليه وسلم –
إن قوم نوح ومن سبقهم كانوا على الفطرة السليمة وهي توحيد الله تعالى ،حتى قام قوم نوح بتغيير ذلك وتبديله فاتخذوا الشرك دينا لهم مكان التوحيد ،وهذا وقع منهم بجهل كما في الأثر الذي اشرنا إليه عن ابن عباس " ...... فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت "
فعبادة غير الله تعالى وقعت بسبب عدم وجود العلم ونسيانه ،فهل كان قوم نوح معذورين بجهلهم لما عبدوا غير الله تعالى ،وهل المشركون الذين بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – فيهم كانوا معذورين بجهلهم وقد كانوا ينتسبون إلى ملة إبراهيم – عليه السلام ،وكثير من الناس الآن ممن ينتسبون إلى الإسلام فعلوا كما فعل المشركون من قوم نوح وأهل الجاهلية ،فلماذا يكونوا معذورين بجهلهم وقد عبدوا غير الله تعالى ،وصرفوا معظم العبادات وتوجهوا بها لغير الله – جل وعلا - ،إن العذر بالجهل له ضوابطه ومسائله ،فلابد من التفصيل في هذه المسألة ،وهذا له موضع أخر
أما العذر الحديث بسبب البيئة الفاسدة فهذا غريب جدا فلم يزل أهل الشرك والضلال في كل عصر يعيشون في بيئات فاسدة
فهل هذا مانع من موانع التكفير ،ثم من قال بمثل ذلك ؟
1 – المؤثر الأول على فطرة الإنسان : الأسرة وخاصة الوالدين
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ....... " الحديث .
ولحماية هذه الفطرة نجد أن الله تعالى حذر من طاعة الوالدين في جميع المعاصي وخاصة فيما يفسد الفطرة وهو الشرك بالله –
قال تعالى " وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان : 15]
فمما لا شك فيه أن الأسرة هي اللبنة الأولى التي يبدأ منها التأثير على الطفل ،فمنها يبدأ التعليم والتأديب والتأثير ،فقد جبل الأطفال على سماع كلام الوالدين وتقليدهما والتأثر بهما
والواقع خير شاهد على ذلك : فمن ولد من أبوين مشركين أو يهوديين أو نصرانيين فإنه يكون على دينهما إلا من رحم الله ،وكذلك من ولد من أبوين مبتدعين فإنه يسير على نهجهما أيضا ،كما هو مشاهد وظاهر ،
ولأجل هذا التأثير الكبير في حياة الأبناء وسلامة فطرتهم ،نجد أن الإسلام اهتم بشان الأسرة اهتماما بالغا ،وكيف لا والأسرة هي اللبنات الأولى في بناء كيان المجتمع ،فإن كانت الأسرة صالحة فسوف يخرج بعد ذلك المجتمع الصالح المسلم
ومن الأمور التي حض عليها الإسلام فيما يتعلق بالأسرة وسلامتها :
1 – اختيار الزوجة : فقد حض الإسلام على اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين والخلق ،لأن الزوجة بعد ذلك لها الدور الكبير في حفظ أولادها وتنشئتهم تنشأة صالحة
ففي الحديث " تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك "
(رواه البخاري جـ5صـ1958 ،ومسلم جـ2صـ1086) .
وكذلك على المراة وعلى وليها لن يختار الرجل المسلم الصالح الذي يتمتع بالالتزام بالدين والخلق القويم ،حتى يستطيع أن يربي أولاده بعد ذلك تربية إسلامية صحيحة
فكما أن البداية الصحيحة لسلامة الفطرة والمحافظة عليها ،وما يترتب على ذلك من وجود أسرة مسلمة محافظة ،ثم المجتمع المسلم ،هو اختيار الزوجين على أساس الدين ،
فكذلك بداية الانحراف والفساد يبدأ بسوء الاختيار لأحد الزوجين ،فإذا كان الأمر كذلك وجب على كل مسلم ومسلمة أن يدرك ذلك ،حتى يعمل على نجاة نفسه وأهله في الدنيا والآخرة .
2 – جعل القوامة للرجل دون المرأة :
فإن أمر الأسرة لا يستقيم إلا بأن تكون القوامة للرجل الراعي لأهله حتى يسيرها وفق شرع الله تعالى ،ولما يتمتع به الرجل من صفات لا يمكن أن توجد في المرأة ،وبذلك قال الله – جل وعلا - ،وهو اعلم بخلقه وبما يكون فيه صلاحهم ،فقال سبحانه " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء : 34]
وهذا ما يتناسب من الفطر السليمة ،وهذا ما كانت عليه البشرية قديما وحديثا ،من هنا ندرك خطورة الدعوة الماسونية الفاجرة القائلة بمساواة المرأة بالرجل ،فإنها دعوة خبيثة أرادوا من خلالها أن يفسدوا المرأة ،وبالتالي تفسد الأسرة ،والنتيجة فساد المجتمع وانحلاله ،وهذا ما حدث بصورة كبيرة .
ولقد انخدع بهذه الدعوة الباطلة الكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام رجالا ونساء لأن الداعي لهذه الدعوة هم الكفار من الشرق والغرب واتبعهم على ذلك أذنابهم الذين يحكمون بلاد المسلمين ،فعقدوا الندوات والمؤتمرات التي يعلنون فيها بأن المرأة مظلومة ومضطهدة ،وحقوقها ضائعة وأخذوا يتطاولون على الإسلام وشرعه الحكيم ،حتى آل الأمر بأن المرأة لها من الحقوق ما يفوق حقوق الرجال .
3 – القيام بالمسؤلية من راعي الأسرة
فكل فرد من أفراد الأسرة يجب عليه إن يقوم بواجبه ،وليست الأسرة مسؤلة فقط من الرجل ،بل من الرجل والمرأة
قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم : 6]
وفي الحديث – قال – صلى الله عليه وسلم – " كلكم راع ومسؤل عن رعيته " (رواه البخاري جـ1صـ304،ومسلم جـ3صـ1459) .
وفيه " والرجل في أهل بيته ومسؤول عن رعيته ،والزوجة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها "
4 – اهتمام الإسلام بتربية الأولاد :
يجب على المربي سواء في ذلك الوالد أو الوالدة أو من يقوم مقامهما الاهتمام الكبير بتربية الأطفال على شرع الله تعالى ،
فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم الصبيان ويلقنهم مسائل الاعتقاد بأسلوب سهل ،كما في حديث بن عباس ،عندما كان خلف النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له : يا غلام ألا أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك ...... " الحديث .
(رواه الترمذي وغيره وهو صحيح وقد شرحه الحافظ بن رجب في رسالة مستقلة )
حتى آداب الطعام كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلمها للأطفال كما في حديث البخاري " ....... يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك "
وكذلك الحث والحض على تعليم الصغار أهم شعائر الإسلام وهي الصلاة
ففي سنن أبي داود جـ1صـ113 أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ،واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ....... " الحديث .
وهكذا اهتم الإسلام بتوجيه الأطفال في كل مسائل الشرع بما يتناسب مع سنهم ،وفي كل مرحلة من مراحل عمرهم لهم ما يناسبهم ،كل ذلك للحفاظ على سلامة فطرتهم من الانحراف والتبديل .
فهذا المؤثر الذي قد يؤثر على فطرة الإنسان يأتي من قبل الأشخاص الملازمين للإنسان ،يتمثل ذلك في الوالدين ،
وهناك مؤثر أخر يتعلق بالأشخاص الذين قد يؤثرون على فطرة الإنسان ،يتمثل ذلك في الأصحاب والأقران .
الأقران والأصحاب :
2 – المؤثر الثاني على فطرة الإنسان : الأصحاب والأقران :
فمن المؤثرات البيئية على الفطرة – أيضا – الأصحاب والأقران ،وسائر أفراد المجتمع المحيطين بالإنسان من غير أفراد الأسرة ،فهؤلاء لهم تأثيرهم في إفساد الفطرة وانحرافها خصوصا إذا كانوا فاسدين ،ولذلك كثر في القرآن الكريم تنبيه المسلمين بل ونهيهم عن مصاحبة الفجار والأشرار ،والغافلين عن دين الله .
قال تعالى " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف : 28] "
وقال تعالى " وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ [القلم : 10]
وقال جل وعلا " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان : 24]
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ،ويأتي في أولها الآيات التي جاء فيها التحذير والنهي عن موالاة الكافرين والمنافقين ،لأنهم دون شك لهم تأثير على تحول الإنسان وانحرافه ،أو الحيلولة بينه وبين إتباع الحق ،
مثال على ذلك :
الحديث الثابت في الصحيحين ،في قصة وفاة أبو طالب عندما دخل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وعنده بعض صناديد الكفر أبو جهل وغيره ،فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول لعمه : أي عم قل لا اله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ،فقال له من حوله من قومه وأقرانه الكفار : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فما زالوا به حتى كان أخر ما قال لهم : أنا على ملة عبد المطلب " (انظر الحديث في صحيح البخاري جـ1صـ457 ،ومسلم جـ1صـ54) .
فهذه ثمرة من ثمرات مصاحبة قرناء السوء والاستماع إليهم ،لذلك قال فتية أهل الكهف بعضهم لبعض " إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف : 20]
مثال أخر :
ما أخبر الله تعالى به عن ملكة سبأ وسبب كفرها ،أنها كانت تعيش في بيئة كافرها ،فصدها قومها عن دين الله تعالى
قال تعالى " وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل : 43]
لذلك جاءت الأحاديث الكثيرة فيها التهديد والوعيد والتحذير لمن أقام بين ظهراني الكافرين ،
والعجيب في أحوال المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأيام أنهم يتركون بلادهم ويهاجرون إلى بلاد الكفار بحثا عن الدرهم والدينار ،فيتأثرون بهم لا محالة – إلا من رحم الله – بل من هؤلاء الشباب من يبحثون دائما ،بل ويدفعون الأموال الطائلة من أجل الحصول على إقامة في بلاد الكفار الأصلية ،بل منهم من يسعى في التجنس بجنسيتهم ،وهذا منهم يعد رضا بهم وبما هم عليه ،ولو ظاهرا .
ومنهم من يتلاعب بدينه فيتزوج أي امرأة ساقطة في هذه البلاد ،ولو على الأوراق لكي يحصل على الإقامة .
كل هذا يحدث لأن الدين ليس في حساب هؤلاء ،ومن ثم تضييع منهم البقية الباقية هناك في بلاد الكفار
وإذا كان الله تعالى نهى عن مجرد مجالستهم والاستماع إليهم ،فكيف بمن يسعى لكي يعيش بينهم ويكون واحد منهم
قال تعالى " وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 68]
وقال – جل وعلا – " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء : 140]
وقد حذر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من مصاحبتهم والإقتداء بهم في أحاديث عديدة ،وذلك لما لهم من التأثير الفاسد في الدنيا والآخرة على فطرة الإنسان ودينه
التقليد المذموم :
3 – المؤثر الثالث على فطرة الإنسان : تقليد الآباء والأجداد الضالين
إن من أخطر أسباب الكفر التي وقعت من غالب الأمم تقليد الآباء والأجداد الضالين ،والتمسك بما كانوا عليه ،والدفاع عنهم ،بل وقتال من أراد هدم ما كانوا عليه
على الرغم من أن هؤلاء الكفار لا حجة لهم ولا برهان فيما يفعلونه ،بل لا حجة لهم ولا برهان عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم ،ومع ذلك يعبدون نفس ما كان يعبد الآباء والأجداد تقليدا لهم فقط .
كما قال تعالى " مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود : 109]
المهم هو الإقتداء بما كان عليه هؤلاء الآباء والأجداد ،بغض النظر عن حقيقة ما كانوا عليه من شرك أو ضلال ،أو غير ذلك ،
قال تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف : 22]
وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتبعوا ما جاء من عند الله تعالى فإنه لا يكون إلا حقا ،رفضوا ذلك وأعلنوا بوضوح أنهم لا يتركون ما كان عليه الآباء والأجداد – قال تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة : 170]
وهذا يدل على أنهم اكتفوا بما كان عليه الآباء ولا يريدون غيره ،حتى وإن كان هذا الغير هو الحق النازل من عند الله تعالى .
قال تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [المائدة : 104]
فهم يعتقدون أن الرسل إنما جاءتهم لتبعدهم عما كان عليه الآباء ،وهم لا يتخلون أبدا عن ذلك
قال تعالى عنهم " قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس : 78]
إذن هؤلاء المشركين يتمسكون بباطلهم وشركهم مع علمهم أن الرسل ما جاءتهم إلا بالتوحيد الخالص ،ولكنهم رفضوا هذا التوحيد لكونه يخالف ما كان عليه الآباء والأجداد .
قال تعالى حكاية عن المشركين " قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف : 70]
بل أعلنوها صراحة أنهم يكفرون بما جاءت به الرسل ،لأن في إتباع الرسل مخالفة ما كان عليه الآباء والأجداد
قال تعالى " قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف : 24]
وتقليد الآباء والأجداد صفة ذميمة لأنها تعمي البصيرة وتمنع نور الحق أن يصل إلى الفطرة ،فهؤلاء كفار قريش لما أعمتهم هذه الصفة ،جعلتهم يذمون ويعادون كل من خالف دين آبائهم ولو كان على الحق المبين ،فهذا الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما دعاهم إلى الحق ،وخرج على دين آبائهم وصفوه بابن أبي كبشة ،وذلك نسبة إلى رجل من خزاعة يدعى أبو كبشة وهو من أشرافهم وكان أول من سن لخزاعة مخالفة العرب في عبادة الأوثان ،وجعلهم يعبدون نجم الشعرى ،فجعلت قريش مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لدينهم ودعوتهم إلى الحق والهدى كمخالفة أبي كبشة لهم " (انظر في ذلك تفسير معالم التنزيل للبغوي جـ7صـ419)
أقول : وشبيه بتقليد الآباء والأجداد في الضلال والباطل ،وأن ذلك يؤثر على الفطرة ويدفعها إلى الانحراف ،ما عليه كثير من الناس بل كثير من الجماعات من تقليد المشايخ والعلماء تقليدا أعمى ،حتى إنهم يردون النصوص الشرعية الواضحة إذا كانت متعارضة مع كلام هؤلاء المشايخ والعلماء ،ودائما ما يقولون مشايخنا أعلم بالكتاب والسنة ،فما هم عليه لا يخرج عن الكتاب والسنة
وهل انحرف اليهود والنصارى عن دينهم إلا بسبب ذلك ،عندما صاروا وراء الأحبار والرهبان وأعطوهم الطاعة المطلقة ،فآل أمرهم إلى ترك النصوص الواضحة الصريحة ،والأخذ بأقوال علمائهم .
فقال الله في حقهم " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة : 31]
مواطن التوجيه والأرشاد
4 – المؤثر الرابع على فطرة الإنسان : المؤسسات التربوية والثقافية بشتى أنواعها وفي جميع مراحلها :
لا شك أن وسائل التربية والتثقيف عليها دور كبير في إصلاح الفطرة والمحافظة عليها ،والعمل على إفساد الفطرة وانحرافها .
وفي المجتمع الجاهلي الذي ابتعد عن منهج الله تعالى ،واستقى مناهجه بعيدا عن الدين ،من الطبيعي أن تكون مؤسساته وهيئاته التربوية والتعليمية موافقة لمنهج الجاهلية ،كما هو واقع الناس الآن ،ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي توضح ذلك :
المثال الأول : يتمثل في أولى مراحل الإنسان – أي : في طفولته ،ولأجل توجيه الأطفال وتربيتهم في هذه المرحلة أنشاوا ما يسمى بالمدارس الخاصة ،وكذلك " الحضانات "
والغالب على هذه المدارس الخاصة أن مناهجها توضع بدقة لتوجيه الأطفال توجيها أجنبيا ،والدليل على ذلك الاهتمام باللغات الأجنبية مع إهمال اللغة العربية التي هي لغة القرآن ،ومن خلالها يعرف الناس دينهم ،وأيضا هذه المدارس تهتم بالدخل المادي أكثر من نظرتها إلى أي شيء أخر ،أي إنها مشروع مادي لجلب المزيد من الأموال ،
أضف إلى ذلك ما يتلقاه الأطفال ممن يقومون على تعليمهم ،فمثلا :
الطفل الصغير بفطرته التي فطر عليها يقر لله تعالى بصفة العلو ،فإذا سألت أي غلام ،أين الله ،أشار إلى السماء ،وإن كان ممن يتكلم قال في السماء ،ولكنه بمجرد أن يذهب إلى هذه المدارس الخاصة أو الحضانات تجده يقول إن الله في كل مكان ،إلى غير ذلك .
يقول أحد المنصرين " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني لأن كثيرا من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية " اهـ (دوافع إنكار الحق ،للشيخ الملاحي صـ66) .
حتى التعليم الديني الأزهري فيه خلط وتلبيس كبير ،يكفي أنه يقوم بتدريس العقيدة الاشعرية المنحرفة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة .
ثم تكون الثمرة في المجتمع بعد ذلك ممن درسوا هذه العقيدة أن يقوموا بالدعوة إليها فيتأثر بها الناس وينحرفوا عن فطرتهم ،وهذا هو الواقع ،أن أكثر المسلمين يدين بالعقيدة الاشعرية الارجائية على أنها الحق ،وأنها عقيدة أهل السنة والجماعة
وأخطر هذه المراحل مرحلة الجامعات ،خاصة الجامعات الخاصة ،الجامعات الأجنبية كالجامعة الأمريكية والفرنسية ،وغيرهما ،فهناك تتلقى الطلبة كيفية التمرد على الدين والخروج عليه باسم الحرية والتفكير والعقلانية ،إلى غير ذلك ،
أضف إلى ذلك الانحرافات الخطيرة في السلوك والأخلاق ،وتعظيم مدنية الغرب ،ووصف المسلمين والإسلام بالتخلف والرجعية ،إلى أشياء كثيرة يصعب حصرها .
المثال الثاني : من المؤسسات التربوية والثقافية التي تساعد على هدم الفطرة من جذورها في هذه الأيام : المؤسسات الإعلامية المرئية منها والمسموعة والمقروءة
تعالى إلى الصحف والمجلات والكتب التي تصدر يوميا وأسبوعيا أو شهريا تجد أنها لا دخل لها بالإسلام ،بل لا هم لها إلا محاربة الإسلام والمسلمين ،ونشر المناهج العلمانية الكافرة بكل وسيلة وهم في ذلك يفسحون المجالات للكافرين الأصليين والمرتدين ،والمنافقين أن يقولوا ما شاءوا ،في نفس الوقت الذي يغلقون فيه الأبواب أمام دعاة الحق والهدى
فلا تخلو صحيفة من هذه الصحف ،أو مجلة من هذه المجلات من كفر صريح ،ودعوة إلى الفاحشة والرذيلة ،فالصور العارية تملأ الصحف والمجلات ،بل حتى على جوانب الطريق والميادين العامة ،إنها دعوة للتحلل والفاحشة .
فإذا جئت إلى الإعلام المرئي من التلفاز والفضائيات فحدث ولا حرج ،فكل شيء مباح ،والناس في بيوتهم وفي غرف نومهم يدخل إليهم الدعوة إلى الكفر صريحة ،والدعوة إلى الفاحشة سريعة ،وهكذا
كل ذلك أثمر ما هو مشاهد في واقع الناس من التحلل من الدين بل وازدراء الدين ،بل وسب الدين ،مع الإعلان بالفسق والفجور دون أدنى حياء أو خجل ،لأن قدوتهم أصبحت في أهل الكفر والعفن والانحلال ،
ففسدت فطرة الناس فسادا عريضا ،وأصبح أهل الحق بصدق ،وأصبح أهل التوحيد بحق غرباء بين الناس الذين يزعمون أنهم مسلمون .
الفساد السياسى :
5 – المؤثر الخامس على فطرة الإنسان : الفساد السياسي :
عندما كان المسلمون الأوائل يسوسون الدنيا بالدين صلحت لهم دنياهم وآخرتهم ،وحافظوا للناس على فطرتهم التي فطروا عليها ،لماذا لأن مقاليد الأمور كانت بأيدي الصالحين من أمثال أبي يكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم أجمعين - ،وغيرهم من ملوك وأمراء المسلمين .
وعندما وصل الأمر إلى المفسدين تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع ،وتعرضت الفطرة إلى الضياع والانسلاخ ،لأن الأمر أصبح بيد أعداء الفطرة والإسلام ،ولا يمكن لأعداء الدين من المفسدين أن يعملوا على نشر الدين ،لأنه يتعارض مع مصالحهم وأهوائهم ،فيعملون على نشر ما يحقق لهم أهدافهم ،وهم لا بقاء لهم في مناصبهم الا بمحاربة الدين والدعاة ،فليكن ذلك كذلك لكي يستمروا على مناصبهم ،ويحققوا مصالحهم .
وتاريخ البشرية خير شاهد على ذلك أن المفسدين إذا كانوا هم ولاة الأمور وبيدهم مقاليد الحكم لا يتأخرون أبدا عن حرب الإسلام والمسلمين حتى لو أدى ذلك بهم إلى قتل الأنبياء والرسل :
1 – هذا إبراهيم – عليه السلام – ألقاه قومه في النار
" فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت : 24]
2 – وهذا فرعون – لعنه الله – سخر كل ما يملك لحرب موسى – عليه السلام – ودعوته
" َالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف : 127]
3 – وهذا لوط – عليه السلام – أخرجه قومه
" فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل : 56]
4 – وهذا الملك الكافر وما فعله بأصحاب الأخدود
" وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
إلى غير ذلك مما هو مذكور في الكتاب والسنة ،وكتب التاريخ
وهذا ما أراد سفهاء قريش أن يفعلوه مع نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد حاولوا قتله ،وهاجر من أرضه التي هي أحب القاع إلى الله وإلى رسوله – صلى الله عليه وسلم - ،لكونهم لا يريدون الحق ،وأن هذا الدين يتعارض مع سيادتهم وحكمهم ومصالحهم .
وكذلك ما فعله عبد الناصر ،والقذافى ،وحافظ الأسد ،وحسنى مبارك ،وما يفعله الآن بشار الأسد – قاتله الله ،ومن بعدهم ،بالمسلمين وبالدعاة إلى الله شاهد على أن الطغاة المفسدين يعملون جاهدين على انحراف الناس عن فطرتهم التي فطروا عليها ،فهم يعملون على إخراج أجيال لا صلة لهم بالإسلام إلا اسما ويكفيهم ذلك ،ويشترك في هذه الجريمة دعاة المرجئة في عصرنا الحديث .
كل ما ذكرناه من المؤثرات البيئية السابقة مجتمعة تدل على خطورة البيئة الفاسدة على الفطرة السليمة ،
لهذا لما رأى نوح – عليه السلام – فساد قومه وبيئتهم وانحرافهم عن الفطرة،مع انقطاع أمله في إصلاحهم ،مع إعلام الله تعالى له ،أنهم لن يؤمنوا دعا عليهم بدعائه المشهور بقوله :
" وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27)
ومن المؤثرات الخطيرة التي تفسد الفطرة في واقعنا عدة أمور أخرى تحتاج إلى بسط وتفصيل ،ولكن حسبنا هنا الإشارة إلى ذلك
فمن ذلك : أ – السفر إلى بلاد أهل البدع ،كالشيعة في إيران مثلا ،فكم من إنسان سافر إلى هناك فصار مثلهم في بدعتهم ناقما على أهل السنة ،فأمثال هؤلاء لا يجالسون ولا يصاحبون ،بل هجرهم هو الدين والسنة ولا ينخدع أحد بما يروجه أهل الضلال من بعض العلماء وبعض الجماعات أنه لا فرق بين السنة والشيعة ،والخلاف بينهم في الفروع دون الأصول فهؤلاء إما جهال لم يعرفوا دينهم ،وإما أصحاب مصالح تأتي إليهم من وراء الترويج لذلك
ب – كذلك يجب على المسلم في هذا الواقع أن يبتعد عن أهل الغلو من الجماعات التي تأخذ بأصول الخوارج والمعتزلة في التكفير المطلق دون أي ضوابط ،فهؤلاء يفسدون الفطرة ،لأنهم يدعون إلى خلاف ما جاء في الشرع الحنيف ،فمصاحبة أمثال هؤلاء لا شك أنها تضر بالإنسان لكونه قد يتأثر بها .
جـ - كذلك يجب على المسلم في هذا الواقع إن يبتعد عن أهل التقصير والتفريط ،فأهل التفريط يتمثلون مثلا الآن في المذهب الأشعري السائد للأسف بين الكثير من العلماء وطلبة العلم ،وأكثر الناس ،وهم لا يشعرون سواء في مسائل الإيمان ،ومسائل الصفات ،فهؤلاء قد يفسدون فطرة الناس ،وأقرب مثال على ذلك أن الأشعرية يرون أن الله تعالى في كل مكان ،هذه عقيدة لهم ،تعالى واسأل غالب الناس عن هذا المعتقد تجدهم يقولون بقول الاشعرية هؤلاء ،مخالفين الفطرة التي فطر الله تعالى العباد عليها من اعتقاد علو الرب سبحانه وتعالى
د – كذلك يجب على المسلم أن يحذر في هذا الزمان من مجالسة أهل الإرجاء الذين يدعون إلى تمييع الدين ،وطمس معالم الدين ،خاصة فيما يتعلق بأحكام الكفر والإيمان ،فطائفة ليست قليلة من أهل العلم يذهبون إلى هذا المذهب الخبيث ،بل منهم من يزعم أنه من دعاة الدعوة السلفية ،فهؤلاء في الحقيقة يهدمون دعوة السلف ويهدمون الفطرة .
هـ - كذلك يجب على المسلم أن يحذر في هذا الزمان من بعض الجماعات التي تعمل دائما على أسلمة الكفار ،والتوفيق بين الإسلام والجاهلية ،وأبرز هذه الجماعات هي جماعة الإخوان المسلمين ،فلا تزال تنتقل من سيء إلى أسوأ ،فهؤلاء لا يجالسون ولا يصاحبون ،حفاظا على الدين والفطرة .
4- السبب الرابع من أسباب الشرك :الإعجاب والتعظيم والتقديس:
فطرت النفس البشرية على الإعجاب بالبطولة وغيرها كإعجاب الابن بوالديه وهو أمرى فطرى وشرعى ،واعجاب الجندى بقائده ،واعجاب طالب العلم بشيخه ،وهكذا
ولكن لا بد من التفريق بين الاعجاب المحمود والاعجاب المذموم
فمن الاعجاب المحمود إعجاب الولد بوالده والقيام على بره وطاعته فى المعروف
يقول الله تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)الإسراء: 23،24)0
ومن ذلك تعظيم النبى المرسل فهو مطلوب كذلك:
قال تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً [النساء : 64
وقال تعالى "لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور : 63
وقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات : 2 إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات : 3
وتعظيم العلماء والصالحين من الأمة واجب : (وَإِن العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء، وَإِنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دِينارا ولا دِرْهما ، وَرَّثُوا العلم ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظّ وَافِر" رواه أبو داود والترمذى ، قال الشيخ الألباني : صحيح ج5ص48
…ولكن الانحراف ينشأ من زيادة التعظيم حتى يصل إلى التقديس، فهنا يدخل فى دائرة الشرك؛ لأن التقديس لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده بغير شريك. وكل تعظيم وصل إلى حد التقديس، سواء كان لشخص مثل الصالحين والأنبياء والعلماء والعباد وغيرهم كالملائكة والجن أم لشىء مثل الشمس والقمر والنجوم وما فى هذا الوجود فهو شرك؛ لأنه توجه لغير الله بما لا ينبغى إلا له .
…ومن هذا اللون من الانحراف نشأ كثير من الشرك فى تاريخ البشرية، مما جاء ذكره فى القرآن والأحاديث النبوية0
تعظيم الصالحين من الأسباب المؤدية إلى الشرك
…يقول الله تعالى : " قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً [نوح : 21 وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح : 22 وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح : 23
…ويقول ابن كثير فى التفسير : (وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس: هذه أصنام كانت تعبد فى زمن نوح. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : (ويغوث ويعوق ونسرا) قال كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم) 0اهـ تفسير ابن كثير ج8ص235
كذلك وقع فريق من المنحرفين فى الشرك بتقديس أنبيائهم:
قال تعالى " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة : 30
كذلك وقعوا فى تقديس أحبارهم ورهبانهم:
قال تعالى " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة : 31
ووقع بعضهم فى الشرك بسبب تعظيم الملائكة والجن - وهم خلق من خلق الله - فزعموا أنهم أبناء الله وبناته، وقدسوهم على هذا الاعتبار، فيقول الله عنهم :
"وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام : 100
وقال تعالى " وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات : 158 سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات : 159
وقال تعالى " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف : 19 وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف : 20
ووقع فريق آخر من البشر فى الشرك بسبب تعظيم بعض الأجرام السماوية إلى حد التقديس، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم،
يقول الله تعالى :" وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت : 37
وقال تعالى عن أهل سبأ " وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النمل : 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل : 25 اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل : 26]
وقال لبعضهم الذين عبدوا نجم الشعرى لشدة لمعانه فى السماء :
"وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم : 43 وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم : 44 وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى [النجم : 45 مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم : 46 وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [النجم : 47 وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم : 48 وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم : 49
وهكذا دخلت هذه الفرق الضالة كلها فى الشرك من باب تعظيم الأشخاص، أو أشياء هى من خلق الله، فقد عبدوهم مع الله أو من دون الله، وضلوا بذلك عن الفطرة السوية التى تتجه لله وحده تعبده بغير شريك0
هذا السبب هو الذى أوقع عباد القبور والأولياء فى عبادة غير الله تعالى ، فصاروا إلى ما صار إليه إخوانهم من المشركين الأولين
فتوى :
سئل الشيخ الفوزان : هل يقدم الإنكار على عباد القبور والأوثان وأهل البدع على جهاد الكفار ؟
الجواب " هم كلهم كفار ، عباد القبور كفار ، وما بينهم فرق وبين الكفار ، لكن ربما يقال : إن عباد القبور مرتدون لأنهم كانوا مسلمين ثم عبدوا القبور فارتدوا فيعاملون معاملة المرتدين " اهـ الإجابات المهمة فى المشاكل الملة ص55
5- السبب الخامس من أسباب الشرك :الميل إلى الإيمان بالمحسوس والغفلة عن غير المحسوس :
فى الإنسان - كما فطره الله - نزعتان فطريتان متكاملتان: إحداهما تنزع إلى الإيمان بالمحسوس، أى ما يقع فى دائرة الحس ويمكن للحواس أن تدرك وجوده بالنظر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس، والأخرى تنزع إلى الإيمان بالغيب، أى بما لا يقع فى دائرة الحس ولا يمكن للحواس أن تدرك وجوده بطريق مباشر.
وإذا كان الإنسان يشترك فى النزعة الأولى مع بعض المخلوقات الأخرى، فقد خصه الله بالنزعة الثانية - وهى الإيمان الغيب - وكرمه بها، وفضله بها عن كثير ممن خلق. وكانت هذه الموهبة الربانية من عوامل رفعة الإنسان واتساع أفقه وعظمة روحه، وانفساح المجال أمامه وراء المحسوسات القريبة إلى آفاق التفكير والتدبر فى الكون كله لينتفع به ويستدل على عظمة خالقه ومبدعه0
ولكن فطرة الإنسان عرضة للمرض كما قلنا، إذا لم يداوم على رعايتها وتقديم الغذاء الصالح لها، من ذكر لله وتقرب إليه بالأعمال الصالحات، وعندئذ يرين على القلوب ما يرين عليها من ظلمات :
قال تعالى" كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين : 14
ومن الأمراض التى تصيب فطرة الإنسان أن تغفل عن غير المحسوس، وتحصر اهتمامها رويداً رويداً فى دائرة المحسوس وحده، ثم تمتد بها الغفلة حتى تستغنى تماماً بعالم الحس عما وراءه، بل تمتد بها الغفلة أحياناً أكثر من ذلك فتنكر ما وراء الحس إنكاراً كاملاً وتزعم أنه غير موجود
…وفى المراحل الأولى من هذه الغفلة لا ينكر المشرك وجود الله، ولكنه يتلمس صورة محسوسة قريبة يضفى عليها فى خياله بعض خصائص الألوهية من نفع وضر، وعلم للغيب، وتصريف للأمر بالمشاركة مع الله! فمع أنه يعلم أن الله هو الخالق، وأنه لا يشاركه أحد فى الخلق، إلا أنه يزعم أن فلاناً من الناس ( نبياً كان أو ولياً من أولياء الله الصالحين) أو الملائكة، أو الجن، أو صنماً من الأصنام يستطيع أن يضر أو ينفع، أو يستجيب للدعاء، أو يبسط الرزق لمن يشاء، أو يعلم الغيب ويخبر به من يستطيع أن يتلقى عنه.
وفى مثل هذه الصورة كان العرب فى جاهليتهم. فقد ورد فى القرآن أنهم يعرفون أن الله موجود وأنه هو الخالق :" وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت : 61
وقال تعالى"وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف : 87
…ومع ذلك كانوا يشركون به الجن والملائكة والأصنام التى يعبدونها - فى زعمهم لتقربهم إلى الله زلفى!
…ولكن الغفلة كما قلنا قد تمتد إلى أبعد من ذلك. فيغفل المشرك عن الله الذى " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام : 103
…ويتصور أن الشىء المحسوس هو الله. فهنا لا يكتفى المشرك بأن يزعم لتلك المحسوسات بعض خصائص الألوهية، بل يضفى كل خصائص الألوهية عليها. وفى مثل هذه الصورة كان المصريون فى زمن الفراعنة إذ كانوا يزعمون أن (رع)- وهو قرص الشمس- هو الخالق وهو الرازق وهو المحيى المميت، وهو الذى يبعث الناس يوم القيامة ويحاسبهم! كما كان المجوس ينسبون الخلق والضر والنفع والإحياء والإماتة للنار! وفى مثل هذا المستوى كذلك كانت الجاهلية الرومانية والجاهلية الإغريقية والجاهلية الهندية والجاهلية الصينية.
…وبعض هذه الجاهليات كان يضيف إلى ذلك الشرك لوناً آخر، فيزعم أن فلاناً من البشر هو ابن الله، ويضفى عليه بعض خصائص الألوهية أو كلها، كما كانت الجاهلية الفرعونية تزعم أن الفرعون هو ابن الله(ابن الإله رع)، وأنه يجلس عن يمينه يوم القيامة.
والجاهلية الهندية تزعم أن البراهما خلقوا من رأس الإله، وأنهم من أجل ذلك مقدسون ولا يحاسبون على أعمالهم (بينما المنبوذون نجسون لأنهم مخلوقون من قدم الإله ولذلك فهم مهينون ومحتقرون!!).
ولا تختلف النصرانية المحرفة كثيراً عن ذلك! إذ زعمت أن المسيح ابن مريم هو ابن الله. وقالت مرة إنه هو الله، ومرة قالت إنه واحد من ثلاثة يكونون فى مجموعهم إلهاً واحداً. وإلى ذلك يقول الله تعالى :
" لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة : 17 …
وقال تعالى " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة : 72
وقال تعالى " لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة : 73]
…وقد وصل بنو إسرائيل إلى درجة أبشع من ذلك حين قالوا لموسى :" لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة : 55]
…وحين مروا على قومن يعبدون الأصنام فقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً (أى صنماً) نعبده مثل هؤلاء القوم: " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف : 138
…وحين عبدوا العجل واتخذوه إلهاً :" فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه : 87 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه : 88
…كل هذا ونبيهم بين ظهرانيهم يعلمهم أمر دينهم 0
…أما الدرجة القصوى من هذه الغفلة فهى التى تؤدى إلى إنكار وجود الله ألبتة
6- السبب السادس من أسباب الشرك اتباع الهوى والشهوات :
من الأمراض التى تصيب الفطرة كذلك وتوقعها فى الشرك غلبة الهوى والشهوات. ذلك أن دين الله المنزل يشمل دائماً أحكاماً إلهية يأمر الله البشر أن يلتزموا بها وينفذوها لتستقيم حياتهم وتتوازن :" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد : 25
وحين تكون الفطرة مستقيمة فإنها تتقبل ما فرضه الله عليها بالرضا، وتجتهد فى تنفيذه تعبداً لله وطمعاً فى رضاه.
ولكن حين يغلب عليها الهوى وحب الشهوات فإنها تضيق بما أنزل الله وتحب أن تتبع شهواتها. وفى ذلك يقول الله :" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان : 21
وقال تعالى " فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم : 59
وقال تعالى " فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50
وقال تعالى " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان : 43
وقال تعالى " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران : 14]
ومن أجل هذه الشهوات يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كما يصفهم الله :
قال تعالى " ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل : 107] أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [النحل : 108
قال تعالى " الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ [إبراهيم : 3
وهؤلاء يرفضون الهدى الربانى، ويرفضون أن يعترفوا بالوحى المنزل من عند الله، ولو استيقنوا فى دخيلة أنفسهم أنه الحق، لأنهم لو اعترفوا لكان عليهم أن يلتزموا، وهم يكرهون الالتزام بما أنزل الله، لأن شهواتهم تغلبهم وتثقل فى حسهم.
لذلك ينكرون أن ما جاء من عند الله هو الحق، ويجادلون فيه بالباطل، ويضعون قواعد وموازين للحياة وللأعمال غير ما قرر الله، ثم يزعمون أنهم هم من الذين على الحق، وأن ما يتبعونه من نظم وقواعد وموازين أحق أن يتبع مما أنزل الله، فيقعون بذلك فى الشرك -شرك الإتباع.
وعلى هذه الصورة، كانت الجاهلية العربية التى ذكرها الله فى القرآن ذكراً مفصلاً فى كثير من الآيات فى السور المكية خاصة.
وعلى هذه الصورة كذلك نجد الجاهلية المعاصرة التى غرفت فى الشهوات إلى أذنيها، ورفضت الاعتراف بالوحى الربانى؛ لأنها تريد أن تتبع أهواءها ولا تريد أن تلتزم بما أنزل الله.
والواقع يشهد : بأن المناهج الأرضية المنحرفة عن منهج الله تعالى من العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والرأسمالية والدعوات القومية وغير ذلك مردها إلى إتباع الهوى
يقول سيد فى الظلال "" فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50
"إن الحق في هذا القرآن لبين؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة ، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده . وإنهما لطريقان لا ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم . وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق . ولا حجة من غموض في العقيدة ، أو ضعف في الحجة ، أو نقص في الدليل . كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } . .
وهكذا جزما وقطعا . كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها . . إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولا معذرة ، متبعون للهوى ، معرضون عن الحق الواضح :
{ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ } . .
وهم في هذا ظالمون باغون :
{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن ، ولم يحيطوا علماً بهذا الدين . فما هو إلا أن يصل إليهم ، ويعرض عليهم ، حتى تقوم الحجة ، وينقطع الجدل ، وتسقط المعذرة . فهو بذاته واضح واضح ، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه ، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه ، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله . { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم ، وعرضه عليهم ، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل" اهـ الظلال ج5ص431
وهل ضل اليهود والنصارى إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل حرفوا ما أنزل الله إلا بسبب إتباع الهوى ؟ وهو نفس الحال أن المتأسلمين حادوا عن منهج الله وشرعه إلى المناهج المنحرفة الباطلة إتباعا للهوى والشهوات
خطورة اتباع الهوى :
الهوى لم يأت في كتاب الله تعالى الا مذموما ،لأنه من أخطر الأسباب المفسدة للفطرة .
يقول سيد قطب – رحمه الله – في " الظلال " جـ6صـ3819 :
" الدافع القوى لكل طغيان ولكل تجاوز ،وكل معصية ،وهو أساس البلوى وينبوع الشر ،وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى "اهـ.
لهذا جعل الله – تبارك وتعالى – مخالفة الهوى شرطا من شروط دخول الجنة – قال تعالى " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
وهل يقع الإنسان في الضلال والكفر والابتداع إلا بسبب إتباعه لهواه ،بل كل من خالف الكتاب والسنة من أهل البدع غالبا ما يكون السبب هو إتباع الهوى ،،لذلك سماهم أهل السنة : بأهل الأهواء
وفي المقابل نجد أن الشرع بين ووضح لنا أن من الجهاد المشروع لكل مسلم أن يجاهد نفسه وهواه حتى يستقيم على الحق ،
بل جعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا النوع من الجهاد من أفضل أنواع الجهاد
فقال – صلى الله عليه وسلم – " أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه " .
( أخرجه المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " جـ2صـ601-602 ،وذكره الشيخ الألباني في " صحيح الجامع الصغير وزيادته " رقم 1099،جـ1صـ247 ،وكذلك ذكره في " السلسلة الصحيحة " رقم 1491،1496 ) .
" بعض لوازم إتباع الهوى "
1 – إتباع الهوى من أسباب تكذيب الأمم للرسل :
قال تعالى " أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة : 87]
وقال سبحانه " كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة : 70]
أي : أن الحامل للكفار على تكذيب الرسل والاستكبار عن متابعتهم هو إتباعهم للهوى ،فإنهم يريدون دينا يوافق أهوائهم .
فحملهم إتباع الهوى على تكذيب الرسل ،ومع هذا التكذيب قد يقتلون فريقا من الأنبياء كما فعل اليهود – لعنهم الله - .
2– إتباع الهوى ينتج عنه عدم الاستجابة للحق :
وهذا واضح في قوله تعالى " فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50]
3 – إتباع الهوى دليل على الظلم :
قال تعالى " َمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50]
وقال سبحانه " بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [الروم : 29] "
4 – إتباع الهوى سبب كل ضلال وفساد في الأرض :
قال تعالى " وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [صـ : 26]
وقال سبحانه " قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام : 56]
وقوله جل وعلا " وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام : 119]
وقال سبحانه " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [المؤمنون : 71]
5 – إتباع الهوى سبب الإعراض عن الحكم بما أنزل الله :
قال تعالى " فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة : 48]
فالحكم بالأهواء فيه ترك لحكم الله المنزل
وقال تعالى " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة : 49]
والآيات في التحذير من إتباع الهوى وبيان خطره وضرره ،وما جاء في عاقبة أهله ،شيء كثير ،ومن أخطر ما جاء في ذلك قوله تبارك وتعالى " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان : 43]
وقوله سبحانه " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية : 23]
واخطر ما في أمر إتباع الهوى أن صاحبه لا يكتفي بضلاله وحده بل يسعى لإضلال غيره ،وهذا ما وقع من أهل البدع والأهواء ،من قيامهم من الدعوة إلى باطلهم ،بل من هذه الفرق من قاتل المسلمين على ما هم عليه .
قال تعالى " فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه : 16]
وقال – جل وعلا – "وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة : 77]
وهناك أحاديث حذر فيها الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمته من إتباع الهوى :
قال – صلى الله عليه وسلم – " ثلاث مهلكات – وذكر منها – هوى متبع " ( رواه البزار في " مسنده " رقم 3366 ،والطبراني في " الأوسط " رقم 5452 ،5754 ،وحسنه الشيخ الألباني بمجموع طرقه ،كما في " صحيح الجامع الصغير وزيادته " جـ1صـ584- رقم 3045 ،و" السلسلة الصحيحة " رقم 1802 ) .
بل كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتعوذ من الأهواء
" اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء "( أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " جـ6صـ77 ،والترمذي في " سننه " جـ5صـ575 ،وابن حبان في " صحيحه " جـ3صـ240 ،والطبراني في " الكبير " رقم 36
وقال – صلى الله عليه وسلم – " إن مما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم ومضلات الأهواء " ( رواه احمد في " مسنده " برقم 19787 ،19788 وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب " السنة " لابن أبي عاصم جـ1صـ12 ) .
ولقد حذر السلف الصالح من إتباع الأهواء ،وردوا على أهلها إما إجمالا ،أو تفصيلا ،فقد كتبوا في ذلك المصنفات الكثيرة ،فمنهم من كان يكتب ويصنف في الرد على بدعة معينة ،أو على طائفة معينة ،ومنهم من كان يصنف تصنيفا عاما في الرد على عموم أهل الأهواء ،وممن افرد في الهوى مصنفا مستقلا الإمام " ابن الجوزي " – رحمه الله – في كتابه " ذم الهوى " .
وبهذا يتبين أن إتباع الهوى سواء كان لشهوة أو شبهة من مفسدات الفطرة ،وسبب من أسباب انحرافها عن الحق
7- السبب السابع من أسباب الشرك : الكبر عن عبادة الله :
وهو الباب الذى كفر منه إبليس ، كما بين الله تعالى فى القرآن
قال تعالى : (وَإِذْ قُلنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34)
وقال تعالى : ( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (صّ:74)
وقال تعالى على لسان نوح : ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح:7)
وقال تعالى عن المشركين : ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات:35)
وقال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الصفدية 2/314
ومن استكبر عن عبادة الله فلم يستسلم له فهو معطل لعبادته وهو شر من المشركين كفرعون وغيره قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(غافر: من الآية60) . أهـ
وقال ابن القيم في (المدارج 1/337 ) :
"وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار ؛ وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه :
( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)(المؤمنون: من الآية47)
وقول الأمم لرسلهم : ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا )(إبراهيم: من الآية10)
وقوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) (الشمس:11)
وهو كفر اليهود كما قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَهمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)(البقرة: من الآية89) وقال : ( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهمْ )(البقرة: من الآية146)
وهو كفر أبي طالب أيضا ؛ فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية ، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر" أهـ
أقول : وما إبليس إلا زعيم حزب الباطل وما أكثر أتباعه ، وصدق الله تعالى حيث يقول " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ : 20]
فيدخل فى ذلك هذه الأحزاب الرافضة لأقامة حكم الله وشرعه وإن كانوا ينتسبون إلى الإسلام
والكبر كذلك :من الأمراض التى تصيب الفطرة فتنحرف بها عن صورتها السوية وتوقعها فى الشرك.
والكبر درجات تبدأ بالاستكبار على الناس وتنتهى بالاستكبار على عبادة الله. وكلها خلق مقيت مرذول لا يصدر عن نفس سوية مستقيمة؛ لذلك يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - : (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر)رواه البخارى
وغالباً ما يكون الكبر فى نفوس من حصلوا على شىء من متاع الحياة الدنيا، من مال أو جاه أو سلطان. ولكنه ليس وقفاً عليهم، ويمكن أن يتسرب إلى أى نفس مريضة فيصاب صاحبها بما يسميه المعاصرون (جنون العظمة) ولو كان من أحقر الناس!
ويبين لنا الله فى كتابه الحكيم أن الكبر من أسباب الكفر والشرك، كما جاء فى قصة النمرود :" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258
وكما جاء فى قصة فرعون :" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزخرف : 51
وقال تعالى "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات : 17فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى [النازعات : 18وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات : 19فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [النازعات : 20فَكَذَّبَ وَعَصَى [النازعات : 21ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات : 22فَحَشَرَ فَنَادَى [النازعات : 23فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات : 24فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [النازعات : 25]
وكما كان من أمر الوليد بن المغيرة : "ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لأٌّيَتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ" المدثر : 11-26)0
…ثم بين لنا الله أنها قاعدة شاملة وليست ظاهرة فردية : " إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر : 56]
…وهذا الكبر عن عبادة الله أوضح ما يكون فى الجاهلية المعاصرة، فهو ليس وقفاً على أصحاب المال أو الجاه أو السلطان، إنما سرى المرض فى جسم الغرب حتى صار أتفه الناس شأناً يستكبر عن عبادة الله !
خطورة الكبر:
فالكبر يقود صاحبه إلى رد الحق والامتناع عن قبوله ،مع ازدراء أهل الحق ،فيحجب فطرته عن الهدى والنور .
فقد استكبر المشركون عن قبول كلمة التوحيد وما دلت عليه من أفراد الله تعالى بالعبادة والحكم والولاء
قال تعالى " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
وما امتنع المشركون عن التلفظ بالشهادتين إلا لعلمهم بلوازمها ومقتضياتها وأعبائها ،ولو كانت مجرد كلمة تقال باللسان لقالوها وانتهى الأمر ،بخلاف ما عليه الناس في مثل واقعنا المعاصر ،
فطائفة الحكام امتنعوا عن تطبيق شرع الله تعالى ،بل ردوه ولم يقبلوه ،وهذا هو الكبر ،بدليل محاربتهم لمن ينادونهم بتطبيقه .
ومع رفضهم وامتناعهم عن تطبيق شرع الله ،بل واستبدالهم الشرع الحنيف بقوانين وضعية ،يظنون أنفسهم لا زالوا مسلمين ،بل ويظن دعاة المرجئة أن الحكام بهذه الصورة التي هم عليها لا زالوا مسلمين ،ويبدو أن المشركين من أهل الجاهلية كانوا أعلم بمعنى لا اله إلا الله من علماء الإرجاء في هذه الأزمان .
وكذلك تجد أن طائفة العلمانيين امتنعوا واستكبروا عن منهج الله تعالى ،واقتنعوا بالمناهج الأرضية ورفعوا قدرها وشأنها ،
فقالوا بلسان حالهم : إن الناس أعلم من الله بهذه الحياة وما يصلح لها من أنظمة الحكم ،والأمور السياسية والاقتصادية وغيرها ،وهؤلاء لا زالوا يعتبرون أنفسهم في دائرة الإسلام ،وكذلك يحكم لهم دعاة المرجئة أنهم موحدون مسلمون لكونهم ينطقون بلا اله إلا الله
وأغرب من ذلك أن هناك طائفة من المنتسبين إلى الإسلام يعبدون غير الرحمن ،فيقدمون العبادات من الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة ،وغير ذلك إلى القبوروالمشاهد والقباب ،ويعتقدون ذلك دينا ،ومع ذلك يعتبرون أنفسهم من أولياء الله الصالحين ،وتجد دعاة المرجئة يبحثون لهم عن المعاذير .
الكبر هو الذي دفع إبليس – الرجيم – إلى رد الأمر على الله تعالى
قال تعالى " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة : 34]
أليس الكبر هو الذي دفع فرعون وجنوده إلى رد ما جاء به موسى - عليه السلام – من الحق المبين .
قال تعالى " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [: 38] وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ [القصص : 39]
ولقد اخبر الله تعالى أن المتكبرين لا ينتفعون بآيات الله تعالى ،لأن الله تعالى يصرفهم عن ذلك بسبب تكبرهم
قال تعالى " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 146]
وكذلك اخبر الله تعالى أنه يطبع على قلوب المتكبرين لكونهم يجادلون في آيات الله تعالى بغير علم ولا حجة
قال تعالى " الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر : 35]
وقد وصف الله تعالى المتكبرين بالإجرام .
قال تعالى " وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الجاثية : 31]
وجزاء الاستكبار على الله ،وعلى دينه وشرعه هو الوعيد الشديد
قال تعالى " وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف : 36]
وقال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف : 40]
لأجل ذلك حذر الله تعالى ،ورسوله – صلى الله عليه وسلم- من الكبر ،ومن جميع الصفات التي تقود وتؤدي إليه .
قال تعالى " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان : 18]
لأن الإعراض بالوجه عن الناس عند الكلام والمشي بالخيلاء من صفات المتكبرين المعرضين عن الحق .
وقال تعالى " وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء : 37]
ومن الأحاديث التي تدل على ذم الكبر ،وتحذير النبي – صلى الله عليه وسلم – منه ،قوله " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ......... " رواه مسلم جـ1صـ93 برقم 91 .
وقوله – صلى الله عليه وسلم – " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " .
( رواه البخاري في الأدب المفرد صـ339 ،وأبو داود في سننه جـ4صـ385 ،والترمذي في سننه جـ5صـ90 ،وذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته جـ2صـ1033 رقم 5957 ،وكذلك ذكره في السلسلة الصحيحة رقم 357
وإنما كان هذا التهديد والوعيد الشديد على هذه الصفات لما ينتج عن ذلك من المتكبر من الغرور ورد الحق وعدم قبوله ،وازدراء الناس واحتقارهم ،ورد ما جاءوا به وان كان هو الحق
إذن : فالكبر يعمي فطرة صاحبه فيجادل بغير حجة ولا برهان ولا يقبل إلا ما يراه هو صوابا .
8- السبب الثامن من أسباب الشرك :وجود الطغاة والطواغيت على رأس الأنظمة الحاكمة .
ومن أهم أسباب الشرك فى تاريخ الجاهليات كلها وجود طغاة من البشر يريدون أن يستعبدوا الناس، ويسخروهم فى قضاء شهواتهم، فيرفضوا الانصياع لما أنزل الله، ويضعوا من عند أنفسهم تشريعات لم يشرعها الله، فيحلوا ويحرموا من عند أنفسهم، إتباعا لأهوائهم، ويفرضوا تشريعاتهم المزيفة على الناس بما يملكون فى أيديهم من سلطان .
هؤلاء الطغاة فى الواقع ينصبون أنفسهم أرباباً من دون الله حين يعطونها حق التشريع من دون الله؛ لأن الله وحده هو صاحب هذا الحق حيث إنه هو الخالق سبحانه وإنه هو العليم الخبير : (ألا له الخلق والأمر) (الأعراف : 54)0
(والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة : 216)0
فالله سبحانه وتعالى بحق ألوهيته وربوبيته لكل الخلق، وبعلمه التام بكل شىء هو الذى يحق له أن يقول : هذا حرام وهذا حلال، هذا حسن وهذا قبيح، هذا مباح وهذا غير مباح0
فإذا جاء أى إنسان فادعى لنفسه حق التحليل والتحريم، والمنع والإباحة فقد جعل نفسه شريكاً لله، بل جعل نفسه إلهاً من دون الله. ومن تبعه فى ذلك فقد أشركه فى العبادة مع الله، أو أشرك به من دون الله!
وهؤلاء الطغاة، الذين سماهم الله فى القرآن (الملأ) هم أول من يتصدى لتكذيب الرسل الذين يرسلهم الله لهداية البشرية : (لقد أرسلنا نوحاً إلبى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(59) قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين)(الأعراف : 59،60)0
(وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون(65) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) (الأعراف: 65،66)0
( وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذورها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبواكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا فى الأرض مفسدين (74) قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون(75) قال الذين استكبروا إنا بالذى آمنتم به كافرون)(الأعراف : 73-76)0
وهكذا دائماً يتصدى الملأ لتكذيب الرسول المبعوث من عند الله، ثم لا يكتفون بالتكذيب بل يتبعونه بالتهديد 0
وهذا الأمر الذى يبدو لنا غريبا لأول وهلة ليس غريباً فى الحقيقة!
فهؤلاء الملأ يعرفون جيداً أن السلطة التى يستعبدون بها الناس ليست شرعية فى الحقيقة، لأنها مخالفة لما أنزل الله، ولكنهم يتجاهلون ذلك ويمضون فى غيهم طاغين مستكبرين. فإذا جاء الرسول من عند الله يقول : (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)- وهو ما قاله كل رسول لقومه - فهو فى الحقيقة ينادى برد الأمر إلى الله، صاحب الحق وحده فى التشريع للناس، وفى تقرير الحلال والحرام والمباح وغير المباح0
ثم إنهم لا يكتفون بتهديد الرسل أنفسهم، لكنهم يقفون بالمرصاد للناس الذين يستعبدونهم بسلطانهم، خوفاً من أن يفروا من سلطانهم الجائر إلى الله .. فيهددونهم كما يهددون الرسل، ويطلبون منهم أن يستمروا فى ولائهم لهم ويمنعونهم من تقديم الولاء الخالص لله! أى يأمرونهم بالشرك ويهددونهم بالقضاء عليهم إن أسلموا لله!
ووجود الطغاة من جانب يقابله وجود المستضعفين الذين يخضعون لهم من الجانب الآخر. الأولون يأمرون بالشرك والآخرون يطيعون، خوفاً أو ذلاً .
يقول الله تعالى عن الأولين : (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار(28) جهنم يصلونها وبئس القرار(29) وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)(إبراهيم : 28-30)0
ويقول عن الآخرين : (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذى بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين(31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين(32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادأً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال فى أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)(سبأ : 31-33)0
9- السبب التاسع : عدم التدبر فى آيات الله
فلقد حث الله تعالى على التأمل والتفكر في معاني القرآن، كما قال ـ سبحانه ـ: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [ص: 29].
وقال ـ عز وجل ـ: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). [النساء: 82].
وإن من أعظم أسباب الضلال واستفحال الشرك: الإعراض عن تدبر آيات القرآن، والاقتصار على مجرد قراءته دون فهم أو فقه.
فإذا نظرنا ـ مثلاً ـ إلى مسألة إفراد الله ـ عز وجل ـ بالدعاء والاستغاثة، فإنها من أوضح الواضحات في كتاب الله، فقد تحدث عنها القرآن في ثلاثمائة موضع ومع ذلك فما أكثر الذين يتلون هذه الآيات بألسنتهم وينقضونها بأفعالهم وأحوالهم.
يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي ـ رحمه الله ـ
متحدثاً عن ضلال القبوريين:
(لا جرم لما كان ملاك أمر الجميع وحاصل مبلغهم وغايتهم هو التلاوة دون الفقه والتدبر والإتباع، خفي عليهم ذلك، وعموا وصموا عنه، وأنّى لهم ذلك؟ وقد منعهم سادتهم وكبراؤهم من أهليهم، وممن يقوم عليهم ويسوسهم، وقالوا: كتاب الله حجر محجور، لا يستفاد منه، ولا يقتبس من أنواره، ولا ينال ما فيه من العلم والدين..
فلعمر الله للخير أضاعوا، وللشر أذاعوا، وإلا فلولا ذلك لكانت هذه المسألة [ إفراد الله بالدعاء] من أظهر الظواهر، لما أن العناية في كتاب الله بشأنها أتم وأكمل، والقصد إليها بالتكرير والتقرير والبيان في كتاب الله أكثر وأشمل)اهـ انحرافات القبوريين ... الداء الدواء لعبد العزيز عبد اللطيف ص4
ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله في هذا المقام ـ:
(فمن تدبر عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه)اهـ انحرافات القبوريين ... الداء الدواء لعبد العزيز عبد اللطيف ص4
وعلينا أن نتواصى بتطهير القلوب وتزكيتها لكي يحصل الانتفاع بمواعظ القرآن وأحكامه.
يقول ابن القيم عند قوله: (لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ) [الواقعة: 79]. (دلّت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوّث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي)اهـ التبيان في أقسام القرآنص143
وقد عني القرآن بمخاطبة ذوي الألباب وأثنى عليهم، وحضّ على التفكر والنظر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، كما تضمن القرآن أدلة عقلية وحججاً برهانية في تقرير التوحيد والنبوة والمعاد.
ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: (قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)[سبأ:22،23]
يقول ابن القيم عند هذه الآية الكريمة: (فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود ـ لما يرجو من نفعه ـ وإلا فلو لم يرجُ منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة، وقد يشفع عنده؛ فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت، انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى ـ سبحانه ـ عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً، فقال: (وما له منهم من ظهير)، فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه)اهـ التفسير القيم ج2ص460
10 – السبب العاشر: الغفلة والإعراض
من أسباب فساد الفطرة وانحرافها عن الطريق المستقيم : الغفلة التي يقع فيها الإنسان ،بنسيان أوامر الله – عز وجل - ،وعدم امتثالها ،مع انتهاك ما حرم الله – جل وعلا – من الذنوب والمعاصي
ولقد أخبرنا الله تعالى عن غفلة كثير من الناس فأدى ذلك بهم إلى التشاغل بالدنيا وشهواتها وملذاتها ،مع لعبهم ولهوهم عند سماع آيات الله تعالى
قال – جل وعلا – " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وانظر كيف قرن الله تعالى وجمع بين الغفلة والإعراض ،
فقال " وهم في غفلة معرضون " لتلازم الأمرين ،فمن غفل عن طاعة الله فلابد أن يغرض عن ذلك – أي عن طاعة الله - ،ومن أعرض عن طاعة الله تعالى فلغفلته ،
لذلك أخبر الله تعالى أن أكثر الجن والأنس من أهل النار وذلك لغفلتهم عن دين الله – تعالى – وعن طاعة الله ،وطاعة الرسل – عليهم السلام - .
قال تعالى " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179]
ففي هذه الآية المباركة نجد أن الله تعالى شبه الغافلين بالأنعام ،بل فضل الأنعام على هؤلاء الغافلين .
والسبب في ذلك واضح : أن الغفلة عندما تصيب الإنسان ،تطغى هذه الغفلة على أفكار الغافلين ،وكأنهم لا عقول لهم ،فلا تفكر التفكير السليم ،مع طغيان هذه الغفلة على القلوب فتموت وإذا مات القلب فلا حياة لهذا الإنسان ،
أضف إلى ذلك : أن الإنسان الغافل عن ذكر الله وطاعة الله – لا يشغله إلا متاع الدنيا من ملء البطون وإشباع الشهوات تماما كالأنعام ،ولكنهم أضل من الأنعام لأن الأنعام لم تمنح وتعطى عقلا وقدرات كالتي منحت للإنسان ،ومع ذلك فالأنعام تؤدي مهمتها التي خلقت لها بخلاف الإنسان الغافل المتغافل
" أولئك كالإنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون "
ومما يؤكد ويبرهن على أن الغفلة حجاب كثيف على الفطرة ،وأن الغافلين لا يرضون إلا بالحياة الدنيا والركون إليها ،ولا يريدون أن يرجعوا إلى الله ،قوله تعالى
" إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [: 7] أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس : 8]
لأجل ذلك حذر الله تعالى عباده المسلمين الموحدين من طاعة الغافلين عن ذكر الله تعالى
قال جل وعلا " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف : 28]
وهؤلاء الذين تغافلوا عن ذكر الله في الدنيا ،سوف يتذكرون هذه الغفلة ،ولكن متى ؟ عند قيام الساعة ،في عرصات القيامة
قال تعالى " وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء : 97]
وقال سبحانه " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
فالغفلة إذن تسبب فساد الفطرة وانحرافها عما خلقت له .
11- السبب الحادى عشر من أسباب الشرك :الجهل
الجهل سبب من الأسباب الرئيسية فى الوقوع فى الشرك والكفر ،لذلك يكثر فى القرآن الكريم وصف الكفار والمشركين بالجهل وعدم العلم وعدم العقل وعدم الفقه إلى غير ذلك
قال تعالى "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف : 138
قال ابن جرير :" "اجعل لنا" يا موسى "إلهًا"، يقول: مثالا نعبده وصنما نتخذُه إلهًا، كما لهؤلاء القوم أصنامٌ يعبدونها. ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجبَ حقه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض."اهـ ج7ص80
قال ابن كثير – رحمه الله -
" إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي: تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل."اهـ ج3ص467
وقال القرطبى – رحمه الله -
" { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } أي: مثالا نعبده { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله، وإنما معناه: اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله عز وجل وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم. { قَالَ } موسى { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } عظمة الله."اهـ ج3ص274
وقال تعالى " قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر : 64
قال سيد قطب "وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطبق المطموس ."اهـ ج6ص241
فالجهل من أعظم أسباب الوقوع فى المحرمات جميعها من الكفر والشرك والفسوق والعصيان ،ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم ،فقد جعله الله تعالى أعلى مراتب المحرمات
قال تعالى " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف : 33
قال ابن القيم – رحمه الله
" وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال
فإن المحرمات نوعان محرم لذاته لا يباح بحال ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت قال الله تعالى في المحرم لذاته قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال والإثم والبغي بغير الحق ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثما وهو أصل الشرك والكفر ووعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم"اهـ مدارج السالكين ج1ص372
مطالبة القرآن المشركين بالدليل على ما هم عليه
وهذا إن دل إنما يدل على جهلهم وأنهم ليسوا على شئ ،لذلك يأتى فى القرآن الكثير من الآيات التى تطالبهم بالدليل والبرهان
قال تعالى " قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ [يونس : 59
وقال تعالى " أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ [الأنبياء : 24
وقال تعالى " أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل : 64]
قال شيخ الاسلام
" وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فِعْل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبنى آدم؛ ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيما لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع .
ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركًا وبدعًا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها إن صلوا إلا أفرادًا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه [ مناسك حج المشاهد ] وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضًا نوع من الشرك والكذب والبدع؛ لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول .
والله إنما أمر في كتابه وسنة رسوله بالعبادة في المساجد، والعبادة فيها هي عمارتها،
قال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [ البقرة : 114 ]
ولم يقل : مشاهد الله،
وقال تعالى : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }[ الأعراف : 29 ] ، ولم يقل : عند كل مشهد، فإن أهل المشاهد ليس فيهم إخلاص الدين لله، بل فيهم نوع من الشرك،
وقال تعالى : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ } الآيات [ التوبة : 17، 18 ]اهـ مجموع الفتاوى ج17ص497
سبب انتشار الجهل بالدين
يرجع ذلك لسببين:
السبب الأول :سكوت العلماء عن بيان الحق ،وعدم انكارهم للشركيات الواضحات
السبب الثانى :إعراض الناس عن دينهم ،وعن سؤالهم أهل العلم
فائدة فى الجهل المؤدى إلى الشرك
الجهل المؤدى إلى الوقوع فى الشرك هو الجهل القادح فى العلم بالتوحيد
والجهل القادح فى العلم بلا إله إلا الله ينحصر فى أمور أساسية وهى باختصار:
الأول : الجهل المطلق بالله تعالى ، فلا يعرفه إلها ومعبودا ، مع قوله باللسان " لا إله إلا الله " وهذا الجهل قادح فى الإسلام ، لأن هذا القدر مما لا يسع الإنسان جهله
قال الخليدى " فى معرفة الله : وهى أول الفرض الذى لا يسع المسلم جهله ولا تنفعه الطاعة وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا ، ما لم تكن معه معرفة وتقوى " اهـ هامش مجموع الفتاوى لابن تيمية ج2 ص5
الثانى : الجهل بمعنى " لا إله إلا الله " فمن جهل معنى هذه الكلمة وأنه لا معبود بحق إلا الله ، فإن ذلك يقدح فى الإسلام ،
لأن العبد إن كان جاهلا بمعنى هذه الكلمة العظيمة ، فكيف يعبده وحده لا شريك له ،؟
وأنى له أن يحبه وينصره ويواليه وهو لا يعرفه ؟ بل كثير من الناس لجهلهم بمعنى " لا إله إلا الله " يثبتون ما نفته هذه الكلمة ، وينفون ما أثبتته هذه الكلمة ، فتحدهم أثبتوا الشركاء والأنداد لله رب العالمين ، بل ونفوا عنه سبحانه تفرده بالعبادة ، كنفى المشركين الأوائل الذين قالوا " أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [صـ : 5]
الثالث : "جهل يقدح فى الربوبية وهو بالتالى قدح فى الألوهية ، هذا الجهل كجهل بعض طوائف الصوفية الذين يجعلون لله الشركاء فى تصريف الكون ، مهم الذين يسمونهم بالأقطاب الأربعة 0
الرابع : جهل بعض طوائف الصوفية بذات الرب – جل وعلا – كالذين يقولون بنظرية الحلول والاتحاد 0
الخامس : الجهل باستحقاق الرب – جل وعلا – حق التشريع ، فمن جعل هذا الحق لغير الله تعالى فقد أشرك فى الربوبية والألوهية ، فكيف بحال المشرعين أنفسهم ، الذين يضعون القوانين الوضعية التى يشاقون بها شرع الله تعالى وحكمه 0
قال تعالى " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة : 31]
الفهرس
المقدمة ص2
تمهيد ص4
حملة القرآن على الشرك ص4
لماذا كان النهى عن الشرك قبل الأمر
بالتوحيد فى بعض الآيات ؟ ص8
فائدة :
أسباب الشرك
السبب الأول : الشيطان – لعنه الله – ص11
مسالك الشيطان في إفساد فطرة الإنسان ص15
التشكيك في وجود الرب – جل وعلا – ص15
التشكيك في اختصاص الله – تعالى –
بالعبادة ،ودعوة الناس إلى عبادة غيره
– جل وعلا – ص15
التشكيك في العقائد الإيمانية : ص21
الوسوسة والتشكيك في كثير من الأمور
الدينية والدنيوية ص22
السبب الثاني من أسباب الشرك :
البيئة المنحرفة الفاسدة ص24
المؤثر الأول على فطرة الإنسان :
الأسرة وخاصة الوالدين ص26
المؤثر الثاني على فطرة الإنسان :
الأصحاب والأقران : ص33
المؤثر الثالث على فطرة الإنسان :
تقليد الآباء والأجداد الضالين ص37
المؤثر الرابع على فطرة الإنسان :
المؤسسات التربوية والثقافية بشتى أنواعها وفي جميع مراحلها : ص41
المؤثر الخامس على فطرة الإنسان :
الفساد السياسي ص46
السبب الرابع من أسباب الشرك :الإعجاب والتعظيم والتقديس: ص52
السبب الخامس من أسباب الشرك :الميل إلى الإيمان بالمحسوس والغفلة عن غير المحسوس : ص59
السبب السادس من أسباب الشرك اتباع الهوى والشهوات : ص65
السبب السابع من أسباب الشرك :
الكبر عن عبادة الله : ص77
السبب الثامن من أسباب الشرك :وجود الطغاة والطواغيت على رأس الأنظمة الحاكمة 0 ص89
السبب التاسع : عدم التدبر فى آيات الله ص93
السبب العاشر: الغفلة والإعراض ص97
السبب الحادى عشر من أسباب الشرك :الجهل ص100
الرسالة القادمة
السبك فى بيان وسائل الشرك
0 comments:
welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^