تكملة الرسالة (2) الثانية التبيان فى صفات الغافلين فى القرآن



المجال الثانى : الغفلة عن أصل الدين
قال تعالى :
" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف : 172
قال الشنقيطى – رحمه الله –
" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
" فى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم : هو إيجاد قرن منهم بعد قرن ، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى :
{ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ]
 وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ } [ النمل : 62 ] ، ونحو ذلك من الآيات : وعلى هذا القول فمعنى قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه ، وحده ، وعليه فمعنى قالوا بلى ، أي قالوا ذلك : بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ]
أي بلسان حالهم على القول بذلك ، وقوله تعالى :
{ إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 6-7 ]
أي بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً .
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا في قوله :
{ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ }
قالوا : فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق ، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم ، لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا ، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه . فإن قيل إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته قلنا : قال ابن كثير في تفسيره :
« الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد ، ولهذا قال : { أَن تَقُولُوا } الآية اهـ منه بلفظه
فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية ، وما استدل عليه قائله به من القرآن .
فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية : أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده .
قال مقيده - عفا الله عنه - هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة .
أما وجه دلالة القرآن عليه ، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض ، وما فيهما من غرائب صنع الله . الدالة على أنه الرب المعبود وحده ، وما ركز فيهم من القطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة ، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة ، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل ، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة ، وما ركز من الفطرة ، فمن ذلك قوله تعالى :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
فإنه قال فيها : حتى نبعث رسولاً ، ولم يقل حتى نخلق عقولاً ، وننصب أدلة ، ونركز فطرة .
ومن ذلك قوله تعالى :
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] الآية ،
فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس ، وينقطع به عذرهم : هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة .
وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في « طه » بقوله :
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] ،
وأشار لها في « القصص » بقوله :
{ ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ القصص : 47 ]
ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة كقوله تعالى :
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8-9 ] ،
وقوله تعالى :
{ وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ]
ومعلوم أن لفظة كلما في قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } صيغة عموم ، وأن لفظة الذين في قوله : { { وَسِيقَ الذين كفروا } صيغة عموم أيضاً ، لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته .
وأما السنة : فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا ، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية :
قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر - لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود ، وعلي بن ابي طالب ، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم اهـ. محل الحاجة منه بلفظه ، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة ، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة . هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في ( شرح مسلم ) ، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها ، وإلى هذا الخلاف أشار في ( مراقي السعود ) بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع                           وفى الأصول بينهم نزاع
وقد حققنا هذه المسألة مع مناقشة أدلة الفريقين في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة « بني إسرائيل » في الكلام على قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولذلك اختصرناها هنا " اهـ أضواء البيان ج2ص143-144
قال السعدى – رحمه الله –
" يقول تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن.
{ و } حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم { أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.
قالوا: بلى قد أقررنا بذلك، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.
فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة، ولهذا { قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } أي: إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم، من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.
فاليوم قد انقطعت حجتكم، وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.
أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون: { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ } فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.
{ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه.
نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته، وآياته الأفقية والنفسية، فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون، ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات.
وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى، والواقع شاهد بذلك.
فإن هذا العهد والميثاق، الذي ذكروا، أنه حين أخرج اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر، لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟" ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا،
قال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي: نبينها ونوضحها، { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى ما أودع اللّه في فطرهم، وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح." اهـ تفسير السعدى ج1ص308
مسألة : ما هو العهد المبرم بين الله وبين خلقه ؟
العهد الذى بين العباد وبين الله تعالى هو : التوحيد – أى : الإيمان به – جل وعلا –
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله –
" فالعهد الذي مع الله بينه بقوله تعالى:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172] ،
وقوله تعالى:
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ،
وقوله تعالى:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40] ؛
فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا." اهـ تفسير ابن عثيمين ج4ص238

المجال الثالث : الغافلون أضل من الأنعام فهم لا ينتفعون بحواسهم
لأجل ذلك نجد أن الله تعالى يشبه الكفار بالأنعام ، فهناك شبه كبير بين الأنعام وبين الكفار من عدة جوانب :
قال تعالى :
" وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله –
" يقول تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي: خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي: هيأناهم لها، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق، علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"
وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم"
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [رضي الله عنه] ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد".
وتقدم أن الله [تعالى] لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال: "هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي".
والأحاديث في هذا كثيرة، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.
وقوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني: ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [سببا للهداية] كما قال تعالى:
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ  وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ   [الأحقاف:26]
وقال تعالى:
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة:18]
هذا في حق المنافقين،
وقال في حق الكافرين:
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة:171]
ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى، كما قال تعالى:
{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال:23]
وقال:
{ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج:46]،
وقال
{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف:36 ، 37] .
وقوله تعالى: { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي: هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع  بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى:
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ] } [البقرة:171]
أي: ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان -كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه  ما يقول؛ ولهذا قال في هؤلاء: { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي: من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء؛ ولأن الدواب تفقه ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به من البشر، كانت الدواب أتم منه؛ ولهذا قال تعالى: { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }" اهـ تفسير ابن كثير ج3ص513-514
وما ذكره الله تعالى فى هذه الآية من أن الكفار الغافلون أضل من الأنعام ذكره فى موضع آخر فى قوله تعالى :
" أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
قال الشنقيطى – رحمه الله -
والمعنى : بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون : أي لا تعتقد ذلك ولا تظنه ، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه : أي لا يدركونه بعقولهم إن هم إلا كأنعام أي ما هم إلا كالأنعام ، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق ، وإدراكه ، بل هم أضل من الأنعام : أي أبعد عن فهم الحق ، وإدراكه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام؟
قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي . اهـ . منه .
وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم أن الله بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأعراف :
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] ،

وقوله تعالى في البقرة :
{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] " اهـ أضواء البيان ج6ص97
وقال السعدى – رحمه الله –
" { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم.
{ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره.
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود.
فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال أهلها يعملون.
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال أهل الجنة يعملون." اهـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج1ص309
وقد بين الله تعالى فى موضع آخر أن الكفار لا هم لهم إلا الطعام والشراب والشهوات فى الدنيا فهم فى ذلك كالأنعام ثم مصيرهم إلى النار ، فتفضلهم الأنعام لأن مصيرهم إلى التراب
قال تعالى :
" وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
قال القرطبى – رحمه الله –
" " والذين كفروا يتمتعون " في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدهم.
وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.
" والنار مثوى لهم " أي مقام ومنزل." اهـ تفسير القرطبى ج16ص235
قال سيد قطب – رحمه الله –
" والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .
ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ، ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة .
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد . . يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم ، أو في طبقة حاكمة ، أو في جنس حاكم فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها . .
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين . . فهذه هي الصورة الصارخة ، ولكنها ليست هي كل شيء! . . إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالاً لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ . . كل الذين يسمونهم متحضرين . . ! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات . . الخ . . ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس في هذه الجاهلية « الحضارية! » لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين! . . فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!
وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة ، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها ، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً ، ولا تقوى على رفض الدينونة لها ، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها . فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده؛ وحين يدينون لغيره من العبيد ." اهـ الظلال ج4ص281
وقال سيد قطب أيضا :
" ونصيب الذين كفروا متاع وأكل { كما تأكل الأنعام } . . وهو تصوير زري ، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره ، والمتاع الحيواني الغليظ . بلا تذوق ، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح . . إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة ، ولا من اختيار ، ولا حارس عليه من تقوى ، ولا رادع عنه من ضمير .
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل ، ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم ، وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع ، كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته ، والذي له قيم خاصة للحياة؛ فهو يختار الطيب عند الله . عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة ، ولا يضعفها هتاف اللذة . ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام ، وفرصة متاع؛ بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح!
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان : أن للإنسان إرادة وهدفاً وتصوراً خاصاً للحياة يقوم على أصولها الصحيحة ، المتلقاة من الله خالق الحياة . فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله ." اهـ الظلال ج6ص445-446
وفى نفس المعنى قال تعالى :
" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قال ابن عاشور فى تفسيره
" 000 لما دلّت ( رُبّ ) على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم ، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي ، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام ، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية ، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب . وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة :
دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها             واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي
وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى :
{ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ سورة محمد : 12 ] .
و { ذر } أمر لم يسمع له ماض في كلامهم . وهو بمعنى الترك . وتقدم في قوله : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم . وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم . قال تعالى : وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً إلى قوله : { وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت } [ سورة الأنعام : 70 ] . فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم . وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره :
وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم ... وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ سورة المدثر : 11 ] ، وقوله : { وذرني والمكذبين } [ سورة المزمل : 11 ] .
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام :
دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم              ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء .
وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق ، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم ، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم .
ويأكلوا } مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم ( 31 ) . وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله : { فسوف يعلمون } . وهو كقوله : { كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون } سورة المرسلات ( 46 ) .
ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم } لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم .
والتمتع : الانتفاع بالمتاع . وقد تقدم غير مرة ، منها قوله : { ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
وإلهاء الأمل إياهم : هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة .
و { الأمَلُ } : مصدر . وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله . فهو واسطة بين الرجاء والطمع . ألا ترى إلى قول كعب :
أرجو وآمُل أن تدنو مودتها                     وما إخال لدينا منك تنويل
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله : { فسوف يعلمون } بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة . وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله : { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } [ سورة الفرقان : 42 ] ." اهـ التحرير والتنوير ج7 ص456
المجال الرابع : أن الغفلة سبب فى عدم فهم حجج الله
قال تعالى :
" سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 146
قال ابن جرير – رحمه الله –
" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و "وتكبرهم فيها بغير الحق"، تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه،  وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا،  "كل آية"، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. "لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: "هي سحر وكذب"  "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا"، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا، جهلا منهم وحيرة "وإن يروا سبيل الغي"، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا.
"يتخذوه سبيلا"، يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقًا، لصرف الله إياهم عن آياته، وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين"، يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها فيعتبروا بها و يذكروا فينيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبهم بآياتنا "وكانوا عنها غافلين"، يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقيقة ما أمرناهم به ونهيناهم عنه "غافلين"، لا يتفكرون فيها، لاهين عنها، لا يعتبرون بها، فحق عليهم حينئذ قول ربنا فعَطِبوا." اهـ جامع البيان ج13ص114-115
قال ابن كثير – رحمه الله –
" يقول تعالى:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }
أي: سأمنع فهم  الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى:
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:110]
 وقال تعالى:
{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف:5]
وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر.
وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا.
وقال سفيان بن عُيَينة في قوله:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }
قال: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.
قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة
قلت: ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.
وقوله: { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } كما قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس:96 ، 97] .
وقوله: { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } أي: وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي: طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا.
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي: كذبت بها قلوبهم، { وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } أي: لا يعلمون شيئًا مما فيها." اهـ تفسير ابن كثير ج3ص474-475
المجال الخامس : غفلة الآلهة الباطلة عن عابديها
قال تعالى :
" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف : 5
قال ابن جرير – رحمه الله –
" يقول تعالى ذكره: وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تُجيب دعاءه أبدا، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله:( وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع ولا تنطق، ولا تعقل. وإنما عنى بوصفها بالغفلة، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئًا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقُبح اختيارهم في عبادتهم، من لا يعقل شيئًا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب.
وقيل: من لا يستجيب له، فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم، ومن له الاختيار والتمييز،
إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريًا فيه عندهم. جامع البيان في تأويل القرآن ج22ص95-96
وقال ابن كثير – رحمه الله –
" وقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي: لا أضل ممن يدعو أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجَارة صُمّ." اهـ تفسير ابن كثير ج7ص275

وقد ذكر العلامة الشنقيطى – رحمه الله – تفصيلا طيبا يتعلق بغفلة المعبودين بالباطل عند تفسير قوله تعالى :
" وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
فقال – رحمه الله –
" وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يحشر الكفار يوم القيامة ، وما كانوا يعبدون من دونه : أي يجمعهم جميعاً فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتهم لهم أن يعبدوكم من دوني ، أم هم ضلوا السبيل : أي كفروا وأشركوا بعبادتكم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم ، وأن المعبودين يقولون : سبحانك أي تنزيها لك عن الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ليس للخلائق كلهم ، ان يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم ، من غير أمرنا ، ونحن برآء منهم ، ومن عبادتهم ، ثم قال : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ } أي طال عليهم العمر ، حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك ، لا شريك لك ، وكانوا قوماً بوراً قال ابن عباس « أي هلكى » ، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم اه . الغرض من كلام ابن كثير .
وقال أبو حيان في البحر : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه .
وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمعبودين وجوابهم له ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين . فقال بعضهم : المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا : هذا القول يشهد له القرآن ، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة من عبدهم ، كما قال في الملائكة : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 4041 ] وقال في عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 116 ] وجواب الملائكة وجواب المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء ، دون الأصنام .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام ، مع الملائكة وعيسى ، وعزير لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان .
الأولى : أنه عبر عن المعبودين المذكورين بما التي هي لغير العاقل في قوله : "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . فلفظة ما تدل على شمول غير العقلاء ، وأنه غلب غير العاقل لكثرته .
القرينة الثانية : هي دلالة آيات من كتاب الله ، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم : أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس :
{ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [ يونس : 2829 ]
وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون . وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم ، نظراً إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكقوله تعالى في الأحقاف :
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 56 ]
فقد دل قوله تعالى : { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ]
على أنهم لا يعقلون ، ومع ذلك قال :
{ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ]
وكقوله تعالى في العنكبوت :
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [ العنكبوت : 25 ] الآية .
فصرح بأنهم أوثان ، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضاً .

وكقوله تعالى :
{ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ]
إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة { حتى نَسُواْ الذكر } الظاهر أن معنى نسوا تركوا . والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد ، وقيل ذكر الله بشكر نعمه ، والأصح أن قوله بوراً معناه هلكى ، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة ، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا : { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } وقوله في سورة الفتح : { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] ومن إطلاقه قول عبد الله بن الزبعرى السهمي رضي الله عنه .
يا رسول المليك إن لساني                                راتق ما فتقت إذ أنا بور
ويطلق البور على الهلاك . وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان ، وهم أهل اليمن ، ومنه قول الشاعر :
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم                      وكافوا به فالكفر بور لصانعه
واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية ، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحداً مذهب المعتزلة ، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإياك أن تغتر به ، وما ذكر عن الحسن البصري ، ومالك ، عن الزهري من أن معنى بوراً لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية ، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية ، وأن معنى بوراً هلكى كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى ." اهـ أضواء البيان ج6ص67-68
مسالة :
ما هى وجوه كفر من عبد غير الله ومنهم عباد القبور ؟
ويمكن تقسيم الشرك في الألوهية إلى قسمين رئيسيين:-
1-…من عبد غير الله يظن فيه النفع والضر من دون الله، كما قال تعالى عن المشركين،:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
 وقال:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً)
 فعبادة غير الله شرك في الألوهية، مبني على اعتقاد خاطئ في جانب الربوبية، وهو اعتقاد النفع والضر بغير الله.
2-…من عبد غير الله، يريد شفاعتهم عند الله، قال تعالى:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
 وقال:
(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)
وهؤلاء كفروا بأحد ثلاثة وجوه _ ومنهم من قد جمع بين ذلك كله:-
الأول: عبادتهم لغير الله، وهذا شرك في الألوهية،
قال تعالى:
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)
وهؤلاء أشركوا معه غيره، في جانب العبادة
الثاني: اعتقادهم بأنهم يسمعونهم، ويستجيبون لهم _ في حال ندائهم للأموات _، وهذا شرك في الربوبية وتكذيب لله تعالى:
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)
، فوصف ما يقومون به بأنه شرك، بعد إخباره بحقيقة حالهم وهو عدم سماعهم للنداء،
وقال عز وجل:
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)
، فمن ظن أنهم يسمعون النداء أو يستجيبون لمن يدعوهم فهو ضال لا أحد أضل منه، مكذب لكلام الله.
الثالث: اعتقادهم أنهم بيدهم الوساطة المطلقة، والشفاعة التي لا ترد عند الله، ولكن الله تبارك وتعالى قد قيد الشفاعة، فقال:
(لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)
وقال:
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)
وقال:
(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ)
 قال الرازي: "اعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)
وتقرير الجواب: أن هؤلاء الكفار: إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها، والأول باطل: لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها؟ والثاني باطل: لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة. فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره"
وهذا الاعتقاد: شرك في الربوبية، كما أن الفعل الذي انبنى عليه: شرك في الألوهية.
وهذا النوع من الاعتقادات والأفعال هو الذي أشكل على القبوريين في العصر الحديث، حيث ظنوا أن دعاء الأموات من ابتغاء الوسائل المشروع الذي أمر الله به في قوله تعالى:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)
ولكن التفسير الصحيح لهذه الآية كما يقول الطبري رحمه الله:
"القول في تأويل قوله تعالى :
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)
: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أرباباً يبتغون إلى ربهم الوسيلة يقول يبتغي المدعوون أرباباً إلى ربهم القربة والزلفة لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ): أيهم بصالح أعماله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة" ، وجاء في تفسير الجلالين: "الوسيلة: القربة بالطاعة" ، فهؤلاء الصالحون الذين يدعونهم الناس من دون الله ظناً منهم أنهم يسمعون الكلام والاستغاثة الموجهة إليهم وهم أموات في قبورهم، هم كانوا يعبدون الله ويبتغون إليه الوسيلة بالطاعات والقربات، فكيف تدعونهم من دون الله وتتخذونهم وسائط فيما بينكم وبين الله وهو الذي أمركم أن تدعوه دون واسطة، فلماذا لا تقتدون بهم وتدعون الله وتتقربون إليه بالصالحات كما كانوا يفعلون؟ هذا لو كانوا صالحين، فأما إن كانوا ممن يظن بهم الصلاح وليسوا كذلك فإنهم لا يصلحون أن يكونوا وسائط بينكم وبين الله، ثم إن سياق الآيات كان يتحدث عن دعاء غير الله فالآية التي قبل هذه الآية مباشرة هي قوله تعالى:
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاتَحْوِيلاً)،
وفيها إقناع للمشركين بأن لا يشركوا بالله غيره في الدعاء بأن الذين يدعونهم من دون الله لا يملكون إزالة البلاء الذي أراده الله بعباده ولا يملكون تحويله عنهم، وكان من المناسب أن يكون الحديث بعد ذلك عن حال المدعوين من دون الله لكي يتم الاقتداء بهم في المسألة التي تم التنبيه عليها في الآية السابقة مباشرة، فلا داعي هنا لذكر حال أناس يبتغون الوسيلة إلى ربهم بدعاء الأولياء والصالحين؛ فإن هذا الكلام فضلاً عن كونه بعيداً عن سياق الحديث في الآية السابقة، فإن فيه تناقض معها فكيف ينعى على المشركين كونهم لا يستفيدون شيئاً من دعاء غيره من كشف ضر أو تحويله، ثم يبرز لهم قدوة أناساً يجعلون بينهم وبين الله في الدعاء وسائط.
مسألة :
فإن قيل هذه الأوثان المعروفة للمشركين جماد كاللات ومناة والعزى ، والمقبور إنسان فما الجامع بينهما؟
" قلنا نصوص القرآن في النهي عن دعوة غير الله عامة في كل من دعا من دون الله ما لايضر ولا ينفع قال تعالى:
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ}
وقال:
{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18].
وقال:
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام 71].
وقال:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5].
قال البيضاوي على هذه الآية: هذا إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم فضلا عن أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم وهم عن دعائهم غافلون، لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم. وقال تعالى :
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر 13، 14].
والذم إنما توجه إلى من دعا من هذه صفته سواء كان بشرا أو ملكا أو صنما وهو من لا ينفع من دعاه ولا يضر من لم يدعه، ومن دعا من لا يسمع دعاءه أو ولو سمعه ما استجاب له لاستحالة الإجابة منه، وهذه صفة الميت. وقال سبحانه:
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:197].
وهذه أيضا صفة الميت، ومن المعلوم أن المشركين يعبدون الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن، ويعبدون اللات وهو رجل صالح في قول ابن عباس ومجاهد، ويعبدون الأصنام المصورة في زعمهم على صورة من يقصدونه كفعل قوم نوح في تصويرهم على صور الذين ذكرهم الله في سورة نوح.
قال تعالى فيمن يعبد الملائكة:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40].
وقال:
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا} [الزخرف:19].
إلى أن قال:
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20].
فهذا صريح في أنهم يعبدون الملائكة، وما قاله الصحابة والتابعون في سورة بني إسرائيل، والمراد بذلك بيان بطلان ما لو قال جاهل إنهم إنما يعبدون الأصنام فقط .
وقال ابن القيم بعد كلام سبق: ومن ها هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على صورته وشكله وهيأته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده، ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشياطين. انتهى.
والمقصود بيان أن عباد الأصنام إنما قصدوا عبادة من صوروا الصنم على صورته من ملك أو نبي أو صالح أو كوكب، فكل ما في القرآن من النهي عن دعاء غير الله والإنكار على من دعا غيره يتناول كل معبود للمشركين من نبي وملك وبشر حي أو ميت أو صنم، يوضح ذلك قول الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي :ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم ، فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أي لا يملكون كشف الضر بالكلية ولا تحويله من موضع إلى غيره ولا تغيير صفته.
وقد قال المفسرون من الصحابة والتابعين إن هذه الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة وعيسى وأمه وعزيرا وفيمن يعبد الجن، وهؤلاء غائبون أحياء وفيهم من هو ميت. فكل من دعا ميتا أو غائبا تناولته
الآية. وقال تعالى:
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]." اهـ تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس ص90-92
المجال السادس : الغافلون من الكفار يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة
قال تعالى :
" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )106( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )107( أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )108( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )109النحل
قال ابن جرير – رحمه الله –
" القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها بطابعه، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون ، عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
وقوله( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى." اهـ جامع البيان في تأويل القرآن ج17ص305-306
قال ابن كثير – رحمه الله –
" أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به: أنه قد غَضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل  الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم فلا  يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئا، فهم غافلون عما يراد بهم.
{ لا جَرَمَ } أي: لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي: الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة." اهـ تفسير القرآن العظيم ج4ص605
قال سيد قطب – رحمه الله –
" ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .
والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر م ن مؤثرات هذه الأرض؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفقة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة " اهـ ج4ص491


عقوبة الغافين
الكفار الغافلون لا وزن لهم عند الله تعالى
قال تعالى :
" أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) الكهف
قال الشنقيطى – رحمه الله –
" وقوله في هذه الآية الكريمة :
{ أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ الكهف : 105 ] ألآية
نص في أن الكفر بآيات الله ولقائه يحبط العمل ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً ، كقوله تعالى في « العنكبوت »
{ والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ العنكبوت : 23 ]
والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً ، وسيأتي بعض أمثل لذلك قريباً إن شاء الله .
وقوله في هذه الآية الكريمة :
{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ]
فيه للعلماء أوجه :
أحدهما - أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم ، بل لم يكم لهم إلا السيئات ، ومن كان كذلك فهو في النار ،
كما قال تعالى :
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 103-104 ] .
وقال :{ والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون } [ الأعراف : 8 ] .
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 9 ] الآية ،
وقال :
{ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 8-11 ] .
إلى غير ذلك من الآيات .
وقال بعض أهل العلم . معنى { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم ، وهو أنهم بسبب كفرهم . وذلك كقوله عنهم :
{ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، أي صاغرين أذلاء حقيرين ، وقوله  { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } [ الصافات : 18 ]
وقوله : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم .
وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن . لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة . قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن عبد الله . حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن ، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنه لياتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة » وقال - « اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً » وعن يحيى بن بكير ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد مثله اهـ . من البخاري .
وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه ، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة .
وفيه دلالة على وزن الأشخاص .
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه : وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه . لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها على المكارم . بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية ، المبتغى به الترفه والسمن .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : « إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين » ومن حديث عمران بن حصين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « خيركم قرني ثم الذين يلونهم » - قال عمران . فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - « ثم إن من بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن » وهذا ذم .
وسبب ذلك : أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن ، والاسترسال مع النفس على شهواتها . فهو عبد نفسه لا عبد ربه .
ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام . وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به . وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال :
{ والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ]
فإذا كان المؤمن يتشبه بهم . ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فإين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام . ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائماً ، وليله نائماً اهـ . محل الغرض من كلام القرطبي .
وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النًّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يبغض الحبر السمين » فيه نظر ، لأنه لم يصح مرفوعاً ، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب .
وما ذكر من ذم كثرة الأكل والسرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة « وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه » اهـ  أضواء البيان  ج3ص416-417
أصل بلاء العبد يكون من الغفلة
قال ابن القيم :
"  الوجه التاسع والثمانون : إن أعظم الأسباب التي يحرم بها العبد خير الدنيا والآخرة ولذة النعيم في الدارين ويدخل عليه عدو منها هو الغفلة المضادة للعلم والكسل المضاد للإرادة والعزيمة هذان اصل بلاء العبد وحرمانه منازل السعداء وهما من عدم العلم، أما الغفلة فمضادة للعلم منافية له وقد ذم سبحانه أهلها ونهى عن الكون منهم وعن طاعتهم والقبول منهم
قال تعالى "ولاتكن من الغافلين" وقال تعالى "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" وقال تعالى "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون" 
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في وصيته لنساء المؤمنين لا تغفلن فتنسين الرحمة وسئل بعض العلماء عن عشق الصور فقال قلوب غفلت عن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غيره فالقلب الغافل مأوى الشيطان فإنه وسواس خناس قد التقم قلب الغافل يقرأ عليه أنواع الوساوس والخيالات الباطلة فإذا تذكر وذكر الله انجمع وانضم وخنس وتضاءل لذكر الله فهو دائما بين الوسوسة والخنس
وقال عروة بن رويم ان المسيح صلى الله عليه و سلم سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلى له فإذا رأسه راس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا لم يذكر وضع رأسه على ثمرة قلبه فمناه وحدثه
وقد روى في هذا المعنى حديث مرفوع فهو دائما يترقب غفلة العبد فيبذر في قلبه بذر الأماني والشهوات والخيالات الباطلة فيثمر كل حنظل وكل شوك وكل بلاء ولا يزال يمده بسقيه حتى يغطى القلب ويعميه وأما الكسل فيتولد عنه الإضاعة والتفريط والحرمان واشد الندامة وهو مناف لإراده والعزيمة التي هي ثمرة العلم فان من علم أن كماله ونعيمه في شيء طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كله فإن كل أحد يسعى في تكميل نفسه ولذته ولكن أكثرهم اخطأ الطريق لعدم علمه بما ينبغي أن يطلبه فالإرادة مسبوقة بالعلم والتصور فتخلفها في الغالب إنما يكون لتخلف العلم والإدراك وإلا فمع العلم التام بان سعادة العبد في هذا المطلب ونجاته وفوزه كيف يلحقه كسل في النهوض اليه" اهـ  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ج1ص112-113
الرد على أهل البدع
" قال ابن القيم :
"  فصل
 ومن ذلك قوله تعالى "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وفي الآية رد ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو فالإغفال فعل الله والغفلة فعل العبد ثم أخبر عن اتباعه هواه وذلك فعل العبد حقيقة ،والقدرية تحرف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم فيقولون معنى أغفلنا قلبه سميناه غافلا أو وجدناه غافلا أي علمناه كذلك وهذا من تحريفهم بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته وأفقرته أي جعلته كذلك وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كاحمدته وأجنبته وأبخلته وأعجزته فلا يقع في أفعال الله البتة إنما يقع في أفعال العاجز أن يجعل جبانا وبخيلا وعاجزا فيكون معناه صادفته كذلك وهل يخطر بقلب الداعي اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني أي سمني وأعلمني كذلك وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه والعقلاء يعلمون علما ضروريا أن الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ويشاءه له ويقدره عليه حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه وبقي وفطرته لم يخطر بقلبه سوى ذلك وأيضا فلا يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن الشيء فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به وذلك مضاد لغفلته عنه بخلاف إغفال الرب تعالى له فإنه لا يضاد علمه بما يغفل عنه العبد وبخلاف غفلة العبد فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه وهذا ظاهر جدا فثبت إن الإغفال فعل الله بعبده والغفلة فعل العبد " اهـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ج1ص64
الغافل لا يكون إماما يقتدى به :
قال ابن القيم :
الثاني والعشرون :أن متبع الهوى ليس أهلا أن يطاع ولا يكون إماما ولا متبوعا فإن الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته أما عزله فإن الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين"  أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالما وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله تعالى "بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم" وأما النهي عن طاعته فلقوله تعالى"ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " اهـ روضة المحبين ونزهة المشتاقين 475
نتيجة اجتماع الغفلة مع إتباع الهوى :
قال ابن القيم :
"  ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلا وآجلا
 وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول لاتتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله
 والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى تولد ما بينهما كل شر وكثيرا ما يقترن أحدهما بالآخرة ولا يفارقه  ومن تأمل فساد أحوال العالم عموما وخصوصا وجده ناشئا عن هذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون من المغضوب عليهم " اهـ رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص7
ومن عقوبة الغافلين : الطبع على القلوب والأبصار والأسماع
قال تعالى :"{ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
قال الإمام ابن جرير – رحمه الله -
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها بطابعه، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون ، عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
وقوله( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى." اهـ جامع البيان ج17ص306
مسألة :
لماذا يصرف الله تعالى بعض الخلق عن الإيمان به ؟
قال العلامة الشنقيطى – رحمه الله – عند تفسير قول الله تعالى :
قال تعالى :
" إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
"000 وهذا المعنى الذي دّلت عليه هذه الآية من كونه جلّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الكهف : 57 ]
وقوله تعالى :
{ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ]
وقوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ]
وقوله تعالى :
{ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } [ الأنعام : 125 ]
وقوله تعالى :
{ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ]
وقوله تعالى :
{ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 41 ] .
وقوله تعالى :
{ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولئك هُمُ الغافلون } [ النحل : 108 ]
وقوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } { هود : 20 }
وقوله تعالى :
{ الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ الكهف : 101 ]
والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب وكذلك الأغلال في الأعناق ، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم ، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم ، لتكذيب الرسل ، والتمادي على الكفر ، فعاقبهم الله على ذلك ، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ، والغشاوة على الأبصار ، لأن من شؤم السيئات أن الله جلّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ ، والحيلولة بينه وبين الخير وجزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقاً .
والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى :
{ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ]
فالباء سببية ، وفي الآية : تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، وكقوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } [ المنافقون : 3 ]
ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل : أي فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ، وقوله تعالى :
{ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] .
وقوله تعالى :
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ]
وقوله تعالى :
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ]
إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
وقد دلّت هذه الآية على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيئات ، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير ، وهو كذلك كما قال تعالى :
{ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
وقوله تعالى :
{ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ]
وقوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ]إلى غير ذلك من الآيات ." اهـ أضواء البيان ج6ص421-422
الانتقام من الغافلين
قال تعالى :
" " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 136
قال ابن جرير – رحمه الله –
" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم  "انتقمنا منهم"، يقول: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم، وذلك عذابه  "فأغرقناهم في اليمّ"، وهو البحر، كما قال ذو الرمة:
دَاوِيَّةٌ وَدُجَى لَيْلٍ كَأَنَّهُمَا يَمٌّ تَرَاطَنُ فِي حَافَاتِهِ الرُّومُ
وكما قال الراجز:
* كَبَاذِحِ الْيَمِّ سَقَاهُ الْيَمُّ *
(بأنهم كذبوا بأياتنا)، يقول: فعلنا ذلك بهم بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي أريناهموها (وكانوا عنها غافلين)، يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم، غافلين قبل حلولها بهم أنّها بهم حالَّةٌ.
و"الهاء والألف" في قوله: "عنها"، كناية من ذكر "النقمة"، فلو قال قائل: هي كناية من ذكر "الآيات"، ووجّه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين  فجعل إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها، كان مذهبًا. يقال من "الغفلة"، "غفل الرجل عن كذا يغفُل عنه غَفْلة وغُفُولا وغَفَلا" " اهـ جامع البيان ج13ص75
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله –
" يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة، [أنه] انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم، وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها. " اهـ تفسير ابن كثير ج3ص466


تفسير الغفلة فى هذا الموضع بالإعراض :
قال أبو حيان فى البحر المحيط : " { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في { بِأنهم } سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في { عنها } إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب ، وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها { فانتقمنا } أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيب لا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوا معذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد ." اهـ ج5ص433
مسألة :
هل الغفلة عن التوحيد من موانع التكفير ؟
قال تعالى :
" ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام : 131
قال ابن جرير – رحمه الله –
" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه، وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ، من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم
وقد يتَّجه من التأويل في قوله:"بظلم"، وجهان:
أحدهما:(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) ، أي: بشرك مَنْ أشرك، وكفر مَنْ كفر من أهلها، كما قال لقمان:( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )، [سورة لقمان: 13](وأهلها غافلون)، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا:"ما جاءنا من بَشِيٍر ولا نذير" .
والآخر:(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلامٍ لعبيده .
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله:(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، عقيب قوله: (ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي)، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله:(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم)، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه " اهـ جامع البيان ج12ص125
قال الشنقيطى – رحمه الله – عند تفسير قوله تعالى :
"  قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
ظاهر هذه الآية الكريمة : أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة . حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار .
وقد أوضح جلَّ وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى :
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ]
فصرح في هذه الآية الكريمة : بأن لا بد من أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل ، مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم النار .
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين . بينها في آخر سورة طه بقوله :
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] .
وأشار لها في سورة القصص بقوله :
{ ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ القصص : 47 ] 
وقوله جلَّ وعلا :
{ ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 131 ]
وقوله :
{ يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] الآية
وكقوله :
{ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأنعام : 155-157 ] الآية
 إلى غير ذلك من الآيات .
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام - تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة :
« بأنَّه لم يدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل . فمن قوله جلَّ وعلا :
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ } [ الملك : 8-9 ] الآية .
ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } [ الملك : 8 ] يعم جميع الأفواج الملقين في النار .
قال أبو حيان في » البحر المحيط « في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه : » وكلما « تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين .
ومن ذلك قوله جلَّ وعلا :
{ وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ]
وقوله في هذه الآية : { وَسِيقَ الذين كفروا } عام لجميع الكفار .
وقد تقرر في الأصول : أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم . لعمومها في كل ما تشمله صلاتها ،
وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم .
صيغة كل أو الجميع ... وقد تلا الذي التي الفروع
ومراده بالبيت : أن لفظة » كل ، وجميع ، والذي ، والتي « وفروعهما من صيغ العموم . فقوله تعالى :{ وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً } إلى قوله { قالوا بلى } عام في جميع الكفار . وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا . فعصوا أمر ربهم كما هو واضح .
ونظيره أيضاً قوله تعالى :
{ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير } [ فاطر : 36-37 ] .
فقوله { والذين كفروا لهم نار جهنم } إلى قوله { وجاءكم النذير } عام أيضاً في جميع أهل النار . كما تقدم إيضاحه قريباً .
ونظير ذلك قوله تعالى :
{ وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ غافر : 49-50 ]
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا
وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر . وبهذا قالت جماعة أهل العلم .
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير ، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله ، وبأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى :
{ وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ]
وقوله :
{ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ]
وقوله :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ آل عمران : 91 ]
وقوله :
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ]
 وقوله :
{ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ]
 وقوله
{ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } [ المائدة : 72 ] الاية وقوله :
{ قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } [ الأعراف : 50 ] ،
إلى غير ذلك من الآيات .
وظاهر جيمع هذه الآيات العموم . لأنها لم تخصص كافراً دون كافر ، بل ظاهرها شمول جميع الكفار .
ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أنَّ رجلاً قال يا رسول الله ، أَين أبي؟ . قال : « في النَّار » فلما قفى دعاه فقال : « أّنَّ أَبي وأباك في النَّار » اهـ
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضاً : حدثنا يَحْيَى بن أيوب ، ومحمد بن عباد - واللفظ ليحيى - قالا : حدثنا مروان بن معاوية ، عن يزيد يعني ابن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي »
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب قالا : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : زار النَّبي - صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى واّبكى من حوله . فقال :
« استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذتنه في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموت »
اهـ إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة .
وهذا الخلاف مشهور بن أهل الأصول - هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم . أو معذورون بالفترة؟ وذكر ذلك في « مراقي السعود » بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع                       وفي الأصول بينهم نزاع
وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار : النووي في شرح مسلم ، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع . كما نقله عنه صاحب « نشر البنود » .
وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] من أربعة أوجه :
الأول - أن التعذيب المعفى في قوله { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } الآية ، وأمثالها من الآيات . إنما هو التعذيب الدنيوي كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم موسى وأمثالهم . وإذا فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة .
ونسب هذا القول القرطبي ، وأبو حيان ، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور .
والوجه الثاني - أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
الآية وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل .
أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد .
لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم ، الخالق الرازق ، النافع ، الضار . ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر .
كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :
{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 65 ]
وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده . لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر .
كقوله :
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] الآية
وقوله :
{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ لقمان : 32 ] الآية ،
وقوله :
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }[ الإسراء : 67 ] الآية ،
إلى غير ذلك من الآيات . ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم - فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله . مع أن العقل يقطع بنفي ذلك .
الوجه الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . كإبراهيم وغيره . وأن الحجة قائمة عليهم بذلك . وجزم بهذا النووي في شرح مسلم ، ومال إليه العبادي في ( الآيات البينات ) .
الوجه الرابع - ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار . كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره .
وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة - فأجابوا عن الوجه الأول ، وهو كون التعذيب في قوله :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجيهين :
الأول - أنه خلاف ظاهر القرآن .
لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً ، فهو أعم من كونه في الدنيا . وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه .
الوجه الثاني - أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة . كقوله :
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى } [ الملك : 8-9 ]
وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلى بعد إنذار الرسل . كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية .
وأجابوا عن الوجه الثاني - وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد - بنفس الجوابين المذكورين آنفاً .
لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف لظاهر القرآن ، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه ، ولأن الله – أخبر - أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا ، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح ، كما تقدم إيضاحه .
وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي ، ومال إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفياً باتاً في آيات كثيرة . كقوله في « يس » { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ]
و « مَا » في قوله { أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } نافيه على التحقيق ، لا "موصولة" ، وتدل لذلك الفاء في قوله { فَهُمْ غَافِلُونَ } ، وكقوله في « القصص » : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [ القصص : 46 ] الآية ،
وكقوله في « سبأ »
{ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 44 ]
وكقوله في « ألم السجدة » :
{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [ السجدة : 3 ] الآية
إلى غير ذلك من الآيات .
وأجابوا عن الوجه الرابع - بأن تلك الأحاديث الورادة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع ، وهو قوله :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
 وقوله :
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى } [ الملك : 8-9 ]
ونحو ذلك من الآيات .
وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضاً عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقولهم :
{ وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ]
إلى آخر ما تقدم من الآيات - بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم بدليل قوله :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم :
إن القاطع الذي هو قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة ، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين - بأن الآية عامة ، والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله ، كم بيناه في غير هذا الموضع .
فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم ، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلاً في العموم . كما تقرر في الأصول .
وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمه العام . لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف . وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وأشار إلى أن ذلك الإنصاف الكامل ، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعديب .
فلو عذب إنساناً واحداً من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها ، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها . كما بينه بقوله :
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] الآية
وقوله :
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ]
كما تقدم إيضاحه .
وأجاب المخالفون عن هذا - بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة ، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا ، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها . فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول ، وعقد الأقوال في ذلك صاحب « مراقي السعود » بقوله في مبحث القوادح :
منها وجود الوصف دون الحكم                سمـــاه بالنقض وعاة العلــــم
والأكثرون عندهم لا يقــــــــدح                بل هو تخصيص وذا مصحـح
وقد روي عن مالك تخصيـــص              أن يك الاستنباط لا التنصيصص
وعكس هذا قد رآه البعـــــــض               ومنتفى ذي الاختصـار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهــــر               وليس فيما استنبطت بضــائر
إن جار لفقد الشرط أو لما منع              والوفق في مثل العرايا قد وقـع
فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض : هل هو تخصيص ، أو إبطال للعلة ، مع التفاصيل التي ذكره في الأقوال المذكورة .
واختار بعض المحققين من أهل الأصول : ان تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة ، أو لفقد شرط تأثيرها فهم تخصيص للعلة ، وإلا فهو نقض وإبطال لها . فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعاً .
فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان ، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعاً من تاثير العلة في الحكم - فلا يقال هذه العلة منقوضة .والحديثين كلاهما خاص في شخص معين . 0000 " اهـ أضواء البيان ج3ص151-153
أقول :
هذه المسألة اختلف الناس حولها إختلافا كثيرا واضطربوا فيها اضطرابا بالغا ، والسبب فى ذلك عدم تحرير المسألة والمراد منها
والخلاصة : يجب التفريق بين تعذيب الكافر فى الدنيا والآخرة ، وبين الحكم عليه بالكفر وإن كان جاهلا غافلا فى أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة
أما التعذيب فى الدنيا والآخرة فلا يكون إلا فى حق الكافر الذى أقيمت عليه الحجة وأعرض عنها – كما قال الشنقيطى فى كلامه السابق :
" أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة . حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار" اهـ 
فكلام الأئمة عن التعذيب الذى نفاه الله عمن لم تقام عليه الحجة ، وليس فى ذلك نفى الكفر عنهم
لأن المسلم له وصف معين وحد أدنى متى أخل به الإنسان لا يكون مسلما وإن كان جاهلا
قال ابن القيم – رحمه الله –
" والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عنادا أو جهلا وتقليدا " اهـ طريق الهجرتين ص608
وما أحسن قول ابن القيم – رحمه الله –
" " الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم." اهـ طريق الهجرتين ص609
فهناك فرق كبير بين أحكام الدنيا التى تجرى فيها الأحكام على مقتضى الظاهر ، وبين أحكام الآخرة الموكول لعلم الله وحده
يقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين:
" قد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم." اهـ انظر نواقض الإيمان القولية والعملية ص55
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: _
(كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي، وصاحب قبر، أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام، مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله، فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذاراً إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته...فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى كافراً بما حدث منه من سجود لغير الله مثلاً لغير الله " اهـ  (1/220)
وقال الشيخ ابن باز (رحمه الله ) الأمور قسمان قسم يعذر فيه بالجهل وقسم لا يعذر فيه بالجهل فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين وأتى الشرك بالله وعبد غير الله فإنه لا يعذر لأنه مقصر لم يسع ولم يتبصر في دينة فيكون غير معذور في عبادته غير الله . فتاوى ابن باز(ج4/26-27)
وفى الحقيقة هذه المسألة واضحة تماما لمن بحثها من خلال الرجوع إلى نصوص الوحى ، أما من بحثها بعيد عن نصوص الكتاب والسنة فلا بد أن يقع الخلل والخطأ ، فالاستدلال يكون أولا ثم الاعتقاد وليس العكس
الغفلة من مداخل الشيطان للإنسان
قال ابن القيم – رحمه الله –
" كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات :
«أحدها : » التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة . فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه .
«الثانية :» الغفلة ، فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه .
«الثالثة :» تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء ." اهـ الفوائد ص211
الغفلة سبب من أسباب بغض العبد للحق
قال ابن القيم – رحمه الله –
" أن الذكر أصل موالاة الله عز و جل ورأسها ، والغفلة أصل معاداته ورأسها فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز و جل حتى يحبه فيواليه ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه
قال الاوزاعي : قال حسان ابن عطية : ما عادى عبد ربه بشئ أشد عليه من أن يكره ذكره أو من يذكره ،فهذه المعاداة سببها الغفلة ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره من ذكره فحينئذ يتخذه عدوا كما اتخذه الذاكر وليا  " اهـ الوابل الصيب من الكلم الطيب ص99
التهاون فى ترك صلاة الجمعة من فعل الغافلين
عن الحكم بن ميناءَ : أن عبد الله بن عمرَ ، وأبا هريرةَ حدَّثاه : أنهما سمعا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول على مِنبره :
« لَيَنْتَهينَّ أقوام عن ودْعِهِم الجُمعاتِ أو ليخْتِمَنَّ الله على قلوبهم،ثم ليكوننَّ من الغافلين » أخرجه مسلم وأخرجه النسائى عن ابن عباس وأبي هريرة.
قال الإمام الصنعانى – رحمه الله –
" " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَرْكِهِمْ ( الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) الْخَتْمُ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الشَّيْءِ بِضَرْبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ كَتْمًا لَهُ وَتَغْطِيَةً لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ إلَيْهِ ، وَلَا يُطَّلَعَ عَلَيْهِ شُبِّهَتْ الْقُلُوبُ بِسَبَبِ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَعَدَمِ نُفُوذِ الْحَقِّ إلَيْهَا بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اُسْتُوْثِقَ عَلَيْهَا بِالْخَتْمِ فَلَا يَنْفُذُ إلَى بَاطِنِهَا شَيْءٌ ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَعَدَمِ إتْيَانِ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابِ تَيْسِيرِ الْعُسْرَى ( ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) بَعْدَ خَتَمَهُ - تَعَالَى - عَلَى قُلُوبِهِمْ فَيَغْفُلُونَ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ وَعَنْ تَرْكِ مَا يَضُرُّهُمْ مِنْهَا .
، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ عَنْ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهَا ، وَفِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ تَرْكَهَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ بِالْكُلِّيَّةِ " اهـ سبل السلام ج2ص391
من صفات أهل الجنة أنهم لا يغفلون عن ذكر الله
قال ابن القيم – رحمه الله –
" الصفات الأربعة لأهل الجنة
ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين، وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع :
«الأولى :» أن يكون أواباً أي رجَّاعاً إلى الله من معصيته إلى طاعته ،ومن الغفلة عنه إلى ذكره .
قال عبيد بن عمير : الأواب : الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها، وقال مجاهد : هو الذي إذا ذكر ذنبه استغفر منه . وقال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب .
«الثانية :» أن يكون حفيظاً . قال ابن عباس : لما ائتمنه الله عليه وافترضه . وقال قتادة : حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته .
ولما كانت النفس لها قوتان : قوة الطلب وقوة الإمساك، كان الأواب مستعملاً لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته، والحفيظ مستعملاً لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ : الممسك نفسه عما حرم عليه، والأواب : المقبل على الله بطاعته .
«الثالثة :» قوله : « من خشي الرحمن بالغيب» الآية : 33 من سورة ق،
يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته،وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله .
«الرابعة :» قوله : « وجاء بقلب منيب» الآية : 33 من سورة ق، قال ابن عباس : راجع عن معاصي الله مقبل على طاعة الله . وحقيقة الإنابة : عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه ." اهـ الفوائد ص13-14
الواقع الأليم والغفلة عن هذا الدين
خلاصة هذا الصنف من الناس فيما يتعلق بواقعنا :
واقعنا يشهد بغفلة كبيرة ليس لها مثيل ، هذه الغفلة لا أقول أنها غفلة عامة ، ولكن أقول هى الغالبة على أكثر الناس ، ولا أقصد بأكثر الناس هنا الكفار ، فهذا أمر مفروغ منه
فقد قال تعالى :
"  وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103]
وقال تعالى :
" إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنفال : 55]
وقال تعالى :
" فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [هود : 17]
وقال تعالى :
" وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف : 106]
فالغفلة التى أقصدها هنا هى : غفلة المسلمين ، ولم ينجو من هذه الغفلة إلا القليل ومنهم :
أولا : أهل العلم العاملين بعلمهم الداعين لدين ربهم – جل وعلا – يخرج عن ذلك العلماء الذين يعملون كخدم للملوك والسلاطين والأمراء والحكام ، هؤلاء الذين يلهثون وراء حطام الدنيا من المناصب والأموال والشهرة هم فى غفلة معرضون ، هؤلاء هم الذين يرقعون باطل الأنظمة ويلبسونه ثوب الحق ، ولكن هيهات هيهات
" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ [الرعد : 17]
ثانيا : المجاهدون فى سبيل الله ، وهم قلة فى هذا الزمان ، ونحسبهم والله حسيبهم من الطائفة المنصورة الظاهرة التى أخبر عنها الرسول – صلى الله عليه وسلم –
عن ثوبان : قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرُّهم مَن خَذَلهم حتى يأتيَ أمْرُ الله وهم كذلك » أخرجه مسلم.
عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:« لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرُهم المسيحَ الدَّجال » أخرجه أبو داود.
هؤلاء الذين حملوا على عاتقهم نصرة هذا الدين فى الوقت الذى تخلى فيه الناس عن ذلك لا يضرهم تخذيل المتخاذلين وإن كانوا ممن ينتسبون لأهل العلم ،
هؤلاء الذين تركوا الدنيا وشهواتها وفروا إلى الله ينصرون دينه ويُعلون كلمته ، وبذلوا فى ذلك أرواحهم وأموالهم كانوا سببا فى أن يفيق الكثير من المسلمين من غفلتهم ، فجزاهم الله خير الجزاء
ثالثا : الجماعات الدعوية التى حملت المنهج الصحيح وقامت تدعوا إليه ، وإن كانت هذه الجماعات تتفاوت فى ذلك تفاوتا كبيرا ، فيخرج من ذلك الجماعات الدعوية المنحرفة فى منهجها خاصة التى انحرفت فى مسائل الاعتقاد   
وما دون هذه الأصناف الثلاثة فالغالب عليهم الغفلة مع تفاوتهم فى هذه الغفلة ،
هذا ما يتعلق بالطوائف وأصنافهم ، أما ما يتعلق بجوانب الغفلة فيمكن تلخيصه فى الآتى :
الجانب الأول : غفلة أكثر الناس عن الغاية التى خلقوا لأجلها وهى عبادة الله وحده لا شريك له ، فأصبحت العبادة عند الكثير من الناس أمرا هامشيا جزئيا ، وفى المقابل أصبحت الدنيا وشهواتها هى همهم وكأنهم ما خلقوا إلا لأجلها
الجانب الثانى : غفلة أكثر المسلمين عن تعلم أصل دينهم ، مما جعلهم يتلبسون بالكثير من الشركيات والكفريات والبدع والخرافات – إلى غير ذلك ، كما هو معلوم ومشاهد لمن عنده القليل من العلم 
الجانب الثالث : غفلة أكثر المسلمين عن رسالتهم وسبب خيريتهم وكرامتهم ، غفلتهم عن الدعوة إلى الله ، غفلتهم عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فلا يقوم بهذا الواجب إلا أقل القليل من المسلمين ،
والله تعالى يقول :
" قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف : 108]
وقال تعالى :
"  كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران : 110]
الجانب الرابع : غفلة المسلمين عن الجهاد فى سبيل الله تعالى ، فبدلا من غزو المسلمين لبلاد الكفر وفتحها ودعوة أهلها لدين الله تعالى ، أصبح الكفار هم الذين يغزون بلاد المسلمين ويعملون على ردة المسلمين عن دينهم
والله تعالى يقول :
" قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة : 29]
وقال تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة : 123]
الجانب الخامس : غفلة المسلمين عن أعدائهم ، وهذه الغفلة جعلت المسلمين يجهلون أعداءهم من جانب ، ومن جانب آخر جعلتهم يحسنون الظن بأعداء الله تعالى ، بل وصل الحال بالمسلمين أن يوالوا أعداء الله تعالى ، بل وقفوا تحت راياتهم يقاتلون معهم أولياء الله تعالى ، وهؤلاء فى الحقيقة ليسوا من المسلمين فى شئ ، وإن كانوا محسوبين عليهم ،
والله تعالى أعلمنا بأعدائنا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون


قال تعالى :
" وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً [النساء : 45]
وقال تعالى :
" وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام : 55]
وقد سبق توضيح ذلك فى المقدمة من خلال كلام سيد قطب - رحمه الله
الجانب السادس : غفلة المسلمين عن شرع ربهم – جل وعلا –
وهذا الجانب يتمثل فى عدة أوجه :
الأول : غفلة المسلمين عن شرع الله من ناحية تحكيمه فى واقع الأمة ، فإن من خصائص وأهداف نزول القرآن : أن يكون هو الحكم بين الناس
قال تعالى :
" إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً [النساء : 105]
الثانى : غفلة المسلمين عن شرع الله من ناحية التحالكم إليه عند التنازع والاختلاف
قال تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء : 59]
وقال تعالى :
" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [النساء : 65]
الثالث : غفلة المسلمين عن شرع الله من ناحية عدم السعى لإقامة دين الله ، بأن تكون كلمة الله هى العليا ، وليس كلمة أصحاب القوانين الوضعية هى العليا ، وأنا أتعجب كل العجب كيف يخضع الناس عالمهم وعوامهم لهذه القوانين التى هى سبب كل فساد وضلال ، ولا يسعون فى تغيير هذه الجاهلية والرجوع بالناس إلى الإسلام الذى أساسه وأصله علو أحكام الله تعالى على بلاد المسلمين
قال تعالى :
" وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال : 39]
الجانب السابع : الغفلة عن كتاب الله تعالى ، هذا الكتاب الذى أنزله الله تعالى ليكون نورا وبرهانا ومنهاجا للناس ، تجدهم – إلا من رحم الله – قد أعرضوا عنه تلاوة وتدبرا وتحكيما وعملا واستشفاء ، وأقبلوا على العكوف على الغناء وسماع المعازف والفن بشتى أنواعه
قال تعالى :
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس : 57]
وقال تعالى :
"  وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [النور : 34]
خشع الناس وخضعوا لكلام البشر الذى يدعوا إلى الشهوات وغفلوا عن كلام رب البشر الذى يدعوا فيه إلى الهدى والتقى والعاف والرشاد
قال تعالى :
" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر : 21]
وما حل الضنك والكرب والبلاء بالناس إلا بسبب غفلتهم وإعراضهم عن هذا القرآن الكريم
قال تعالى :
" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه : 124]
الجانب الثامن : الغفلة عن الدار الآخرة والإعراض عنها ، مع الإقبال على الدنيا والإخلاد إليها والسكون والرضا بها ، على الرغم من أن الله تعالى بين لنا أن الرضا بالدنيا والغفلة عن الآخرة من شأن الكافرين وليس من شأن المؤمنين
قال تعالى :
" إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8)
وقد حث وحض الله تعالى عباده المؤمنين على الجهاد فى سبيله والإعراض عن هذه الحياة الدنيا
قال تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة : 38]
وقد بين الله تعالى حقيقة الدنيا والآخرة فى آيات كثيرة حتى يقبل الناس على الآخرة ويعرضوا عن هذه الحياة الدنيا ولا يركنوا إليها
قال تعالى :
" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد : 20]
وقال تعالى :
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس : 24]
وقال تعالى:
" وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً [الكهف : 45]
الجانب التاسع : الغفلة عن الموت وما بعده من الغفلة عن القبر وما فيه ، وهذا الجانب يدخل فى الجانب الذى قبله ، والذى يدل عليه هو عدم الاستعداد للرحيل من هذه الدنيا والتزود للآخرة ، فالواقع يشهد بأن الناس إنما يعمرون دنياهم مع تخريبهم لآخرتهم
قال تعالى :
" وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة : 197]
فعلى المسلم أن يغتنم فرصة حياته بالاستعداد لدار الآخرة ، قبل أن يطلب الرجعة إليها ليعمل صالحا فلا يجاب إلى ذلك
قال تعالى :
" حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وفى ختام هذه الرسالة أسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم ردا جميلا ، وأن يحفظ المجاهدين المرابطين فى كل مكان وأن يجعلهم ذخرا للإسلام والمسلمين ، وأن يوفق العلماء إلى القيام بوظيفتهم وأن يسددهم – إنه ولى ذلك والقادر عليه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين









0 comments:

welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^