الرد السامى على ياسر برهامى



                                            المقدمة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه  ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮ   ﭯ  ﭰ[ آل  عمران: ١٠٢] ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ    ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ   ﭡﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧ    ﭨﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ ﭭ  ﭮﭯ [ النساء : ١ ] .  ﭽ ﭴ  ﭵ  ﭶ   ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ   ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ   [ النساء: ٩ ] .
أما بعد :
فقد أعطاني بعض الأخوة كتابا بعنوان " فتح المنان في نقد شرح منة الرحمن " للشيخ ياسر برهامى ، للمؤلف أحمد بن زايد بن حمدان ، وكان الأخ قد أخبرنى بكثرة الأخطاء المأخوذة على الشيخ ياسر برهامى في كتابه هذا وانتقدها عليه صاحب الكتاب ، فلما شرعت في قراءته ، ووصلت إلى التمهيد ، وجدت نفسى مصدوما صدمة شديدة بسبب ما ذكره مؤلف النقد في حق الشيخ ياسر برهامى من أنه يقول : بتكفير إخوة يوسف ، أولاد يعقوب – عليه السلام – مع عذرهم بجهلهم ، فقلت سبحان الله العظيم ، كيف صدر عنه مثل هذا المعتقد ؟ وما الذى حمله على مثل هذا القول ؟ وكيف وسع علماء ودعاة السلفية السكوت على مثل هذا القول الخطير؟ أم أنهم لم يسمعوا به ؟
ثم رجعت إلى نفسى وقلت : ولكن علىّ أن أتأكد من المصدر الأصلي لهذا الكلام ، ليس تشكيكا فيما ذكره صاحب النقد ، ولكن لزيادة الاطمئنان في صحة النقل ، وبالفعل اشتريت نسخة من كتاب الشيخ ياسر ، فوجدت المسألة بالفعل على ما ذكره صاحب النقد وأشد ، فحزنت حزنا شديدا ، ورأيت من باب النصيحة لكل مسلم الرد على هذا القول لعدة أسباب  :
الأول : بيان الحق الموافق للكتاب والسنة  .
الثانى : الدفاع عن يعقوب – عليه السلام – وأولاده ، لأن لازم هذا القول الذى قاله ياسر برهامى الطعن في يعقوب – عليه السلام – أنه لم يعلم أولاده أصل الدين ، أى ما يجوز في حق الأنبياء وما لا يجوز ، ولم يربيهم تربية صحيحة .
الثالث : النصيحة لكل مسلم خاصة الذين يقرأون لدعاة الدعوة السلفية .
الرابع : مراسلة الدكتورياسر برهامى بإرسال نسخة له من هذا الرد لعله أن يرجع عن مثل هذا القول .
الخامس : أن رد صاحب " فتح المنان " مختصر جدا على هذه المسألة وإن كان يفي بالغرض لظهور ووضوح المسألة ، ولكنى أردت التوسع المحدود في هذه المسألة لغرض مهم ، ألا وهو أن أصحاب الدعوة السلفية في هذا العصر – إلا من رحم الله – يقولون بالعذر بالجهل على وجه الإطلاق ، فهذا من المسلمات عندهم ، وكذلك مسألة عدم تكفير المعين ، فأردت أن أبين لهم ولغيرهم بعض ما فصله العلماء في ذلك 
وقد رتبت هذا البحث على النمط التالى :
أولا : المقدمة : وقد بينت فيها السبب والباعث على هذا الرد  .
ثانيا : تمهيدان بين يدى هذا الرد :
الأول : يتعلق بقاعدتين ، وهما :
1-  استدل ثم اعتقد .
2- البحث عن النتائج قبل البحث عن المقدمات خطأ وزلل كبير  .
التمهيد الثانى : الأصل عدم العذر بالجهل ، والعذر هو الاستثناء ، بينت ذلك من خلال ثلاثة أمور  :
1- أن الجهل عارض من العوارض الأهلية .
2- استثناء العلماء بعض الحالات التى يعذر فيها بالجهل ، مما يدل على أن الأصل عدم العذر .
3- أكثر جهل الجاهلين ناتج عن الإعراض ، مع ترك الأصل وهو وجوب طلب العلم العينى  .
ثالثا : مدخل : ذكرت فيه نص كلام الشيخ ياسر برهامى في موضعين من كتابه ، والذى يدور حولهما الرد
رابعا :جعلت الرد في أربعة أبواب ، ثم خاتمة فيها نتائج هذا الرد .
الباب الأول :أقوال المفسرين في معنى الضلال لغة وشرعا .
الباب الثانى : أقوال العلماء في العذر بالجهل وتفصيلهم في ذلك  .
الباب الثالث : أقوال العلماء في التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية ، فيما يعذر فيه المسلم ، وما لا يعذر فيه  .
الباب الرابع : أقوال العلماء وتفصيلهم في تكفير المعين .

                           تمهيد أول
                         قاعدتان في معنى واحد وهما
الأولى :  استدل ثم اعتقد .
الثانية : البحث عن النتائج قبل البحث عن المقدمات زلل وخطأ .
أهل السنة والجماعة تميزوا بمنهجهم الواضح البيّن في طرق البحث ، فطريقتهم في مسائل الدين عموما ومسائل الاعتقاد خصوصا تنحصر في الاستدلال أولا من الوحى ، الكتاب والسنة ، ثم الوصول للنتائج بعد ذلك ، أى الاعتقاد الحق .
أما أهل البدع فمنهجهم قائم على الاعتقاد أولا ثم الاستدلال بعد ذلك بما يوافق هذا المعتقد ، فهم بذلك قدموا النتائج قبل البحث في المقدمات  .
فتجد المعتزلة مثلا : قالوا بخلق القرآن واعتقدوا ذلك ، ثم أخذوا يبحثون عن استدلالات توافق وتخدم هذا المعتقد ، فيستدلون إما بالمتشابه من القرآن ، أو يستدلون بأدلة يضعونها في غير موضعها ، وهكذا ..
وكذلك المرجئة فظهوروها كان رد فعل على مذهب الخوارج ، اعتقدوا أولا بخروج العمل من مسمى الإيمان ، ثم أخذوا يبحثون عن أدلة لتعضيد هذا المعتقد ، فتجدهم يستدلون تارة بمطلق ما جاء في اللغة ، وتارة يستدلون ببعض القرآن وترك البعض الآخر ، وهكذا ..
يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى  :
" ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواء ، فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل ، كذلك أيضاً بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك ، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه ، ثم يكون فهمه تابعاً لها ، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده ، ولهذا يقولون : استدل ثم اعتقد ، ولا تعتقد ثم تستدل ، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه ، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى ، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه " [ القول المفيد ج1 ص256 ]
وللأسف تجد بعض دعاة وعلماء السلفية يقعون في مثل ذلك ربما بغير قصد من البعض ، وبقصد من البعض الآخر  .
مثال : مسألة العذر بالجهل  :
تجد الكثير من الدعاة والعلماء المعاصرين المنتسبين للسلفية أطلقوا القول بالعذر بالجهل سواء في أصل الدين أو في فروعه ، فهم اعتقدوا ذلك أولا ، بل جعلوه من أصول دعوتهم ، ثم أخذوا يستدلون بالأدلة على هذا المعتقد ، حتى أننى وجدت بعض علماء السلفية يعذرون من سب الله تعالى أو سب رسوله S أو سب الدين بالجهل ، وبالغفلة ، وبالبيئة الفاسدة ، على الرغم من أن ذلك مخالف تماما لصريح القرآن والسنة والإجماع
قال تعالى : ﮃﮄ ﮅ ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ   ﮎ  ﮏ  ﮐﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ   ﮖ  ﮗﮘ  ﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮠ  ﮡ  ﮢﮣ [ التوبة: ٦٥ – ٦٦ ] .
يقول ابن تيمية – رحمه الله  :
" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً أو باطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل " اهـ [ نواقض الإيمان القولية والعملية ص140 ] .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (2/34) السؤال التالي : (( اعتبارهم تاركَ الصلاة كافراً كفراً عملياً والكفر العملي لا يخرِجُ صاحبَه من المِلَّة إلاَّ ما استثنَوْه من سبِّ الله تعالى وما شابهه فهل تارك الصلاة مستثنىً وما وجه الاستثناء ؟
فأجابت : ليس كلُّ كفرٍ عمليٍّ لا يخرج من ملَّة الإسلام ، بل بعضه يخرج من ملَّة الإسلام  ))
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز كما في مجلة الفرقان الكويتية ، العدد(94) : (( الذَّبحُ لغيرِ الله ، والسُّجود لغير الله ،كفرٌ عمليٌّ مُخرجٌ من الملَّة، وهكذا لو صلَّى لغير الله أو سجد لغيره سبحانه ، فإنَّه يكفر كفراً عمليَّاً أكبر- والعياذ بالله - وهكذا إذا سبَّ الدِّين ، أو سبَّ الرَّسول ، أو استهزأ بالله ورسوله ، فإنَّ ذلك كفرٌ عمليٌّ أكبر عند جميع أهل السُّنَّة والجماعة )) " اهـ [ التوسط والاقتصاد ص9 ] .
والعجيب الذي وقع من البعض في هذه المسألة أنهم حكموا على الشئ قبل تصوره ، فبعضهم عنون لرسالته بقوله " العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير " والعنوان واضح أن الذى لا يعذر بالجهل فهو مبتدع ، ولازم هذا القول الحكم على أكثر العلماء بالابتداع في الدين ، وآخر عنون لكتابه بقوله " العذر بالجهل عقيدة السلف "  . الله أكبر – أي فهم هذا ، وقد كلمت صاحب هذا الكتاب وذكرت له أن من السلف من لا يعذرون بالجهل في الشرك الأكبر كما سوف يأتي في ثنايا هذا الرد المختصر ، فقال لي صاحب هذا الكتاب : لم أكن أعرف أن المسألة خلافية  ، إذن فهو حكم في المسألة واعتقدها قبل تصورها والبحث فيها .
قابلت بعض الإخوة ودار بينى وبينه حديث في بعض المسائل الشرعية ، وكان مما قاله لى :إنه كان يقول  بعدم بالعذر بالجهل في الشرك الأكبر ، يقول ثم قلت أليس هناك أحد يقول بخلاف ذلك ، يقول حتى وجدت من يقول بالعذر بالجهل فقلت به ، فهل هذا يستقيم ؟
وأخطر ما في هذه المسألة هو : الاستدلال الخاطئ كما وقع من ياسر برهامى ، وكذلك وضع الأدلة في غير موضعها ، وكذلك الاستدلال ببعض الأدلة وإهمال وترك الأدلة الأخرى ، وكذلك أخذ بعض الأقوال عن بعض العلماء وترك الأقوال الأخرى ، والأخطر من ذلك : إيراد أقوال من يقولون بعدم العذر في الشرك الأكبر على أنها شبهات مردود عليها ، وهذا هو الظلم بعينه ، وعدم الإنصاف – والله المستعان .
مثال آخر : مسألة الحاكمية  :
الكثير من دعاة وعلماء هذا الزمان اعتقدوا أن الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى ، الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، المبدلين لشرع الله وحكمه ، المجاهرين بحرب الإسلام والمسلمين ، الداعين لمنهج العلمانية ، الداعين لحرية الاعتقاد ، الناشرين للشرك والفساد في الأرض – أنهم مسلمون ، فهم لم يصلوا إلى هذه النتيجة بعد بحث واستدلال ، بل اعتقدوها أولا ، وزوروا هذه القضية على السلف ، فقالوا وبئسما قالوا : أن ابن عباس – رضى الله عنهما – يقول : كفر دون كفر ، وطبقوا ذلك على الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين ، فهذا كذب وتدليس في دين الله تعالى .
بعض الدعاة الذين يظهرون في القنوات الفضائية ، إن لم يكن أكثرهم ، يتبجح في سفور واضح ويقول من الذى يقول أن الحاكم ليس مسلما ، بل هم ولاة الأمر من المسلمين ، بل بعضهم يصدر بيانا يتبرأ فيه من الموحدين ، ويصفهم بأنهم من أذناب الخوارج ، مع دفاعه عن المجرمين ، فهؤلاء الدعاة للأسف مرجئة مع أعداء الله ، وخوارج مع الموحدين  .
الشاهد : أن هؤلاء لو رجعوا أولا إلى الكتاب والسنة في هذه المسألة وغيرها لعلموا أنهم اعتقدوا الباطل وتركوا الحق ، فمسألة الحاكمية من أوضح المسائل بيانا في القرآن الكريم ، ولكن الدعوة إلى الدين تحتاج إلى تجرد كامل .
أختم هذا التمهيد بنقل عن الإمام الشنقيطى – رحمه الله – حول بيان حكم المطبقين للقوانين الوضعية ، وأن هذا الحكم بناه من خلال استقراء النصوص الشرعية ، فهو – رحمه الله تعالى – استدل ثم اعتقد فوصل للحكم الحق  .
قال – رحمه الله تعالى :
" وقوله : ﯾ   ﯿ  ﰀﰁ  ﰂ  ﰃ  ﰄ  ﰅ  ﰆ  ﰇ  ﰈ  ﰉ [ المائدة: ٥٠ ] . وقوله تعالى : ﮐ  ﮑ   ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ    ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙﮚ [ الأنعام: ١١٤] ، إلى غير ذلك من الآيات
ويفهم من هذه الآيات كقوله : { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله .
وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر . كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنه ذبيحة الله  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ    ﮄ    ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ  ﮎ   ﮏ  ﮐﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  ﮖ   [ الأنعام: ١٢١ ] . فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم . وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى - هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ﭳ  ﭴ   ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ     ﭻ  ﭼﭽ  ﭾ  ﭿ    ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄﮅ   ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  [ يس : ٦٠ – ٦١ ] ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم : ﮏﮐ ﮑﮒﮓ  ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ     ﮘ  ﮙ  [ مريم: ٤٤] . وقوله تعالى : ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ  ﮞ   ﮟ   ﮠ  ﮡ   ﮢ    ﮣﮤﮥ [ النساء: ١١٧] . أي ما يعبدون إلا شيطاناً ، أي وذلك بإتباع تشريعه .
ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى : ﮱ  ﯓ  ﯔ  ﯕ  ﯖ  ﯗ  ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝﯞ ﯟ  ﯠ  ﯡ  ﯢ  ﯣﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ   [الأنعام: ١٣٧].وقد بين النَّبي S هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: ﯘﯙ   ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝ  ﯞ  ﯟ  ﯠ   ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧﯨ   ﯩ  ﯪ  ﯫ     ﯬﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ [ التوبة: ٣١ ] .فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك ، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً .
ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون ، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب . وذلك في قوله تعالى : ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ         ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ    ﭣ     ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ    ﭭ  ﭮ  ﭯ [ النساء: ٦٠ ] .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله S أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم .[ أضواء البيان ج4 ص123 – 124 ] .
فانظر – رحمك الله إلى قوله : " وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور .........
يتضح لك الفرق بين العلماء حقا وبين أدعياء العلم زورا ، فالذين أسلموا هذه الأنظمة ليس عندهم إلا قال فلان ، وفلان
ولكن أين القرآن ؟ أين الاستدلال ؟ ربك المستعان .
والخلاصة : استدل ثم اعتقد :
من أراد النجاة في الدنيا والآخرة فعليه بالاعتصام بالكتاب والسنة بفهم خير القرون ، ويترك أقوال الرجال التى ليس لها مستند شرعى  .
فإن العبد يجب عليه أن يعتقد ما جاء في الكتاب والسنة لفظا ومعنى ، وموافقة الكتاب والسنة لفظا ومعنى أفضل من موافقتهما في المعنى دون اللفظ ، أو موافقتهما في اللفظ دون المعنى ، فالسعيد من وفقه الله تعالى إلى موافقة الكتاب والسنة لفظا ومعنى ، ولا يجب على العبد مطلقا أن يدين في اعتقاده لأى عالم من العلماء ، فأقوال العلماء تُعرض على الكتاب والسنة ، وليس العكس ، وليس التوفيق بينهما .
تمهيد ثانى : هل الأصل العذر بالجهل أم عدم العذر ؟ أى في مسائل أصول الدين الظاهرة .
والذى دعانى إلى طرح هذه المسألة ، أنى سمعت بنفسى أحد دعاة السلفية المشهورين يقول " إذا وقع إنسان في الكفر فيجب أن نفترض فيه الجهل " هذا معنى كلامه
فقلت هذا افتراض عجيب وغريب ، لأن الأصل في المسلم أن يكون عالما بأصول دينه ، إلا أنه قد يجهل أحيانا ، وليس الأصل فيه أن يكون  جاهلا إلا أنه يعلم أحيانا ،
وإلا فالجهل لم يذكر في الكتاب والسنة إلا مذموما ، بل هو كذلك عند جميع الناس ، ولو كان افتراض الجهل في كل من وقع في الكفر ، فما معنى أن الله تعالى أحال من لا يعلم إلى سؤال أهل العلم .
فقال تعالى :" فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " [النحل : 43] .
وما معنى فرضية طلب العلم على كل مسلم .
قال رسول الله S: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم و إن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر ) [ رواه ابن عبد البر، صحيح الجامع 3914 ] .

ترجيح القول بأن الأصل عدم العذر

نستدل على ذلك بثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن الجهل من العوارض
والعوارض ليست من الصفات الذاتية ، بل هى تطرأ وتعرض للإنسان  ، وقد عرفها علماء أصول الفقه " بأنها هى الحالات التى تكون منافية للأهلية وليست من لوازم الإنسان من حيث هو إنسان ، وقسم العلماء هذه العوارض إلى قسمين :
الأول : العوارض السماوية ، وهى العوارض التى ليست من كسب الإنسان ، أو ما لا دخل للإنسان في وجودها مثل : الصغر ، والجنون ، والنسيان ،  والعته ، والنوم ، والموت ، وغير ذلك .
القسم الثاني : العوارض المكتسبة ، وهى التى تكون من كسب الإنسان ، أو له دخل في وجودها ووقوعها مثل الخطأ ، والجهل ، والإكراه ، والسكر ، والهزل ، وغير ذلك " [ راجع في ذلك الوجيز لعبد الكريم زيدان ص100- 101 ] .
والعلماء قسموا الجهل إلى قسمين :
الأول : قسم سببه التفريط والتقصير ، وعدم السعي في إزالته ، فهذا لا عذر فيه .
 الثانى : سببه عدم وجود العلم وعدم وجود من يقوم بالتعليم ، مع السعى وبذل الجهد في إزالته ، فهذا معذور  .
" إذا تقرر هذا فههنا مسائل تتعلق بجاهل الحكم هل هو معذور أم لا ، ترتبت على هذه القاعدة ، فإذا قلنا يعذر فإنما محله إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم أما إذا قصر أو فرط فلا يعذر جزما " اهـ [ القواعد والمسائل الأصولية ص52 ] .
وكذلك لا بد من التفريق بين المسائل ، فهناك مسائل ظاهرة ومشهورة فلا عذر فيها لمن ادعى الجهل ، ومسائل أخرى خفية وغير مشهورة يقبل فيها دعوى الجهل
وفي ذلك يقول الحافظ ابن رجب – رحمه الله – في "جامع العلوم والحكم" (83) : ( وفي الجملة فما ترك الله ورسول الله S حلالاً إلا مبيَّناً ولا حراماً إلا مبيَّناً لكن بعضه كان أظهر من بعض، فما ظهر بيانه واشتَهَر وعُلِم من الدين بالضرورة من ذلك، ولم يبق فيه شكٌ ولا يعذر أحد فيه بجهله في بلد يظهر فيها الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حِلِّهِ أو حرمته، وقد يخفي على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً، فاختلفوا في تحليله وتحريمه) . اهـ

مسألة : هل يعذر المسلم  بجهله في بعض أصول الدين ؟
نعم يعذر المسلم في ذلك ولكن في المسائل الخفية المتعلقة بأصول الدين ، وكذلك المسائل التى تحتاج إلى سؤال لعدم العلم بها أو لعدم سماع الخبر فيها ، وهناك أمثلة كثيرة تدل على ذلك منها :
1- منها الصحابة الذين سألوا الرسول S هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فلم يكونوا يعلمون، إما لأنهم لم تبلغهم الأحاديث ، أو سمعوها وأرادوا التفاصيل .
2-  الجهل ببعض صفات الله تعالى . كما في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا ( في الرجل الذي قال لأهله إذا أنا مت فحرقونى ) متفق عليه .
قال : ابن عبد البر رحمه الله في التعليق على هذا الحديث :  " إنه جهل بعض الصفات " .
وقال : " من جهل بعض الصفات وآمن بسائرها لم يكن بجهل البعض كافرا لأن الكافر من عاند لا من جهل ، وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين "  [ التمهيد 18/42 ] .
يستفاد من هذا الحديث أمور :
الأول : أن الحديث ليس فيه دلالة على العذر بالجهل على وجه الإطلاق والتعميم كما فهمه البعض .
الثانى : أن هذا الرجل مؤمن بالبعث - أي مؤمن بصفة القدرة وأن الله يحي العظام و هي رميم .
الثالث : أن هذا الرجل مجتهد خائف .
الرابع : أن هذا الرجل جهل قدرة الله في إعادة المتفتت ،  فالرجل مؤمن بقدرة الله عز وجل وجهل أحد أفرادها  ( إعادة المتفتت ) مع خوفه واجتهاده لذا ما حكم الله عليه بالكفر ولكن من أنكر صفة القدرة لله كفر.
3-  سؤال الصحابة – رضى الله عنهم – عن القدر ، مما يدل على عدم علمهم بتفاصيل القدر  .
 قال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله : "  إن بعض الصحابة وذكر أسماءهم سألوا الرسول S مستفهمين عن القدر فلم يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين ولو كان لا يسعهم جهله لعلمهم ذلك مع الشهادتين وأخذه في حين إسلامهم ) [ التمهيد 18/46.47 مختصرا ] .
والأمثلة على ذلك كثيرة  .
إذن : الجهل عارض من العوارض الأهلية ، وليس هو الأصل في المسلم ، فمتى وقع المسلم في شئ من المحرمات الشرعية ولم يسعى لرفع وإزالة الجهل عن نفسه لا يكون معذورا ، وإلا لكان الجهل أفضل من العلم كما قال الإمام الشافعى – رحمه الله .
قال الامام الزركشى – رحمه الله تعالى : " ولهذا قال الشافعي - رضي الله عنه - لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف ويريح قلبه من ضروب التعنيف فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين - لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " اهـ [ المنثور في القواعد ج2 ص17 ] .
الأمر الثانى : أن العذر بالجهل هو الاستثناء وليس الأصل بمعنى أن العلماء – رحمهم الله تعالى – استثنوا بعض الحالات التى يعذر فيها الإنسان بجهله ، مما يدل على أن الأصل عدم العذر ، وهذا واضح بحمد الله تعالى .
1- قال الإمام النووى – رحمه الله تعالى :" واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفي عليه فيعرف ذلك فان استمر حكم بكفره وكذا حكم من استحل الزنى أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التى يعلم تحريمها ضرورة " اهـ [ شرح صحيح مسلم ج1 ص150 ]
2- يقول شيخ الإسلام - رحمه الله : " وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول ) .
وقال أيضاً : " ... ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه،أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا. بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية " اهـ [ نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد الوهيبى ج1 ص179 ] .
وقال شيخ الإسلام أيضا : " والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ?، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة.. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً " اهـ [ نواقض الإيمان الاعتقادية ج1 ص33 ] .
3- قول الإمام الخطابى – رحمه الله تعالى : " وقد فصل في هذا المعنى ، وزاده إيضاحاً الإمام الخطابي حيث قال: ...وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي ؟
قلنا : لا ، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين والفرق بين هؤلاء وأؤلئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام ، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأول يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة ) اهـ [ المصدر السابق ج1 ص179- 181 ] .
 4 -   قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى –  في الرسائل الشخصية ص245 :
" بسم الله الرحمن الرحيم : إلى الإخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد :
ما ذكرتم من قول الشيخ : كل من جحد كذا وكذا وقامت عليه الحجة ، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة ، فهذا من العجب كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف ؛ وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : ﭑ  ﭒ ﭓ ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗﭘ  ﭙ   ﭚ  ﭛ     ﭜﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡﭢ [ الفرقان: ٤٤] .
وقيام الحجة نوع ، وبلغوها نوع وقد قامت عليهم ، وفهمهم إياها نوع آخر ، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله : S في الخوارج ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم )) وقوله : (( شر قتلى تحت أديم السماء )) مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها .
وكذلك قتل علي - رضي الله عنه - الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة مع مبادئهم وصلاتهم وصيامهم وهم يظنون أنهم على حق .
وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية وغيرهم مع علمهم وشدة عبادتهم وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا .
إذا علمتم ذلك فإن هذا الذي أنتم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت ويعادون دين الإسلام فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين، وأظهر مما تقدم الذين حرقهم علي فإنه يشابه هذا .
وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم فإن كان معكم بعض الإشكال فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم والسلام...." اهـ
5-  قال الشيخ ابن جبرين :" حكم إنكار فريضة الزكاة وحكم منعها بخلا أو جحودا .
ذكرنا سابقاً أن الزكاة واجبة ، وبينا الأدلة على وجوبها من الكتاب والسنة، وأنها من أهم أركان الإسلام، وأن منعها يعرض صاحبها للعقوبة الشديدة، فقد ورد في الحديث أن مانع الزكاة يصفح ماله يوم القيامة بصفائح من حديد يُحمى عليها في نار جهنم ... الحديث وهذا في من منع زكاة الذهب والفضة. أما من منع زكاة الغنم والبقر والإبل، فإنها يؤتى بها يوم القيامة فتنطحه بقرونها كما ورد في الحديث
ومانع الزكاة له حالات ثلاث :
الحالة الأولى : من منعها جحوداً وإنكاراً لوجوبها، فهذا بلا شك أنه كافر بالإجماع؛ لأنه أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه العظام ولأنه مكذب لله ولرسوله وإجماع المسلمين حتى لو أخرجها فإنه لا ينفعه ذلك ما دام منكراً لوجوبها.
الحالة الثانية : من منعها جهلاً بحكمها؛ إما لأنه حديث عهد بالإسلام لم يعرف الأحكام بعد، أو لأنه نشأ ببادية نائية فهذا معذور بجهله، فإذا علم حكمها وجب عليه إخراجها .
الحالة الثالثة : من منعها بخلاً أو تهاوناً مع اعترافه بوجوبها فهذا لا يكفر ولكن تؤخذ منه الزكاة قهراً لقوله S: " من أداها طيبة بها نفسه فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا". ولو أدى ذلك إلى قتاله، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه والصحابة، فقد قاتلوا مانعي الزكاة مستدلين بقوله S: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" اهـ  [ فتاوى ابن جبرين ج3 - ص243 ] .
وأجمع  أئمة الدعوة النجدية وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم وغيرهم ، أن التعريف للثلاثة في مسائل التكفير قبل التكفير ، هم:
1--حديث عهد بجاهلية .
2- -الناشئ في بادية بعيدة .
3- - من نشأ وعاش في بلد الكفار .
فهؤلاء الثلاثة يعذرون في باب الشرائع الظاهرة ولا يلحقهم اسم الكفر والشرك ويُعرَّفون ولكن لا يعذرون في باب الشرك الأكبر فإذا وقعوا في الشرك لحقهم اسم الشرك، ولم يلحقهم اسم كفر القتل والتعذيب حتى تقوم عليهم الحجة  
والخلاصة :
1- اتفاق الأئمة على أن حديث العهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة يعذر بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر .
2- أن من أنكر هذه الأمور في دار إسلام وعلم ولم يكن حديث عهد بإسلام أنه يكفر بمجرد ذلك، وبذلك ندرك خطأ من يظن أن الجاهل لا يكفر مطلقاً.
3- أن هناك أحكاماً ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة ولكنها لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم. فهذه من أنكرها من العامة لا يكفر، ولكن من أنكرها من الخاصة يكفر إذا كان مثله لا يجهلها.
إذن عدم العذر هو الأصل ، والعذر بالجهل هو الاستثناء ، لأنه عارض .
الأمر الثالث : الجهل الناتج عن الإعراض لا عذر لصاحبه  
لماذا لأنه خلاف الأصل وهو التعلم وبذل الجهد واستفراغ الوسع في طلب الحق  .
لذلك عدّ العلماء الإعراض من نواقض الإسلام ، وكذلك هو من أنواع الكفر المخرج من الملة .
قال صاحب كتاب : نواقض الإيمان الاعتقادية :
" بعد هذا الإيجاز لكلام أهل اللغة والمفسرين، يمكن أن نستخلص من معاني الإعراض ما يلي:
1- يأتي بمعنى: عدم الاستماع لأوامر الله عز وجل، وعدم المبالاة بها أو التفكر فيها وهو الغالب.
2- ويأتي بمعنى: عدم القبول لها، وهذا يأتي بعد الاستماع لها والتذكير بها.
3- ويأتي بمعنى الامتناع والتولي عن الطاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول .
4- ويأتي بمعنى: ترك العمل .
5- ويأتي بمعنى: الصدود .
6- ويأتي بمعنى: ترك حكم الله، والانصراف عنه مع العلم بحقيقته .
وحاصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: يتعلق بالعلم (قول القلب)، من عدم الاستماع، وعدم المبالاة .
الثاني: يتعلق بالعمل (عمل القلب والجوارح).
أ - عمل القلب: من عدم القبول والاستسلام.
ب- عمل الجوارح : من الامتناع ، وترك العمل، والتولي عن الطاعة .
الثالث: الإعراض عن حكم الله والتحاكم إليه.
فهذا هو مفهوم الإعراض، وهذه هي أنواعه وحالاته .
ب- الإعراض المكفر وغير المكفر .
بعد ذكر مفهوم الإعراض وحالاته، يرد علينا هذا التساؤل، ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟ ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - من أنواع الكفر الأكبر: كفر الإعراض ، وعرفه قائلاً: (وأما كفر الإعراض: فإن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة ...) ، وفصل ذلك في موضع آخر فقال (..أن العذاب يستحق بسببين :
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها .
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول
كفر إعراض ، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفي الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل ) .
فالإعراض المكفر على حسب ما ذكره هو نوع من اللامبالاة فلا يسمع الحجة، ولا يبحث عنها، ولا يفكر في ذلك، ولا يعني ذلك أن الإمام يحصر كفر الإعراض بما ينافي قول القلب فقط، لكنه لا يسمي في كلامه ترك العمل بعد العلم كفر إعراض، وإنما يطلق عليه كفر عناد وهو نفسه كفر الإعراض من جهة التولي وترك العمل والامتناع. وكذلك تكلم الإمام عن كفر المعرض عن حكم الرسول كما سيأتي .
كذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- كفر الإعراض المنافي لقول القلب حيث قال: (...والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه، ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه
كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب...)
وكذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- ذكر ضمن نواقض الإسلام ( العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى: ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ      ﭟ  ﭠ   ﭡ   ﭢ  ﭣﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ    ﭨ  ﭩ  [ السجدة: ٢٢] .
 فالإمام كما يبدو من كلامه يعتبر جهل أصول الدين والإعراض عن تعلمه مع القدرة كفر أكبر وكذلك ترك العمل بعد ما يعلم .
أما الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ- رحمه الله- فقد أجاب إجابة شاملة وموجزة حينما سئل عن الإعراض الناقض للإسلام، فقال: (إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات،وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به الإسلام وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: ﭑ  ﭒ  ﭓ   ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗﭘ  ﭙ  ﭚ   ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧﭨ  ﭩ  ﭪ           ﭫ  ﭬ  ﭭﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ   [ الأعراف : ١٧٩] .
 وقوله: ﯳ ﯴﯵﯶ  ﯷ  ﯸ   ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ      ﯾ  ﯿ  [ طه: ١٢٤]
 ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة وإن اختلف التعبير واللفظ...)
فالشيخ عبد اللطيف - رحمه الله- بين ووضح أنه إذا اختل الأصل  بالإعراض التام عن قول القلب أو عمله، أو قول اللسان أو جنس عمل الجوارح فهذا هو الإعراض الناقض لأصل الإيمان، أما ترك الواجبات والمستحبات والإعراض عن فعلها فلا يعد ضمن الإعراض المكفر، ويلاحظ في كلام الشيخ أنه لم يذكر ترك الأركان ضمن الإعراض غير الناقض ولعل ذلك للخلاف المشهور حول حكم تارك الأركان، وخاصة الصلاة .
كذلك من صور الإعراض المكفر، والإعراض عن حكم الله عز وجل ورسوله S .
 قال تعالى: ﮍ   ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ   ﮘﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ   ﮝ  ﮞ  ﮟ  ﮠ   ﮡ  ﮢ   ﮣ      ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧ  ﮨ  ﮩ  ﮪ  ﮫ  ﮬ  ﮭ    ﮮ     ﮯ    ﮰ  ﮱ  ﯓ  ﯔ  ﯕ  ﯖ    ﯗ  ﯘ  ﯙ   ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝ  ﯞﯟ  ﯠ   ﯡ  ﯢ  ﯣ   ﯤ   ﯥ  ﯦ         ﯧ  ﯨ  ﯩ    ﯪ  ﯫ    ﯬ  ﯭ  ﯮ     ﯯ   ﯰ  ﯱ    ﯲ  ﯳﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ  ﯸ  [ النور: ٤٧ – ٥١] .
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في تعليقه على هذه الآيات : "  فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وإن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقض والسب ونحوه "  .
 فشيخ الإسلام يبين أن الإيمان يزول بمجرد الإعراض والترك المحض لحكم الرسول S حتى لو لم يقترن بهذا الترك استحلال أو جحود والله أعلم .
وقال تعالى: ﭰ  ﭱ     ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ   ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ   ﭾﭿ  [ النساء: ٦١ ] .
 قال الإمام ابن القيم في معنى هذه الآية: " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه والتسليم لما حكم به رضى واختيار ومحبة فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق ... "
وإذاً نستخلص من كلام الأئمة في تفسيرهم للآيات وكلامهم عن كفر الإعراض أن الإعراض الناقض للإسلام هو إعراض عن أصل الإيمان، إما أن يعرض إعراضاً تاماً عن تعلم أصول الدين مع قدرته على ذلك أو عن قبولها والانقياد القبلي لها، أو يعرض إعراضاً تاماً عن العمل بالجوارح ( أن يترك جنس العمل) ، أو يعرض عن حكم الله ورسوله " اهـ [ ج1 ص339-343 ] .
قال الشيخ عبد العزيز الطريفي: 
" الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى: ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ      ﭟ  ﭠ   ﭡ   ﭢ  ﭣﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ    ﭨ  ﭩ [ السجدة : ٢٢] . وقد تقدم قوله S كما في " الصحيح " من حديث أبي هريرة عن رسول الله S أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .
والإعراض عن دين الله الذي يكفر به صاحبه هو الإعراض عن تعلم أصل هذا الدين، فالإعراض عن دين الله والترك والرفض له، بأن يعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، فيكفر بهذا الإعراض والترك، قال الله تعالى: ﮥ   ﮦ  ﮧ  ﮨ  ﮩ  ﮪ [ الأحقاف: ٣] . وقال تعالى: ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ  ﮊ  [ آل عمران: ٣٢]  وقد نفي الله الإيمان عمن لم يأت بالعمل وإن كان قد أتى بالقول، قال تعالى : ﮍ ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ   ﮘﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ   ﮝ [ النور: ٤٧] .
وقال تعالى : ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ   ﭑ  ﭒ   ﭓ     ﭔ    ﭕ  ﭖ  ﭗ   ﭘﭙ [ الليل: ١٤ – ١٦] .
والتولى والإعراض ليس هو التكذيب قال تعالى : [القِيَامَة : ﮂ  ﮃ  ﮄ      ﮅ   ﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ    ﮊ  [ القيامة: ٣١ – ٣٢ ] ، فجعل التولي مقابلاً للعمل لا مقابلاً للتصديق ، فالتولي والإعراض هو التولي عن الطاعة والإعراض عنها .
وكما أن الكفر يكون بالاعتقاد ويكون بالجحود ويكون بالفعل ويكون بالقول فكذلك يكون بالإعراض والترك والرفض .
والإعراض عن دين الله ، لا يتعلمه، و لا يعمل به، ولا يبالي بما ترك من المأمورات، وما يقترف من المحرمات، ولا بما يجهل من أحكام ، يلزم منه لزوماً ظاهراً  .
ويدل دلالة ظاهرة على عدم الإقرار بالشهادتين باطناً ولو أقر بهما ظاهراً .
والمكلف لا يخرج من ناقض الإعراض المستلزم لعدم إقراره بالشهادتين بفعل أي خصلة من خصال البر، وشعب الإيمان، فإن من هذه الخصال ما يشترك الناس في فعله كافرهم ومؤمنهم ، كالإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف ، وإماطة الأذى عن الطريق، وكف الأذى، والصدقة ، وبر الوالدين ، وأداء الأمانة . وإنما يتحقق عدم الإعراض عن دين الله، والسلامة من هذا الناقض بفعل شيء من الواجبات التي تختص بها شريعة الإسلام التي جاء بها الرسول S كالصلاة و الزكاة و الصيام والحج، إذا فعل شيئاً من ذلك إيماناً واحتساباً سلم من الإعراض المخرج له عن دين الله .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في " المجموع "  (7 / 621):
( فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد ) انتهى.
والإعراض عن دين الله تعالى إعراض مخرج من الملة وإعراض لا يخرج من الملة .
فالإعراض المخرج من الملة : هو ما قصده العلامة محمد بن الوهاب هنا، وقد تقدم بيانه .
والإعراض الذي لا يخرج من الملة : هو أن يكون مع المرء أصل الإيمان ، لكنه يعرض عن فعل واجب من الواجبات .
   والمعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، لا يعذر بجهله الذي يستطيع رفعه، وإلا لكان الجهل خيراً من العلم .
قال ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " : (1 /43) :
" كل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول يوم القيامة ﭺ  ﭻ   ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ   ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ  [ الزخرف: ٣٨ ] .
فإن قيل : فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى : ﰆﰇ  ﰈ  ﰉ   [ الأعراف: ٣٠]  ؟
قيل : لا عذر لهذا وأمثاله من أهل الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول  ، ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرِّط بإعراضه عن إتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أُتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه ) انتهى.
    ثم ختم المؤلف هذه النواقض بقوله رحمه الله : (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره "  اهـ [ الإعلام بتوضيح نواقض الإسلام ص51 - 55 باختصار] .
    والأصل عدم قبول تأويل متأول لارتكابه أحد نواقض الإسلام، فليس أحد يتجرأ على هذه النواقض من شرك أو تعد على الله عز وجل ورسوله S من غير تأويل، ومن غير شبهة تنقدح في قلبه، ومن غير دعوى، حتى عبَّاد الأصنام، ولذا حكى الله عز وجل قول الكفرة لنبي الله  ﮋ  ﮌ   ﮍ    ﮎ  ﮏ  ﮐ [ النساء: ٦٢ ] .
قال تعالى:ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ     ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ    ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ    ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ     ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ   ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ   ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ      ﮂ  ﮃ  ﮄ     ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ  ﮌ   ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ   ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ   ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ [ النساء: ٦٠ – ٦٣ ] .
والواقع يشهد أن غالب الناس  إلا من رحم الله تعالى – جهلوا حقيقة الدين بسبب إعراضهم وإقبالهم على الحياة الدنيا وشهواتها .


مدخل
نص كلام الشيخ ياسر برهامى

    وذلك في موضعين من كتابه " تأملات إيمانية في سورة يوسف .
الموضع الأول : قال عند قول الله تعالى:  ﮐ   ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ [ يوسف: ٨] .
" نعوذ بالله من الجهل والضلال ، أبوهم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، نبى الله ابن نبى الله ابن خليل الله ، العليم بالله ، وبصفاته ، الذى جعله الله قرّة عين لجدّه إبراهيم – عليه السلام – في حياته وتربى في حجره ، وجعله الله إماما يهدى بأمره ، يقولون عنه : إنه في ضلال ، وليس فقط في ضلال ، بل يجعلونه ضلالا مبينا واضحا جليا ، فسبحان الله ، كيف انقلبت الموازين واختل الفهم إلى هذا الحد ؟
لكنه الحسد الذى يُعمى القلب ، ويغير الحقائق في نفس الحاسد حتى لا يرى الخير في غيره ، ويحكم على من لا يوافقه في غيّه وجهله بالضلال .
وهم قد جمعوا في هذه الجملة عددا من العظائم : عقوق الأب ، وحسد الأخ ، وغيبة أبيهم النبى – وسؤ الظن به ، والاعتقاد الفاسد بنسبة الظلم إليه في تفضيله ، والإعجاب بالنفس بما لا يستلزم الفضل .
وأشد هذه كلها الاعتقاد الفاسد في أبيهم النبى ، وتلفظهم بهذه الكلمة العظيمة باتهامه بالضلال ، ولا شك أن اعتقاد ضلال نبى من الأنبياء – فضلا عن التلفظ بذلك – من الكفر ، ولكنهم كانوا جهالا بما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء فعُذروا بالجهل في عدم التكفير ، وإن كان إثمهمبذلك عظيما ،  لكن لا يكفر المعين قبل إقامة الحجة وإزالة الشبهة .
ومثل هذه الكلمة في الشناعة والفساد قولهم لأبيهم حين قال في نهاية القصة " ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲﯳ  ﯴ  ﯵ   ﯶ  ﯷ [ يوسف: ٩٤ ] . أى : تسفهونى وتنسبونى إلى خرف الهرم ﯸ  ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .
قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله – وكذا قال السدى وغيره .
والأنبياء لا يجوز أن يُسفّهوا أو يضللوا ، بل هذا قول أعدائهم الكفرة فيهم ، ولولا جهل أبناء يعقوب لكفروا كفرا ينقل عن الملة فيما اعتقدوا وتلفظوا في حق نبي الله يعقوب – عليه السلام .
ففي القصة دليل على العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد" اهـ [  ص35 ] .
الموضع الثانى : قال عند قول الله تعالى ﯸ  ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .
" ويعقوب – عليه السلام – يعلم أن بنيه الموجدين حوله في واد آخر ، فلن يقبلوا مثل هذا الوجد ولن يصدقوا بحقيقته ، وقد كان ، فقالوا لأبيهم نبى الله – عليه السلام – تلك الكلمة الشنيعة الدالة على جهلهم وسؤ أدبهم وعدم معرفتهم بما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز  : ﯸ  ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ [ يوسف : ٩٥ ] . ونسبة الضلال والخرف والسفه وزوال العقل للأنبياء كفر ، والعياذ بالله ، ولولا الجهل لكفروا ولكنهم معذورون بجهلهم ، وإن كانوا آثمين فيما قالوا لتقصيرهم في حق نبى الله يعقوب أبيهم – عليه السلام " اهـ [ تأملات ياسر برهامى - ص242 ].



أقوال المفسرين والعلماء في معنى الضلال

تمهيد :
ذهب ياسر برهامى في كتابه " تأملات إيمانية في سورة يوسف " إلى أن الضلال الذي ورد مرتين  في سورة يوسف على لسان  أولاد يعقوب – عليه السلام – في حق أبيهم هو : الضلال الكفرى المخرج من الملة ، إلا أنهم عُذروا بجهلهم ، فقال " وأشد هذه كلها الاعتقاد الفاسد في أبيهم النبى ، وتلفظهم بهذه الكلمة العظيمة باتهامه بالضلال ، ولا شك أن اعتقاد ضلال نبي من الأنبياء – فضلا عن التلفظ بذلك – من الكفر ، ولكنهم كانوا جُهالا بما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء فعُذروا بالجهل في عدم التكفير " اهـ [ ص35 ] .
وكرر نفس الكلام في الموضع الثانى .
والسؤال هنا : هل سبقه وشاركه أحد من أهل العلم في مثل هذا الفهم ؟ أم هذا اجتهاد منه ؟ وهل هناك اجتهاد في مثل هذه الأمور ؟ وهل خفي المعنى الذى ذكره الأخ ياسر برهامى على العلماء سلفا وخلفا حتى يخرج لنا بمثل هذا الفهم ؟
    ومع كثرة ما نُقل عن السلف والخلف في تفسير الضلال في الموضعين ، نجده لم ينقل عنهم شيئا إلا ما نقله عن قتادة والسدى – رحمهما الله تعالى – وليس في كلامهما ما يعضد ما ذهب إليه الأخ ياسر برهامى ، مع أن الوارد عن السلف والخلف في تفسير الضلال في الموضعين فيه نفي الكفر عن أولا د يعقوب – عليه السلام – يعنى : نقيض ما فهمه الأخ ياسر برهامى تماما.
والسؤال هنا : لماذا لم يذكر ما ثبت عن العلماء في ذلك ؟ ولماذا لم يسعه ما وسع العلماء ؟
والواضح أنه أراد من وراء هذا الفهم الخاطئ تعضيد مذهبه الذي يذهب إليه في مسألة " العذر بالجهل "
وهذا فعلا ما ذكره نصا في كلامه في الموضعين كما سوف نبين – إن شاء الله تعالى .
وهنا سؤال آخر وهو : على كثرة الرسائل والكتب التي أُلفت في مسألة " العذر بالجهل " لمن يقول بذلك ، هل وجدت أحدا استدل بمثل هذا الاستدلال العجيب الغريب ، وهل غاب عن جميعهم هذا الاستدلال حتى عثرت عليه أنت ؟ وهل السلفي حقا هو الذي يخالف السلف ، أم هو الذي يسير على هديهم ؟
أين كلام السلف الذي نقله عنهم الأخ ياسر برهامى  والذي يدل على أدبهم وتحفظهم واختيارهم الألفاظ الذي تليق بأولاد الأنبياء المؤمنين  .
فقد نقل عنهم الأخ ياسر برهامى قوله :
" قال قتادة : قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله – وكذا قال السدّى وغيره " اهـ [ ص35 ] .
فهل في هذا الكلام أي إشارة إلى أن أولاد يعقوب – عليه السلام – كفروا ولكنهم كانوا جُهالا فعُذروا بالجهل ؟
لا والله ما في هذا الكلام ولا في غيره أي إشارة على ذلك .
ولكن الأخ ياسر أطلق العنان للألفاظ التي تحاشى عنها السلف والخلف فأصدر حكمه بكفر أولاد يعقوب – عليه السلام – ولكنهم لم يكفروا تعيينا لجهلهم  .
وسؤال أخير سوف نجيب عليه في ثنايا هذه الرسالة وهو: ماذا يقول فضيلة الشيخ ياسر برهامى في قول الله تعالى عن موسى عليه السلام : ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  [ الشعراء: ٢٠] . فهل كان موسى – عليه السلام – كافرا  والعياذ بالله ، ولكن الله تعالى عذره بجهله ؟ وما الفرق بين هذا الضلال ، وما وقع من أولاد يعقوب – عليه السلام – من ضلال ؟                        
وماذا يقول ياسر برهامى عن قول الله تعالى في حق نبيه S ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ [ الضحى: ٧ ] . فهل معنى الضلال هنا هو الكفر – والعياذ بالله تعالى ؟            
فما هي أقوال أهل العلم في معنى الضلال ؟                       
أولا : قال ابن فارس في مقاييس اللغة  :                            
" ( ضل) الضاد واللام أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو ضَياع الشيء وذهابُهُ في غيرِ حَقِّه . يقال ضَلَّ يَضِلّ ويَضَلّ ، لغتان . وكلُّ جائرٍ عن القصد ضالٌّ. والضَّلاَل والضَّلالَة بمعنى. ورجلٌ ضِلِّيل ومُضلَّل، إذا كان صاحبَ ضَلاَلٍ وباطل. وممّا يدُلُّ على أنّ أصل الضّلاَل ما ذكرناهُ، قولُهم أُضِلّ الميّتُ، إِذا دُفِنَ. وذاكَ كأنَّهُ شيءٌ قد ضاع . ويقولون: ضَلَّ اللَّبَنُ في الماءِ ، ثم يقولون استُهْلِكَ . وقال في أُضِلَّ الميّت:

وآبَ مُضِلُّوهُ بعينٍ جَلِيَّةٍ      وغودِرَ بالجَوْلان حَزمٌ ونائلُ

" اهـ [ ج3 - ص279 ] .

ثانيا : قال الراغب في غريب القرآن :
" ضل : الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضاده الهداية ، قال تعالى: ﭶ  ﭷ ﭸ  ﭹ  ﭺﭻ  ﭼ    ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀﮁ  [ يونس: ١٠٨] .
ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمدا كان أو سهوا، يسيرا كان أو كثيرا، فإن الطريق المستقيم الذى هو المرتضى صعب جدا، قال النبي S: " استقيموا ولن تحصوا " .
وقال بعض الحكماء : كوننا مصيبين من وجه وكوننا ضالين من وجوه كثيرة، فإن الاستقامة والصواب يجرى مجرى المقرطس من المرمى وما عداه من الجوانب كلها ضلال .
ولما قلنا روى عن بعض الصالحين أنه رأى النبي S في منامه فقال: يا رسول الله يروى لنا أنك قلت " شيبتني سورة هود وأخواتها فما الذى شيبك منها ؟ فقال: قوله : ﮉ  ﮊ  ﮋ [ هود: ١١٢]  .
قلت : أي صاحب هذا الرد ، هذا الحديث ضعيف .
" وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، صح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي S : ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ  [ الضحى: ٧] . أي غير مهتد لما سيق إليك من النبوة .
وقال في يعقوب : ( إنك لفي ضلالك القديم ) وقال أولاده: ( إن أبانا لفي ضلال مبين ) إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه وكذلك : ( قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ) وقال عن موسى عليه السلام : ( وأنا من الضالين) تنبيه أن ذلك منه سهو، وقوله : ( أن تضل إحداهما ) أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع عن الإنسان.
والضلال من وجه آخر ضربان : ضلال في العلوم النظرية كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ومعرفة النبوة ونحوهما المشار إليهما بقوله : ﮌ ﮍ ﮎ  ﮏﮐ ﮑﮒ  ﮓ   ﮔ  ﮕ    ﮖ  ﮗ  ﮘ  [ النساء: ١٣٦] .
وضلال في العلوم العملية كمعرفة الأحكام الشرعية التى هي العبادات ، والضلال البعيد إشارة إلى ما هو كفر كقوله على ما تقدم من قوله : ( ومن يكفر بالله ) وقوله : ﮠ  ﮡ   ﮢ  ﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧ  ﮨ  ﮩ  ﮪﮫ [ النساء: ١٦٧] وكقوله : ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ   ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  [ سبأ : ٨  ] . أي في عقوبة الضلال البعيد، وعلى ذلك قوله :ﯤ   ﯥ   ﯦ     ﯧ  ﯨ  ﯩ ﯪ  [ الملك: ٩] .ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ   ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  [ المائدة: ٧٧] .  وقوله : ﯫ  ﯬ  ﯭ  ﯮ  ﯯ [ السجدة: ١٠] .
كناية عن الموت واستحالة البدن .
وقوله : ( ولا الضالين ) فقد قيل عنى بالضالين النصارى وقوله : ( في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى ) أي لا يضل عن ربى ولا يضل ربى عنه أي لا يغفله ، وقوله : ( كيدهم في تضليل ) أي في باطل وإضلال لأنفسهم .
والإضلال ضربان :
 أحدهما: أن يكون سببه الضلال وذلك على وجهين: إما بأن يضل عنك الشئ كقولك أضللت البعير أي ضل عنى، وإما أن تحكم بضلاله، والضلال في هذين سبب الإضلال .
والضرب الثاني : أن يكون الإضلال سببا للضلال وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضل كقوله: ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ   ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ    ﯬﯭ [ النساء: ١١٣]  - أي يتحرون أفعالا يقصدون بها أن تضل فلا يحصل من فعلهم ذلك إلا ما فيه ضلال أنفسهم .
وقال عن الشيطان : ﮰ  ﮱ   [ النساء: ١١٩]
وقال في الشيطان: ﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ  ﮎﮏ   [ يس: ٦٢]  .
.ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ    ﭭ  ﭮﭯ [ النساء: ٦٠]  - ﰁ  ﰂ  ﰃ  ﰄ  ﰅ  ﰆ  ﰇﰈ [ ص: ٢٦ ] .
وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين:
أحدهما : أن يكون سببه الضلال وهو أن يضل الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة وذلك إضلال هو حق وعدل، فالحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق .
والثانى من إضلال الله : هو أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقا محمودا كان أو مذموما ألفه واستطابه ولزمه وتعذر صرفه وانصرافه عنه ويصير ذلك
كالطبع الذى يأبى على الناقل ، ولذلك قيل العادة طبع ثان .
وهذه القوة في الإنسان فعل إلهي ، وإذا كان كذلك وقد ذكر في غير هذا الموضع أن كل شئ يكون سببا في وقوع فعل صح نسبة ذلك الفعل إليه فصح أن ينسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه فيقال أضله الله لا على الوجه الذى يتصوره الجهلة ولما قلناه جعل الإضلال المنسوب إلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن بل نفي عن نفسه إضلال المؤمن فقال: ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ    ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ  [ التوبة: ١١٥] - ﮧ  ﮨ  ﮩ  ﮪ   ﮫ   ﮬ  ﮭ  ﮮ [ محمد: 4- 5 ] .
وقال في الكافر والفاسق :  ﯟ  ﯠ    ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤﯥ [محمد: ٨] - ﮠ  ﮡ  ﮢ  ﮣ  ﮤﮥ [البقرة: ٢٦] - ﯜﯝ ﯞ  ﯟﯠ [غافر: ٧٤] - ﭹ ﭺ  ﭻﭼ [ إبراهيم: ٢٧] . وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة في قوله : ﰀ ﰁ[ الأنعام: ١١٠] . والختم على القلب في قوله : ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  [ البقرة: ٧] . وزيادة المرض في قوله : ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈﮉ [ البقرة: ١٠] . اهـ [ غريب القرآن ص298-299 ] .
يستفاد من ذلك : أن الضلال يراد به معان منها :
1-  ضياع الشئ وذهابه في غير حقه  .
2- الضلال بمعنى الباطل والجور  .
3- وبمعنى : العدول عن الطريق المستقيم .
4- أما نسبة الضلال إلى الأنبياء ، فتأتى على معنى : عدم العلم بكيفية العبادة وتفاصيل الشرع والأحكام : ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ  [ الضحى: ٧] . وبمعنى : النسيان والغفلة كما قال موسى – عليه السلام - عن نفسه :ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  [ الشعراء: ٢٠] .وبمعنى الشوق والشغف : ﯺﯻ  ﯼﯽ    ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .
ثالثا : قال صاحب كتاب " أسرار التكرار في القرآن " :
" قوله  : " تالله "  في أربعة مواضع :
الأول :  يمين منهم أنهم ليسوا سارقين وأن أهل مصر بذلك عالمون .
والثاني : يمين منهم أنك لو واظبت على الحزن تصير حرضا أو تكون من الهالكين .
والثالث : يمين منهم أن الله فضله عليهم وإنهم كانوا خاطئين .
 والرابع : ما ذكره وهو قوله " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم  " وهو يمين من أولاده على أنه لم يزل على محبة يوسف " اهـ [ أسرار التكرار في القرآن - ص112 ].

من أقوال المفسرين

1- قول الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى :
قال في قوله تعالى على لسان أولاد يعقوب – عليه السلام ﮐ    ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  [ يوسف: ٨ ] يعنون في تقديمهما علينا، ومحبته إياهما أكثر منا.
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر. ويحتاج مُدّعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوَى قوله تعالى: ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ      ﭭ  ﭮ  ﭯ   ﭰ [ البقرة: ١٣٦] ، وهذا فيه احتمال ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم: الأسباط، كما يقال للعرب: قبائل، وللعجم : شعوب ؛ يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم ، والله أعلم " اهـ [  تفسير ابن كثير ج2 - ص372 ] .

2- قول العلامة الشنقيطى – رحمه الله :
ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ   ﮌ  ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ    ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  [ يوسف: ٨ ] .
قال – رحمه الله :
" الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة - إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي .
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب . فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم : ﯸ  ﯹ  ﯺ    ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [يوسف: ٩٥ ] . وقوله تعالى في نبينا : ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ  [ الضحى: ٧] . أي لست عالماً بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي ، فهداك إليها وعلمكها بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم .
ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها        بدلا أراها في الضلال تهيم

يعني : أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلاً وهو لا يبغي بها بدلاً .
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين ، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفاراً ، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدارك الحقيقة ، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به ، حيث آثر اثنين على عشرة ، مع أن العشرة أكثر نفعاً له ، وأقدر على القيام بشؤونه وتدبير أموره .
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين :
أحدهما :  الضلال في الدين ، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه . وهذا أشهر معانيه في القرآن . ومنه بهذا المعنى ﭯ  ﭰ  ﭱ   ﭲ  ﭳ  ﭴ [ الفاتحة: ٧ ] .
وقوله : ﯤ   ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ ﯩ [ الصافات : ٧١] .
وقوله : ﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ  ﮎﮏ   ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ  [ يس: ٦٢ ]  إلى غير ذلك من الآيات .
الثاني :  إطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة من قول العرب : ضل السمن في الطعام ، إذا غاب فيه وهلك فيه ، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالاً . لأنه تغيب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها ، لأنها تصير رميماً وتمتزج بالأرض . ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : ﯫ  ﯬ  ﯭ  ﯮ  ﯯ     ﯰ  ﯱ   ﯲ  ﯳﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ  ﯸ  ﯹ     ﯺ [ السجدة: ١٠] .
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى : ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ [ الأعراف: ٥٣ ] . أي غاب واضمحل .
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :

فآب مضلوه بعين جلية       وغودر بالجولان حزم ونائل

فقوله : مضلوه ، يعني دافنيه . وقوله : بعين جلية ، أي بخبر يقين . والجولان : جبل دفن عنده المذكور .
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد
 قذف الأتى به فضل ضلالا
وقول الآخر :
الم تسأل فتخبرك الديار    عن الحي المضلل أين ساروا " 
 [ أضواء البيان ج2 316] .
3- قول الإمام ابن جرير الطبرى – رحمه الله تعالى :
" القول في تأويل قوله تعالى : ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الذين قال لهم يعقوب من ولده ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲﯳ  ﯴ  ﯵ   ﯶ  ﯷ  [ يوسف: ٩٤ ] : تالله، أيها الرجل ، إنك من حبّ يوسف وذكره لفي خطئك وزللك القديم لا تنساه ، ولا تتسلى عنه  " اهـ [ تفسير الطبرى ج6 - ص256 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
عن ابن عباس ، قوله : ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . يقول: خطئك القديم .
عن قتادة: ﯸ  ﯹ  ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . أي :من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه. قالوا لوالدهم كلمةً غليظة، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبيّ الله S .
عن السدي : ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . قال: في شأن يوسف .
قال سفيان : ﯹ  ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . قال:من حبك ليوسف.
وعن سفيان ، نحوه .
عن ابن جريج : ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . قال:في حبك القديم.
عن ابن إسحاق : ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥] .أي إنك لمن ذكر يوسف في الباطل الذي أنت عليه .
قال ابن زيد في قوله :   ﯹ  ﯺ    ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ [ يوسف: ٩٥ ] . قال:يعنون:حزنه القديم على يوسف، وفي ضلالك القديم": لفي خطئك القديم "  اهـ  [ المصدر السابق  - ص257 ].
قلت : ياسر برهامى عندما نقل كلام قتادة – رحمه الله – لم ينقله من أوله ، على الرغم من أن أول الكلام يوضح مراد الكلمة الغليظة التى أرادها قتادة – رحمه الله – وهى : حب - يوسف عليه السلام – فقال " :ﯸ  ﯹ  ﯺﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .
أي : من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه. قالوا لوالدهم كلمةً غليظة ، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبيّ الله S .
4- قول الإمام القرطبى – رحمه الله تعالى :
" ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] . أي لفي ذهاب عن طريق الصواب.
وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه .
وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم .
قال الحسن: وهذا عقوق .
وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة .
وقيل: إنما قالوا هذا ، لأن يوسف عندهم كان قد مات .
وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر.
وقيل : قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته .
وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا، فالله أعلم " [ القرطبى ج5 - ص261 ].
قلت : وها هنا فائدة ، وهى : أن العلماء اختلفوا في أصحاب هذه المقولة  : ﯸ ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ هل هم أولاده ، وهذا بعيد لأنهم كانوا بمصر عند ذلك ، كما سيأتي .
أم هم الحاضرون عنده من أهله وعشيرته ؟  أم هم بنو بنيه الصغار لاعتقادهم بموت يوسف – عليه السلام .
فلماذا اختار ياسر برهامى أن أصحاب هذه المقالة هم أولاده على الرغم من ضعف هذا القول ؟
5- قول الإمام البغوى – رحمه الله تعالى :
"   يعني: أولاد أولاده ، ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ [ يوسف: ٩٥ ]. أي: خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب، فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره" [ البغوى ج2 - ص 276 ] .
قلت : وهذا ترجيح من الإمام البغوى – رحمه الله – على أن أصحاب المقالة هم أولاد أولاده ، وليس أولاده الكبار  .
6- قول الإمام الماوردى – رحمه الله تعالى :
" قوله عز وجل : ﯸ ﯹ  ﯺ ﯻ ﯼ  ﯽ    ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .
فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أي في خطئك القديم ، قاله ابن عباس وابن زيد .
الثاني : في جنونك القديم ، قاله سعيد بن جبير . قال الحسن : وهذا عقوق .
الثالث : في محبتك القديمة ، قاله قتادة وسفيان .
الرابع : في شقائك القديم ، قاله مقاتل ، ومنه قول لبيد :
تمنى أن تلاقي آل سلمى ... بحطمة والمنى طرف الضِّلال
وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : بنوه ، ولم يقصدوا بذلك ذماً فيأثموا .
والثاني : بنو نبيه وكانوا صغاراً " [ النكت والعيون للماوردى ج2 - ص341 ] .

قلت : انظر إلى قول الإمام الماوردى ومسارعته لنفي القصد عن أولاد يعقوب – عليه السلام – لأن هذا هو الأصل خاصة في أولاد الأنبياء – عليهم السلام .
7- قول الإمام أبو السعود – رحمه الله تعالى :
" أي الحاضرون عنده : ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] . لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ولهجك بذكره ورجائك للقائه وكان عندهم أنه قد مات " اهـ [ تفسير أبو السعود ج2 ص361 ] .
8- قول الإمام ابن الجوزى – رحمه الله تعالى :
" قوله تعالى : ﯸ  ﯹ  ﯺ     ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥ ] . قال ابن عباس – رضى الله عنهما : "  بنو بنيه خاطبوه بهذا وكذلك قال السدي هذا قول بني بنيه لأن بنيه كانوا بمصر .
 وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بمعنى الخطأ قاله ابن عباس وابن زيد .
والثاني : أنه الجنون قاله سعيد بن جبير  .
 والثالث : الشقاء والعناء قاله مقاتل يريد بذلك شقاء الدنيا " اهـ [ زاد المسير لابن الجوزى ج3 452 ] .
9- قول الإمام الشنقيطى – رحمه الله تعالى – في موضع آخر غير الذى ذكرناه آنفا  :
قال : " وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب : ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ [ يوسف : ٩٥ ]. أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف ، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك ، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات .
وقوله تعالى : ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ   ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ  [ البقرة : ٢٨٢] .
 أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه ، بدليل قوله : ﮛ ﮜ ﮝﮞ [ البقرة: ٢٨٢] . وقوله تعالى : ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ   [ طه: ٥٢] .
ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أننى أبغى بها      بدلاً أراها في الضلال تهيم
فقوله : « أراها في الضلال » أي الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلاً ، والواقع بخلاف ذلك " [ أضواء البيان ج3 - ص325 ] .

10- قول الإمام النيسابورى – رحمه الله تعالى :
"   يعني الحاضرين عنده  ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .أي فيما كنت فيه قدماً من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه :   ﮐ    ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ  [ يوسف: ٨ ] . وقيل : لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان . قال الحسن : إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات" [ النيسابورى ج2-ص432 ] .
11- قول الإمام النسفي – رحمه الله تعالى :
"   أي أسباطه ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] .لفي ذهابك عن الصواب قديماً في إفراط محبتك ليوسف أو في خطئك القديم من حب يوسف وكان عندهم أنه قد مات " اهـ [ النسفي ج1 - ص456 ] .

12- قول ابن كثير – رحمه الله تعالى :
قال : " وقولهم: ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ[ يوسف: ٩٥  ]. قال ابن عباس: لفي خطئك القديم .
وقال قتادة: أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله S وكذا قال السدي ، وغيره " اهـ [ ج2 ص409 ] .
13- قول العلامة ابن عاشور في تفسيره :
" والذين قالوا :   ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ[ يوسف: ٩٥ ] . هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه .
والضلال : البُعْد عن الطريق الموصّلة . والظرفية مجاز في قوة الاتّصاف والتلبّس وأنه كتلبس المظروف بالظرف .
والمعنى : أنك مستمر على التلبس بتطلب شيء من غير طريقه . أرادوا طمعه في لقاء يوسف عليه السلام . ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدّته ، وكانت مدة غيبة يوسف عن أبيه - عليهما السلام - اثنتين وعشرين سنة . وكان خطابهم إياه بهذا مشتملاً على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافياً لذلك في عرفهم " [ التحرير والتنوير ج7 ص312 لابن عاشور ] .
قلت : انظر إلى قول هذا المفسر – ابن عاشور – رحمه الله – وهو يبين أن هذا القول وإن اشتمل على الخشونة لم يكن منافيا في عرفهم ، والدليل على ذلك : أن يعقوب – عليه السلام – لم ينكر عليهم ما قالوه – والله أعلم .
فائدة :
ما المراد بقول الله تعالى في سورة الشعراء :ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  [ الشعراء: ٢٠] .
قال العلامة الشنقيطى – رحمه الله تعالى : 
" أي قال موسى مجيباً لفرعون : فعلتها إذاً : أي إذ فعلتها وأنا في ذلك الحين من الضالين : أي قبل أن يوحي الله إلي ، ويبعثني رسولاً ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية.
وقول من قال من أهل العلم : وأنا من الضالين ، أي من الجاهلين ، راجع إلى ما ذكرنا ، لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلاً : أي غير عالم بما أوحى الله إليه .
وقد بينا مراراً في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرآن وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات .
الإطلاق الأول : يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء . فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه ، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما ، وليس من الضلال في الدين .
ومن هذا المعنى قوله هنا : وأنا من الضالين : أي من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم ، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي ، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي ومنه على التحقيق : ﮎ  ﮏﮐﮑ[ الضحى : ٧]  أي ذاهباً عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي .
ومن هذا المعنى قوله تعالى : ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ   [ طه: ٥٢] . فقوله : ﭘ  ﭙ  ﭚَ أي لا يذهب عنه علم شيء كائناً ما كان ، وقوله تعالى : ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ  ﮒ  ﮓ   ﮔ  ﮕ  ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ   ﮜ  ﮝﮞ [ البقرة: ٢٨٢] .
فقوله : ﮘﮙ ﮚ: أي تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده : فتذكر إحداهما الأخرى .  وقوله تعالى عن أولاد يعقوب :   ﮐ    ﮑ  ﮒ  ﮓ  ﮔﮕ [ يوسف: ٨ ] .وقوله : ﯸ  ﯹ  ﯺ       ﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥ ] . على التحقيق في ذلك كله .
ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها      بدلاً أراها في الضلال تهيم

والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة ، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر ، وعن طريق الحق إلى الباطل ، وعن طريق الجنة إلى النار ومنه قوله تعالى : ﭯ  ﭰ  ﭱ   ﭲ  ﭳ  ﭴ   [ الفاتحة: ٧ ] .
والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال ، تقول العرب : ضل الشيء إذا غاب واضمحل ، ومنه قولهم : ضل السمن في الطعام ، إذا غاب فيه واضمحل ، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالاً ، لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل .
ومن هذا المعنى قوله تعالى : ﯫ  ﯬ  ﯭ  ﯮ  ﯯ [ السجدة: ١٠] . الآية يعنون إذا دفنوا وأكلتهم الأرض ، فضلوا فيها : أي غابوا فيها واضمحلوا .
ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن ، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحرث بن أبي شمر الغساني :
فإن تحيى لا أملك حياتي وإن تمت 
                                                      فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مضلوه بعــــــــــــــين جلية
                                                      وغودر بالجولان حزم ونائـــل
وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم :
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها 
                                                 وفارسها في الدهر قيس بن عاصم

فقول الذبياني : فآب مضلوه : يعني فرجع دافنوه ، وقول السعدي : أضلت أي دفنت ، ومن إطلاق الضلال أيضاً على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :

كنت القذى في موج أكدر مزيد
                                                    قذف الآتي به فضل ضــــــلالا
وقول الآخر :

ألم تسأل فتخبرك الديار         عن الحي المضلل أين ساروا
وزعم بعض أهل العلم : أن للضلال إطلاقاً رابعاً : قال : ويطلق أيضاً على المحبة قال : ومنه قوله : ﯸ  ﯹ  ﯺ       ﯻ  ﯼ  ﯽ    ﯾ   [ يوسف: ٩٥]  قال أي في حبك القديم ليوسف – عليه السلام .
 قال ومنه قول الشاعر :
هذا الضلال أشاب مني المفــرقا
                                                       والعارضين ولم أكن متحققا
عجباً لعزة في اختار قطيعتي
                                                       بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وزعم أيضاً أن منه قوله ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ [ الضحى: ٧] . قال أي محباً للهداية فهداك ، ولا يخفي سقوط هذا القول . والعلم عند الله تعالى " أضواء البيان ج6 ص371 – 373 ] .

فائدة أخرى :
ما المراد بقول الله تعالى: ﮎ  ﮏ   ﮐ  ﮑ [ الضحى: ٧ ] .
قال الإمام الماوردى – رحمه الله :
" ﮎ ﮏﮐﮑ[ الضحى: ٧ ] .فيه تسعة تأويلات :
أحدها : وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها ، قاله الطبري .
الثالث : ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم ، وهذا معنى قول السدي .
الرابع : ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها .
الخامس : ووجدك ناسياً فأذكرك ، كما قال تعالى : { أن تَضِل إحداهما } .
السادس : ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى الطلب ، لأن الضال طالب .
السابع : ووجدك متحيراً في بيان من نزل عليك فهداك إليه ، فيكون الضلال بمعنى التحير ، لأن الضال متحير .
الثامن : ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع ، لأن الضال ضائع .
التاسع : ووجدك محباً للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ، ومنه قوله تعالى : ﯸ  ﯹ  ﯺ ﯻ  ﯼ  ﯽ ﯾ [ يوسف: ٩٥  ]. أي في محبتك ، قال الشاعر :

هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا
                                                      والعارِضَيْن ولم أكنْ مُتْحقّقاً
عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي 
                                                       بعد الضّلالِ فحبْلُها قد أخْلقاً

وقرأ الحسن : " ووجدَك ضالٌّ فهُدِي  " ، أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى بك " اهـ  [ النكت والعيون ج4 - ص284 ] .
الخلاصة :
1- أن المفسرين جميعهم لم يستنبط واحد منهم ما استنبطه الدكتور ياسر برهامى ، مما يدل على مخالفته للمفسرين  .
2- أن المفسرين استبعدوا تماما قصد أولاد يعقوب – عليه السلام – أنهم أرادوا الضلال في الدين .
3- إذا كان ما استنبطه الدكتور ياسر صحيحا ، أن أولاد يعقوب – عليه السلام – وقعوا في الكفر الصريح ولكنهم عُذروا بجهلهم ، لماذا لم ينكر عليهم يعقوب -عليه السلام – وهل يسعه وهو النبى أن يسكت على ما هو كفر صريح وهو الذى يُوحى إليه من ربه ؟  وهل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة خاصة من الأنبياء ؟ 
فلماذا لم يسع موسى – عليه السلام – أن يسكت على قومه الذين طلبوا منه أن يجعل لهم إله كما للمشركين آلهة ؟
قال تعالى :  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ     ﭡ  ﭢ ﭣ  ﭤﭥ   ﭦ  ﭧ    ﭨ  ﭩ  ﭪ [ الأعراف: ١٣٨] .
فأنكر عليهم هذه المقولة ، بل وعلمهم ما يجب عليهم :
ﭫ  ﭬ  ﭭ   ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ   ﭲ  ﭳ   ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ    ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ  [ الأعراف: ١٣٩ – ١٤٠] .
وكذلك أنكر النبى طلب بعض الصحابة أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط ، كما في الحديث : " عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ S إِلَى حُنَيْنٍ قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ S قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً " [ رواه أحمد في المسند والترمذى في سننه وغيرهما وهو حديث صحيح ] .
فهل وسع النبى  السكوت ، أم أنه أنكر عليهم على الرغم من كونهم كانوا حديثى عهد بإسلام  .
4- أليس في أولاد يعقوب – عليه السلام – رجل رشيد ؟ أليس هذا بعجيب أن يكون كل أولاد يعقوب – عليه السلام – جهالا لا يعرفون ما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء ، أليس فيهم رجل واحد ينبههم ويقول لهم إن  هذا لا يجوز لأن ذلك كفر ؟ فهل عقولهم واحدة لا تفاوت بينهم ، وكذلك أفهامهم ؟ هذا محال ، وإذا كانوا قد اختلفوا قبل ذلك في قتل يوسف – عليه السلام – كما حكى الله تعالى عنهم : ﮖ   ﮗﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ  ﮞ  ﮟ  ﮠ    ﮡ  ﮢ  ﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧ   ﮨ  ﮩ  ﮪ     ﮫ  ﮬ  ﮭ  ﮮ  ﮯ  ﮰ  ﮱ  ﯓ  ﯔ    ﯕ  ﯖ  [ يوسف: ٩ – ١٠] .
فأولى من ذلك كله أن يكون فيهم من ينكر تضليل أبيهم ، إذا كان على الوجه الذى فهمه الدكتور  .
5- لازم قول الدكتور ياسر برهامى الطعن في نبى الله يعقوب – عليه السلام – لماذا ؟
لأنه لم يحسن تربيتهم ولا تعليمهم أصول الدين ، لأن فضيلة الدكتور قال في استنباطه "  ولكنهم كانوا جُهالا بما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء فعُذروا بالجهل في عدم التكفير " اهـ [ ص35 ] .
فأولاد النبي – عليه السلام - الذى يعلم الناس أصول الدين ويبينها لهم ويدعوا إليها ، ويأتى في أولها بعد توحيد الله تعالى ، حقوق الأنبياء وتعظيمهم وما يجوز في حقهم وما لا يجوز ، لم يعلمها يعقوب – عليه السلام – لأولاده ، أليس هذا فيه اتهام للنبي يعقوب – عليه السلام - بالتقصير ، والعياذ بالله .
ونحن نقر ونعتقد أن من أصول ديننا أن جميع الأنبياء والرسل – عليهم السلام – بلغوا البلاغ المبين ، فهل يقوم النبى يعقوب – عليه السلام – بدعوة الناس وتعليمهم ، مع إهماله لأولاده وأهل بيته ؟ أليس هذا بعجيب ؟
وإذا كان الطعن في أصحاب النبي  يُعد طعنا في النبي
فكيف بمن طعن في أولاد النبي – عليه السلام  ؟
ونحن على يقين أن الدكتور ياسر لا يقول بذلك ، ولكن هذا من لوازم فهمه واستنباطه الذى لم يسبقه إليه أحد ، حتى وإن سبقه إليه أحد ، فالمسلم لا يأخذ دينه وعقيدته إلا من الكتاب والسنة وبفهم أصحاب القرون المفضلة ، وما سوى ذلك فمردود على قائله كائنا من كان ، والله المستعان  .


0 comments:

welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^