الأصول الثمانية للفرقة الناجية ـــ المقدمة والتمهيد


المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران : 102] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء : 1]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب : 70 -71]
أما بعد :
فإن أحسن الحديث كلام الله – سبحانه وتعالى - وخير الهدي هدي محمد e وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
الدين الإسلامي هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الروم : 30]
والعقيدة الإسلامية عقيدة سهلة وميسرة ، لأنها موافقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها .
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [الأعراف : 172] .
والله جل وعلا لم يترك الناس سدى ، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب لبيان الطريق المستقيم والهدي القويم الذي يحبه الله ويرضاه ، كل ذلك بسهولة ويسر .
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[القمر : 22]
وعلى الرغم من ذلك كله نجد أن أكثر الناس حادوا عن الحق إلى الباطل ، وعن التوحيد إلى الشرك ، وعن سبيل الله المستقيم إلى سبل الشياطين ، وصدق الله تعالى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك : 22] .
فلماذا الانحراف عن الطريق الحق الواضح المبين ؟ ما الذي يحجب الناس عن الله تعالى ،وعن طريقه .
[1] الموانع والحُجب التي تحول بين الناس وبين الوصول للحق :
وقبل بيان هذه الحجب والموانع التي تحجب الإنسان عن سلوك طريق الهداية ، هناك سؤال يطرح نفسه ، وهو : من  يحتاج إلى من ؟ أي ما هي حقيقة العلاقة بين الله – عز وجل – وبين البشر ؟
والجواب في غاية الوضوح : أن الفقير هو المحتاج إلى الغني { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[فاطر : 15] .
فالله – جل وعلا – غني عن العالمين ، قال تعالى :{ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }[العنكبوت : 6] .فالله – جل وعلا – خلق الخلق من غير احتياج منه إليهم ، فما تعزز بهم من ذلة ، ولا تكثر بخلقهم من قلة ، فهو سبحانه الغني الحميد .
فلو أن الناس جميعا أولهم وأخرهم ، أنسهم وجنهم ، كانوا على أتقى قلب رجل منهم – وليكن هذا القلب هو قلب محمد e - ما زاد ذلك في ملك الله شيئا .
ولو أن الناس جميعا أولهم وأخرهم ، أنسهم وجنهم ، كانوا على أفجر قلب رجل منهم – وليكن هذا القلب هو قلب إبليس أو فرعون - ما نقص ذلك في ملك الله شيئا .
فالعبد إذن هو الذي ينتفع بطاعته لله – عز وجل – كما أن العبد هو الذي يتضرر بمعصيتة الله – عز وجل .
قال تعالى : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر : 7] .
وقال سبحانه :{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }[النمل : 40] .
وقال سبحانه :{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }[إبراهيم : 8] .
إذن فالإنسان بحاجة ماسة دائما للخالق – جل وعلا:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ  وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء :78 - 80] .
فالإنسان في حاجة إلى سلوك طريق الهداية التي توصله إلى اليقين وراحة البال في الدنيا والخلود في الآخرة في الجنة .
فإذا كان الأمر كذلك ، فما هي الحجب الكثيفة التي تحول بين الإنسان وبين ربه ؟
أُشير إليها باختصار في عدة أوجه ، منها :
الوجه الأول : الكبر والتكذيب والغفلة :
ولقد جمع الله – عز وجل – هذه الحجب الثلاثة في آية واحدة، قال تعالى :{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف : 146].
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – عند تفسير هذه الآية :
" يقول تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِيالأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي : سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}
 وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر ، وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً ، وقال سفيان بن عيينة في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي ،
 قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة ،
قلت : أي ابن كثيرـ ليس هذا بلازم ، لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا ، والله أعلم .
وقوله :{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} كما قال تعالى :{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}، وقوله :{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي : وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها ، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً ، ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله :{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي : كذبت بها قلوبهم {وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : لا يعلمون شيئاً مما فيها " اهـ [ تفسير ابن كثير – جـ 2 – صـ278 ] . 
الوجه الثاني : الظلم :
من موانع وحجب الهداية :الوقوع في الظلم ، الذي هو وضع الحق في غير موضعه – مثال ذلك : قوله تبارك وتعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[ البقرة : 258 ] .
فهذا الرجل ظهر الحق أمامه فمنعه ظلمه من سلوك طريق الهداية ، لذلك نجد أن الله تعالى يصف الكافرين بالظلم – كما في قوله تعالى :{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[ البقرة : 254 ] .
وأخبر الله تعالى انه يعاقب الظالمين بالزيغ ، أي زيغ قلوبهم ، لكونهم زاغوا هم عن الحق أولاً ، فأزاغ الله قلوبهم . قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ الصف : 5 ] 
الوجه الثالث : الكذب:
أخبر الله تعالى أنه حجب الهداية عن المشركين الذين عبدوا غير الله تعالى مع ظهور الدلائل التي تدل على وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده ، قال تعالى : {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [ الزمر : 3 ] .
 فكذلك كل من عبد غير الله تعالى فهو كاذب ظالم مستحق للوعيد.
الوجه الرابع : الفسق :
أخبر الله تعالى عن سبب ضلال فريق من الناس وعدم هدايتهم أنهم سلكوا طريق الفاسقين بخروجهم عن طاعة رب العالمين ، على الرغم من عهدهم مع الله تعالى بأن يعبدوه وحده إلا أنهم نقضوا هذا الميثاق ، قال تعالى :{ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأْرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[ البقرة : 26 - 27 ] .
ولقد وصف الله تعالى المنافقين بأنهم فاسقين – في قوله تعالى :. والسبب في ذلك أن الحق ظهر لهم فلم يقبلوه ، فعاقبهم الله تعالى بحجب المغفرة عنهم من جانب ، وعدم هدايتهم من جانب آخر ، قال تعالى :{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[ التوبة: 80 ] .
الوجه الخامس : الغفلة واللعب واللهو :
أما الغفلة – فقد قال تعالى :{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}[ التوبة: 1-3 ]
فقد جمع الله تعالى الأوصاف الثلاثة في هاتين الآيتين : الغفلة ، واللعب ، واللهو ، وقد ذكر الله تعالى أن أهل النار هم الذين تغافلوا عما أنزل الله تعالى ، فقال سبحانه :  {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[ الأعراف: 179 ] .
أما اللعب واللهو ، والاغترار بالدنيا ، ونسيان لقاء الله تعالى ، فهو من شأن الكافرين الذين لا يلتفتون إلى الدين ولا يعملون به . قال تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[ الأعراف: 50 - 51 ] .
الوجه السادس : سماع الكذب والمكذبين :
فقد أخبر الله تعالى عن اليهود ومن على شاكلتهم أنهم يسمعون الكذب والكذابين مع تحريفهم للكلم عن مواضعه ، فكان جزاؤهم عدم طهارة قلوبهم ، على ما ينتظرهم من الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قال تعالى : {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[ المائدة : 41
الوجه السابع : الطغيان المبعد عن طريق الحق :
لقوله تعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[ الأنعام : 110 ] .

الوجه الثامن : كسب المعاصي والآثام :
لقوله تعالى : {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[ المطففين : 14 ] .
الوجه التاسع : الجهل :
وهو سبب خطير من أسباب البعد عن الله تبارك وتعالى – وكذلك من أسباب عدم الانتفاع بالحق ، وبالتالي عدم التوفيق للهداية ، والجهَّال قديماً وحديثاً منطقهم واحد ، وقلوبهم متشابهة .
قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[ البقرة : 118 ]
والخلاصة :
أن هذه الحُجب والموانع التي تحول بين العبد وبين سلوك الهداية راجعة إلى تعطيل الناس ما أكرمهم الله به من الرسل والعقل وأدوات التعرف على الدلائل والبراهين .
قال تعالى : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[ تبارك : 10] .
وقد جعل الله – عز وجل – تعطيل العقول ذنباً يستحق صاحبهالنار ، فقال سبحانه : {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأِصْحَابِ السَّعِيرِ}[ تبارك : 11] .
يستفاد من ذلك أن الدلالة على الله تأتي من طريقين :
الأول : طريق الرسل .
والثاني : طريق العقل الفطري الذي لم تدخل إليه الشوائب .
فواجب على كل مسلم أن يستمسك بطريقة الرسل مع الفهم الصحيح لما جاءوا به .
 {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 
[2] الجيل الأول وتمسكه بما أنزل الله :
الفارق كبير جداً بين ذلك الجيل الأول الذي ربّاه رسول رب العالمين e وبين هذه الأجيال المتأخرة التي لم تتربى أصلاً ، أو أنها تربت على غير ما تربى عليه الجيل الأول " جيل الصحابة " y .ذلك الجيل الذي هو أعجوبة الدهر بحق ، فلم ولن يتكرر هذا الجيل بنفس الصورة التي كان عليها أول مرة ، ولكن كل من يسعى إلى العلا وإلى المجد وإلى معالي الأمور ، فعليه أن يقترب وأن يتشبه بهذا الجيل .
ولكن ما هو الذي كان يميز هذا الجيل عن هذه الأجيال المنكوبة في العصور المتأخرة ؟ إنها مميزات كثيرة ، لا مجال لذكرها الآن ، ولكن فقط أشير إلى أحد هذه المميزات ، وهي : " صدق الإيمان وجدية الأخذ من الكتاب والسنة ، وصدق الجهاد في سبيل الله " .
الإيمان عند الصحابة y لم يكن مجرد حفظ النصوص الدالة على الإيمان ، ولم يكن الإيمان عندهم مجرد اعتقاد بالقلب وشعور كامن في الضمير والنفس ، ولم يكن الإيمان عندهم مجرد شعار أو دعوى لا حقيقة لها ، وإنما الإيمان عندهم كان حركة يتحركون به في حياتهم كلها فصار الإيمان بالنسبة لهم هو المنهج الذي يحكم حياتهم  من أولها إلى أخرها ، فترجم الصحابة الإيمان إلى ترجمة عملية واقعية في حياتهم وفي حياة الآخرين ، فقاموا به ، ودعوا الناس إليه ، بل وقاتلوا الناس لأجله ، حتى قام هذا الدين .
يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه " واقعنا المعاصر " :
" وإنما الذي يبهرنا في ذلك الجيل الأول هو الدرجة العجيبة التي وصلوا إليها في ترسيخ هذه الصفات في نفوسهم وفي واقع حياتهم.
إن دعوة القرآن كلها هي إخلاص الدين لله:
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [ الزمر :3].
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } [ الزمر :11].
{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29].
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [ البينة :5 )
والإخلاص الذي يأمر الله به ليس مجرد مشاعر تستكّن في ضمير الإنسان، وليس مجرد إقرار يعلن فيه الإنسان أن الله واحد لا شريك له ، عن اعتقاد قلبي بصدق ما يقرّ به من وحدانية الله. فهذا - وحده- لا يفي بما يطلبه الله من عباده بلفظ الأمر، لا علي سبيل الندب أو التحبيب أو التحضيض:
 {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ}إنما المتتبع لكل الآيات التي جاء فيها الأمر بالإخلاص يجد أنها متعلقة بتوجيه العبادة لله وحده دون شريك. فهي إذن ليست متعلقة بالاعتقاد وحده ، إنما هي متعلقة كذلك بسلوك معين مرتبط بالاعتقاد . فالعبادة - كما هو واضح بالبداهة- سلوك واقعي ، وليست مجرد مشاعر أو اعتقادات . سلوك مبني علي المشاعر ، ومنبثق عن الاعتقاد.
والإخّلاص المطلوب في العبادة هو براءة هذه العبادة من الشرك، وتلك هي حقيقة التوحيد . وهو أمر لازم لا للارتقاء في مراتب الكمالات ، بل لحصول الإيمان بادئ ذي بدء؛ أما الارتقاء في مراتب الكمالات بعد ذلك فله مجالات أخري نتحدث عن بعضها في حياة ذلك الجيل الأول، وهي التي ورد فيها الندب والتحبيب ، لا الأمر والإلزام.
فما العبادة المطلوبة من العباد، وما كيفية البراءة من الشرك؟
العبادة كما بينها الله في كتابه المنزل تشمل أموراً ثلاثة :
-         الاعتقاد الجازم بأن الله واحد في ذاته وفي أسمائه وصفاته
-         والتوجّه إليه وحده بالشعائر التعبدية التي افترضها علي عبادة .
-         والالتزام بما أنزل الله من التحليل والتحريم والتحسين والتقبيح والإباحة والمنع .
وأيما أمر اختل من هذه الثلاثة فهو ناقض للتوحيد ومُدْخِل في الشرك الذي يخرج الناس من الإسلام ، مع اعتبار معين في هذا الشأن هو أن المعصية - بغير استحلال- لا تنقض أصل الالتزام ، ولا تخرج الناس من الإسلام ، ما داموا يقرون بالأمر المنزل من عند الله ، ولا يجعلون مخالفتهم له تشريعاً مضاهياً لشرع الله ، أو  قائماً بذاته مناقضاً لشرع الله . بعبارة أخري ليست المعصية لما أنزل الله هي التي تخرج من الملة، إنما هو التشريع بغير ما أنزل الله، وهو المعنيّ في قوله تعالي : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة : 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة : 47].
 وكون ذلك هو الشرك المخرج من الملة واضح في قوله تعالي : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى :21].
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف :3].
و" الدين" في آية الشورى ، واتباع ما أنزل الله في آية الأعراف ، كلاهما لا يتعلق بالاعتقاد وحده ولا بالشعائر التعبدية وحدها ، إنما يشمل قضية التحليل والتحريم ، ويعتبر اتخاذ أيِّ من هذه الأمور الثلاثة : الاعتقاد والشعائر والشرائع، من مصدر غير الله شركاً واتباعاً للأولياء ، بدليل قوله تعالي في سورة النحل حكاية عن المشركين ، وتحديداً لأعمال الشرك التييقومون بها:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [ النحل : 35].
وبدليل قوله تعالي عن المنافقين في سورة النساء موضحاً المحك الذي يصدقّ دعوي الإيمان أو يكذبها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} إلي قوله تعالي : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء : 60-65].
من هذه الآيات - وأمثالها في القرآن كثير- يتضح لنا أن العبادة المطلوبة من العباد هي إفراد الله بالألوهية والربوبية ، الذي يشمل توحيد الله في ذاته وأسمائه وصفاته ، والتوجه إليه وحده بالشعائر التعبدية ، والالتزام بما أنزل الله، وعدم اتخاذ شرع من مصدر سواه، سواء علي سبيل المضاهاة لشرع الله كما كان يفعل التتار قبل إسلامهم من اتخاذ "الياسق” الذي يجمع أحكاماً من القرآن وأحكاماً من مصادر أخري ، أو علي سبيل التشريع المطلق ، أي تنحية شرع الله جملة واتخاذ شرع غيره .
هذه العبادة - علي هذه الصورة- هي التي تخرج الناس من الشرك وتجعلهم مسلمين . وهذا هو الإخلاص في حده الأدنى ، الذي لا يقبل الله من الناس أقل منه ، ولا تقوم بغيره حقيقة الإسلام في داخل النفوس ولا في واقع الحياة ( أما الدرجات العليا فمرهونة بمقدار الطاعات التي يتقدم بها العباد إلي الله، ومقدار الحرص علي الالتزام بما أقر به القلب واللسان ).
    أما الاعتقاد بأن هناك شركاء لله في الخلق أو التدبير أو الرزق أو الإحياء أو الأمانة أو النفع أو الضر.... الخ .
أو التوجّّه لغير الله بالشعائر التعبدية ، أو التشريع بغير ما أنزل الله، أو الرضي بغير ما أنزل الله، فهو الشرك الذي يخرج الناس من الإسلام " اهـ [ واقعنا المعاصر  صـ33- 36 ( باختصار ) ] .
وقال الأستاذ محمد قطب – أيضاً :" والآن  نعود إلي ذلك الجيل المتفرد لنري الصورة المثالية التي تحققت بها هذه الصفات في عالم الواقع .
لقد عاش ذلك الجيل مع القرآن حياة كاملة إن صح التعبير..
كل جملة في القرآن وكل عبارة ، كل توجيه وكل أمر أو نهي... يصل إلي نفوسهم بشحنته الكاملة ، ويحركها الحركة التامة المطلوبة من الجملة أو العبارة ، أو التوجيه أو الأمر أو النهي ، لم تكن هناك قراءة لمجرد التأمل الفكري ، ولا قراءة للاستمتاع الفنى ببلاغة القرآن ولا قراءة لاستخراج نظريات فلسفية أو عقلية أو تجريدية 000
.... أو حتى للتأثير الوجداني الذي يأخذ بمجامع النفس ثم ينتهي بتهويمة روحية لا تحرك صاحبها من مكانه !.
إنما كانت هناك معرفة للتنفيذ الفوري .
يروي الصحابة عن أنفسهم يقولون : لم يكن أحدنا يستكثر من القرآن ، إنما كنا نتعلم عشر آيات لا نزيد عليهن حتى نعمل بما فيهن ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً [ انظر تفسير ابن جرير – جـ1 – صـ 80 ] .
ولقد عمل القرآن عمله بالفعل في نفوس المسلمين الأوائل ، فأنشأها إنشاء من جديد ، فكان منهم ذلك الواقع العجيب الذي سجله التاريخ ، والذي يلتقي فيه الواقع بالمثال " اهـ [ صـ 38 – 39 ].
والخلاصة :
أن هذا الجيل القرآني الفريد كان يتميز بترجمة القرآن ترجمة عملية فقد تفاعل معه حتى صار القرآن الكريم وحده هو مصدرهم في التلقي مع ما يسمعونه من رسول الله e من سنته المباركة .
فكانت حياتهم كلها استسلام وخضوع وانقياد وإذعان لما جاء في القرآن الكريم ، فما كان لديهم إلا السمع والطاعة المصحوب بالحب .
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[ النور : 51 ] .
أما هذه الأجيال التي كاد أن ينقطع صلتها بالقرآن ، أصبح مصدر التلقي عندها إما باطلاً فاسداً ، وإما متنوعاً ليس خالصاً ، فقد لبسوا الحق الباطل ، وبذلك ضلوا عن صراط السبيل .
فإذا أرادت الأمة التقدم ، والعزة والرفعة والمكانة ، فالخطوة الأولى تتمثل في تصفية المصدر أولاً ؛ فلا تأخذ دينها إلا من الوحيين بفهم الجيل الأول .
[3] بين الأصل والاستثناء :
 عدم فهم هذه القضية ، وهي أن الأصل قد يدخل عليه الاستثناء وليس العكس يسبب اللبس والتخليط في مسائل الاعتقاد ومسائل الأحكام ، فينتج عن ذلك أن يصبح الاستثناء وكأنه هو الأصل .
ولبيان ذلك لا بد من ضرب بعض الأمثلة باختصار :
المثال الأول : العلم والجهل :
الأصل في المسلم أن يكون عالماً بدينه خاصة مسائل التوحيد والاعتقاد ، والاستثناء أنه قد يجهل بعض ذلك فيسأل أهل الذكر كما أمر الله تعالى .
إذن فالأصل في المسلم أن يكون عالماً إلا أنه قد يجهل أحياناً ، وليس الأصل في المسلم أن يكون جاهلاً إلا أنه قد يعلم أحياناً .
والدليل على ذلك أن علماء أصول الفقه قاطبة إنما يذكرون الجهل من ضمن العوارض الأهلية التي قد تعرض للإنسان ، وهذا دليل على أن العلم هو الأصل
ولقد قسّم العلماء هذه العوارض الأهلية إلى قسمين ، عوارض أهلية مكتسبة ، وعوارض غير مكتسبة - أو عوارض سماوية ، وعوارض غير سماوية .
فالعوارض المكتسبة هي التي من كسب الإنسان كالجهل والخطأ والإكراه ، وغير ذلك .
أما العوارض الغير مكتسبة مثل العته والسفه والجنون ، وغير ذلك .
والشاهد : أن الجهل هو العارض الطارئ وليس أصلاً في المسلم .
والسبب في ذكر ذلك أن طائفة من الدعاة وبعض العلماء الذين ينتمون للتيار السلفي وغيره ، تسمع منهم وتقرأ لهم ، أن المتلبس بالكفر الأكبر معذور بجهله ، فتفهم من كلامهم أن كل من كفر بعد إسلامه بإتيانه الشرك الأكبر فهو معذور بالجهل ، فلماذا هذا الافتراض دائما في كل من تلبس بالشرك الأكبر ، فربما يكون معانداً ، وربما يكون معرضاً ، وربما يكون مستكبراً ، وربما يكون منافقاً ، وربما يكون متأولاً ، فلماذا الافتراض دائماً بأن هذا المشرك جاهلاً ، وكأن المراد البحث عن مخرج لكل من أشرك بالله تعالى .
مثال واضح على ذلك :
هل سب الله أوسب رسوله e فيه عذر بالجهل ؟
من غرائب الشيخ الألباني – رحمه الله – أنه يقول بعذر شاتم الله ، وشاتم الرسول e بالجهل ، وتبعه على ذلك من يقلدونه من تلاميذه وغيرهم .
قال الشيخ الألباني في شريط " الكفر كفران " وقد توجه إليه هذا السؤال ، ونصه : " وردت بعض الآثار عن بعض الأئمة ، وعن بعض الصحابة كخالد بن الوليد ، وبعض الأئمة الإمام أحمد – بكفر شاتم الله أو الرسول ، واعتبروه كفر ردة ، فهل هذا على إطلاقه ، نرجوا الإفادة ؟
الشيخ الألباني : " ما نرى ذلك على الإطلاق فقد يكون السب والشتم ناتجاً عن الجهل ، وعن سوء التربية ، وقد يكون عن غفلة ، وأخيراً قد يكون عن قصد وعن معرفة ، وإذا كان بهذه الصورة عن قصد ومعرفة ؛ فهو الردة الذي لا إشكال فيه ، أما إذا احتمل وجهاً من الوجوه الأخرى التي أشرت إليها فالاحتياط في عدم التكفير أهم إسلامياً من المسارعة إلى التكفير " اهـ . 
 والرد على ذلك :      
أولاً : من الملاحظ أن السائل عرض السؤال بطريقة خبيثة وكأنه أراد أن ينتزع من الشيخ الإجابة التي هو يعتقدها قبل أن يسأل عنها ، وإلا فالمفروض في السؤال أن يكون هكذا : ما حكم من سب الله أو سب رسول الله e ؟
لأن السؤال بهذه الصيغة يفيدنا أن نبحث أولاً عن حكم المسألة في مصادر الأحكام الأساسية من القرآن والسنة .
ولكن السائل يعرض المسألة وكأنه ليس فيها حكم لله ، أو لرسوله e فيحيل على بعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة وبعض الأئمة ، ونسأل الله السلامة
ثانياً : لقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كتاباً كبيراً في هذه المسألة وسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول " .
ولقد ذكر في هذا الكتاب الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال العلماء في كفر شاتم الرسول e .
والنصيحة واجبة على من نصح نفسه أو غيره أن يرجع إلى هذا الكتاب ليقف على حقيقة هذه المسألة التي هي من المسلمات في دين الله تعالى . 
ولكني اكتفي بذكر بعض الاجماعات التي نقلها شيخ الإسلام – رحمه الله – ليتبين أن المسألة ليس فيها خلاف ، والحق فيها واضح وضوح الشمس .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله :
" المسألة الأولى :  أنَّ مَنْ سَبَّ النبي e من مسلم أو كافر فانه يجب قتله هذا مذهَبُ عامةِ أهلِ العلم ، قال ابنُ المُنْذِرِ: أجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ على أَنَّ حَدَّ من سَبَّ النبيَّ e القتل ، وممن قاله مالكٌ واللَّيثُ وأحمدُ وإسحاقُ ، وهو مذهبُ الشافعي . قال: وحُكي عن النعمان: لا يقتل – يعني الذِّمَّي- ما هُم عليه من الشركِ أعْظَمُ.
وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحابِ الشافعي إجماعَ المسلمين على أنَّ حدَّ من يَسبّ النبيَّ e القتلُ كما أن حدَّ من سَبَّ غيرَه الجلدُ . وهذا الإجماعُ الذي حكاه هذا محمولٌ على إجماعِ الصَّدْرِ الأول مِن الصحابة والتابعين ، أو أنه أرادَ به إجماعَهم على أن سَابَّ النبيَّ e يجبُ قتلُه إذا كان مسلماً، وكذلك قَيَّدَه القاضي عِيَاضٌ ، فقال: أجمعت الأمةُ على قَتْل متنقِّصِه من المسلمين وسابِّه ، وكذلك حَكَى عن غيرِ واحدٍ الإجماع على قتله وتكفيره .
وقال الإمامُ إسحاقُ بن راهُوْيَه أحدُ الأئمة الأعْلام : أجمع المسلمون على أنَّ من سَبَّ اللهَ، أو سَبَّ رسولَه e ، أو دَفَعَ شيئاً مما أنزل الله عزّ وجلّ، أو قَتَلَ نبياً من أنبياء اللهِ عزّ وجلّ، أنه كافر بذلك وإن كان مُقِرّاً بكل ما أنزل اللهُ "
وقال الخطّابي: " لا أعلم أحداً من المسلمين اخْتَلَفَ في وُجُوب قَتْله ".
 وقال محمد بن سُحْنُون: " أجمع العلماء على أن شاتم النبي e المتَنَقِّصَ له كافرٌ ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذاب اللهِ له وحكمه عند الأمة القتلُ، ومَنْ شكَّ في كفره وعذابه كفر " .
ثم قال شيخ الإسلام – رحمه الله :
" وتحرير القول فيها : أنَّ السابَّ إن كان مسلماً فانه يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماعَ على ذلك من الأئمة مثل إسحاقُ بن رَاهُوْيَه وغيره، وان كان ذمِّيّاً فانه يقتل أيضاً في مذهب مالكٍ وأهْلِ المدينة، وسيأتي حكايةُ ألفاظهم ، وهو مذهبُ أحمد وفقهاءِ الحديث  .....اهـ ص43   
وقال شيخ الإسلام – أيضاً :
" إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهراً وباطناً، وسواءٌ كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرَّمٌ ، أو كان مستحلاً له ، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمانَ قولٌ وعملٌ .
فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع ، لأنه بذلك كافرٌ مرتدٌّ، وأسوأُ من الكافر، فإن الكافر يعظِّم الربَّ، ويعتقدُ أن ما هو عليه من الدِّين الباطل ليس باستهزاءٍ باللهِ ولا مسبةٍ له .... " اهـ [ الصارم المسلول – صـ451 ] .
وقال ابن حزم – رحمه الله" وأما سب الله تعالى ، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد ، إلا أن الجهمية  والأشعرية وهما طائفتان لا يُعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً .
قال بعضهم : ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر ، لا أنه كافر بيقين بسبه لله تعالى وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام ، وهو أنهم يقولون : الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ، وإن أعلن بالكفر وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية " اهـ [ المحلى – جـ2 – صـ438 ] .
وقال - رحمه الله - أيضا  :
" فصح بما ذكرنا أن كل من سب الله تعالى أو استهزأ به ، أو سب ملكاً من الملائكة أو استهزأ به ، أو سب نبياً من الأنبياء أو استهزأ به ، أو سب أية من آيات الله تعالى ، أو استهزأ بها ، والشرائع كلها والقرآن من آيات الله تعالى ، فهو بذلك كافر مرتد، له حكم المرتد ، وبهذا نقول  " اهـ [ المحلى – جـ12 – صـ 438 ] .
ثالثاً : قول الشيخ الألباني : " ما نرى ذلك على الإطلاق ....... " .
قلت : فهذا ما يراه الشيخ الألباني ، ولكن نحن نريد ما يراه الشرع ، فهل غاب عن الشيخ الألباني ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – وغيره من الإجماع على كفر الساب لله وللرسول e ولم يشترط أحد من أهل العلم أن يقترن ذلك السبّ بقصد أو استحلال ، أو أنه ناتج عن جهل أو هزل .
ثم لم يقل الشيخ الألباني أن ما ذهب إليه من رأيه هذا قال به بعض أهل العلم ، وإلا لماذا لم يذكر لنا عالماً واحداً من السلف قال بقوله .
رابعاً : قول الشيخ الألباني : " فقد يكون السب والشتم ناتجاً عن الجهل " .
قلت : العذر بالجهل له أحكامه ومسائله وأحواله ، ولكن للأسف الذين يقولون بالعذر بالجهل يقولون هكذا على الإطلاق ، وكأنه الأصل في كل من يتلبس بكفر أو شرك ، وما هكذا قال أهل العلم
فليسمي لنا الشيخ الألباني ، أو غيره ممن يقولون بذلك ، واحداً من علماء السلف قال بذلك ، وأقول :
بالنسبة للجهل الذي يعذر صاحبه به هو الجهل الذي يكون عن عجز لا يمكن دفعه ، وفي المسألة تفصيل ليس هذا موضعه .
أما بالنسبة لمسألة السب ، فإنه استقر في قلب كل مسلم العلم بما يجب لله تعالى من التوقير والتعظيم والإجلال منذ اللحظة الأولى التي يعلن فيها الإنسان إسلامه .
ثم افتراض أن مسلماً يجهل حكم سب الله أو سب الرسول e أمر لا وجود له ، فهل يوجد جاهل واحد من المسلمين لا يعرف أنه لا يجوز أن يشتم الله أو يشتم رسوله ، بل إن أجهل الجهلة من المسلمين لو سمع واحداً يشتم الله ، أو الدين أو الرسول ، فسرعان ما ينكر ذلك ويقول هذا كفر بالله ، وخروج من الدين ، فهذا أمر مستقر عند كل الناس ، وبالتالي فالقول بعذر الساب بالجهل كلام ليس صحيحاً بالمرة ، وهو خلاف النص والإجماع .
 قال العلامة الشنقيطى رحمه الله تعالى " قل " لهم يا نبي الله : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " يعنى : اتستهزءون بالله وبرسوله وبآياته ؟ فالاستهزاء بالله وبآياته  ورسوله كفر بواح لا عذر لصاحبه البتّة " اهـ العذب النمير من مجالس الشنقيطى في التفسير ج5 ص615
ولا عذر للساب مطلقاً إلا في حالة واحدة ، وهي حال الإكراه المحقق لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [النحل : 106] . ولحديث عمار المعروف .
خامساً : قول الشيخ الألباني : " ...... وعن سوء التربية " .
أي أن الشيخ الألباني – رحمه الله – يرى عذر الشاتم لله ، والشاتم لرسوله e بسوء التربية ، وهذا أيضاً من عجائب وغرائب الشيخ الألباني ، ولنا أن نقول : من قال بمثل قول الشيخ الألباني ، وهل قال أحد من أهل العلم أن سوء التربية من موانع التكفير – سبحان الله .
فلا زال الكفار في شتى العصور يعيشون في بيئات فاسدة ، فهل يعذرون بذلك . إن سوء التربية هو الذي جعل المشركين يستهزئون بالرسول e وكذلك سوء التربية حمل الكفار على السخرية من الرسول ومن دين الله تعالى .
سادساً : قول الشيخ الألباني : " .... وقد يكون عن غفلة ....... " .
وهذا مانع جديد من موانع التكفير عند الشيخ الألباني ، فهل قال به أحد من أهل العلم ؟
بل إن الغفلة  عن الاعتقاد والإيمان من صفات الكفار ، قال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كالانعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[ الأعراف : 179 ] . فهل عذرهم الله تعالى بسبب غفلتهم .
سابعاً : قول الشيخ الألباني : " .... وأخيراً قد يكون عن قصد وعن معرفة ، وإذا كان بهذه الصورة عن قصد ومعرفة ؛ فهو الردة الذي لا إشكال فيه ، أما إذا احتمل وجهاً من الوجوه الأخرى التي أشرت إليها فالاحتياط في عدم التكفير أهم إسلامياً من المسارعة إلى التكفير " .
هذا الكلام من الشيخ الألباني يدل  دلالة واضحة على انه لا يقول بكفر أحد إلا إذا كان عالماً وقاصداً للكفر ، ويقصد بذلك كما هو واضح قصد القلب ومعرفته ، والدليل على ذلك أن الساب بسبب سوء التربية لا بد أن يكون قاصداً وعالماً بذلك ، ومع ذلك عذره الشيخ الألباني لاحتمال أنه صادر عن غير اعتقاد ، بل عن جهل أو غفلة ، وهذا الكلام ليس له وجه من الصحة .
ومع ذلك أذكر بعض أقوال أهل العلم في ذلك :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : " إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهراً وباطناً، وسواءٌ كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرَّمٌ، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمانَ قولٌ وعملٌ " اهـ [ الصارم المسلول – صـ 512 ] .
كلام شيخ الإسلام يدل على أن الساب لا يعذر بحال إلا ما جاء في النص الأخر: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل : 106]
وشيخ الإسلام نسب هذا القول إلى الفقهاء وسائر أهل السنة ، ولم يذكر فيه خلافاً .
وشيخ الإسلام أوضح أن هذا الحكم من لوازم تعريف الإيمان ، بأنه قول وعمل ، ومن قال بخلاف ذلك فهو في الحقيقة لا يقول أن الإيمان قول وعمل إلا لفظاً دون أن يلتزم بلوازم ذلك .
وقال ابن نجيم – رحمه الله – في كتابه " البحر الرايق " – جـ5 – صـ 134 :
" إن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً ، أو لاعباً كفر عند الكل ، ولا اعتبار باعتقاده " اهـ .
وفي هذا رد واضح على الشيخ الألباني ، بعدم اعتبار القصد في كل حالات الكفر ، فمن أجرى كلمة الكفر على لسانه فهو كافر بغض النظر عن قصده واعتقاد ، لأنه بمجرد إتيانه لكلمة الكفر باختياره يكون قاصداً لذلك .
ومن أجمل وأطيب ما قاله ابن الوزير اليمني في ذلك :
قوله : " ...... وعلى هذا لا يكون شئ من الأفعال والأقوال كفراً ، إلا مع الاعتقاد ، حتى قتل الأنبياء ، والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص ........ " اهـ [ إيثار الحق على الخلق – صـ419 ] . 
وهو أراد بذلك أن يرد على من اشترط الاعتقاد في قول الكفر .
وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله :
" فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفرٌ مبيحٌ للدم ...... ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه، لكن المقصود شيءٌ آخر حصل السبُّ تبعاً له أو لا يقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل ويمزح ، أو يفعل غير ذلك " اهـ [ الصارم المسلول – صـ465 ( باختصار ) ] .
فهل هناك أوضح من ذلك ، وليس هذا نصاً وكلاماً لشيخ الإسلام ، بل شيخ الإسلام ينقل الاتفاق على ذلك .
ويقول أيضاً : القاضي أبو يعلى في المعتمد : " من سبّ الله أو رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبّه ، أو لم يستحله " اهـ [ الصارم المسلول – صـ 452 ] .
ويقول الشنقيطي – رحمه الله :
" اعلم أن عدم احترام النبي e المشعر بالغض منه ، أو تنقيصه e والاستخفاف به ، أو الاستهزاء ، ردة عن الإسلام  ، وكفر بالله " اهـ [ أضواء البيان – جـ7 – صـ617 ] . 
فائدة : لماذا كان سب النبي e من أعظم نواقض الإيمان ؟
يجيب على ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية – رحمه الله – بكلام طيب .
قال – رحمه الله : " أن سب النبي e تعلق به عدة حقوق :
[1] حق الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ، ومن حيث طَعَن في كتابه ودينه ، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طَعَن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته
[2] وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم؛ فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به ، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته ، فالسبُّ له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم ، كما أَنَّهُ أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين .
[3] وتعلق به حق رسول الله e من حيث خصوص نفسه ؛ فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله ، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه ....... فالوقيعة في عرضه، فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُّفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة " اهـ [ الصارم المسلول – صـ 293 – 294 ] .
وأخيراً :
مما يتعلق بهذا المثال : مسألة شتم الله ، أو شتم رسوله e فالأصل في المسألة : أن من صدر عنه سب لله أو لرسوله e بقصد أو بغير قصد ، سواء كان مستحلا أم لا ، وسواء كان هازلاً أو مازحاً – فهو كافر ، والاستثناء في المسألة يكون في حال الإكراه فقط ، ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع – كما فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " الصارم المسلول على شاتم الرسول " .
ثم أقول : لو كان هناك وجه لعذر الساب ، أليس من باب سد الذرائع ألا نقول بعذر الساب ، فقد أجاز الرسول e القبلة للصائم ومنع ذلك الشاب الصغير  سداً للذريعة .
وكذلك قول ابن عباس لما سأله السائل : للقاتل توبة ؟ فقال : لا ليس له توبة ، لمارأي في عينيه رغبة القتل ، فما بالنا في مسألة السب ؟
المثال الثاني : الفرق بين الكفر والمعصية .
على الرغم من وضوح هذه المسألة إلا أنها التبست على بعض العلماء فضلاً عن التباسها على كثير من الدعاة ، ويرجع ذلك الفهم المنحرف حول هذه المسألة إلى الأصول الفاسدة التي ينتحلها بعض العلماء ، فنجد المرجئة قديماً ومن سلك مسلكهم حديثاً في بعض أصولهم يسوون بين أعمال الكفر وعمل المعصية ، فهي عندهم لا تخرج من الملة إلا بالاستحلال ، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، فإنهم فرقوا بين أعمال الكفر ، فقالوا : أعمال الكفر كفر مجرد دون استحلال ، لأن مجرد الاستحلال كفر وإن لم يقترن معه فعل أو عمل.
أما المعصية لا تكون كفراً إلا باستحلالها ، فلو أن إنساناً عصى الله تعالى بأكل الربا ، أو بالوقوع في الزنا ، فقد فعل كبيرة من الكبائر ، ولا يكفر إلا باستحلال مثل هذه المعاصي ، وهذا معنى قول العلماء في كتب الاعتقاد " ولا نكفر أحداً بكل ذنب ما لم يستحله " .
وقبل أن أضرب مثالاً حياً من واقعنا على ذلك أشير إلى الفارق بين الكفر الأكبر وبين المعاصي التي دون ذلك .
أولاً : الأصل في الكفر الأكبر أنه يخرج من الملة وصرفه إلى الكفر الأصغر الذي هو من جنس المعاصي هو الاستثناء ، كما أن الأصل في المعاصي أنها لا تخرج من الملة ولا تنصرف إلى الكفر الأكبر لأن هذا هو الاستثناء .
ثانياً : هناك فرق بين الكفر الذي يأتي معرفاً باللام ، وبين الكفر الذي يأتي على سبيل النكرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله :  
" فرق بين الكفر المعرف باللام ، كما في قوله e : " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك ، إلا ترك الصلاة " رواه مسلم ، والترمذي ، وأبو داود ، وغيرهم . 
وبين كفر منكر في الإثبات .
وفرق أيضاً - بين معنى الاسم المطلق ، إذا قيل : كافر ، أو : مؤمن ، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده ، كما في قوله : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " رواه البخاري ومسلم
فقوله : " يضرب بعضكم رقاب بعض " تفسير الكفار في هذا الموضع ، وهؤلاء يسمون كفاراً ، تسمية مقيدة ، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل : كافر ، ومؤمن  " اهـ [ اقتضاء الصراط المستقيم – جـ 1 – صـ208 – 209 ] .
لذلك استخلص أهل السنة من ذلك :
إمكان اجتماع إيمان وكفر غير ناقل عن الملة ، في الشخص الواحد ؛ لأن الإيمان مراتب ، وكذا الكفر الذي يقابله .
وأقرب مثال على ذلك قوله تعالى : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}[ الحجرات : 9 ] . فأثبت الله لهم وصف الإيمان مع أنهم متقاتلون ، وقتال المسلم كفر ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " [ رواه البخاري – جـ1 – صـ 110 /  ومسلم – جـ1 – صـ 81 ] .
وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " [ رواه البخاري – جـ 1- صـ317 – ومسلم – جـ1 – صـ81 ] . 
فدلت هذه النصوص بمجموعها على اجتماع الإيمان والكفر – الأصغر – في المسلم ، وهذا هو مذهب أهل السنة لا خلاف بينهم في ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله :
" وأما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه وولاية الله تعالى بحسب إيمان العبد وتقواه فيكون مع العبد من ولاية الله تعالى بحسب ما معه من الإيمان والتقوى فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما قال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْيَتَّقُونَ} [يونس : 62- 63] . " اهـ [ الأصفهانية – صـ144 / ومجموع الفتاوى – جـ18 – صـ 270 ، جـ11 – صـ173 – 175 ] .

المثال الواقعي :
الفرق بين أكل الربا والحكم بغير ما أنزل الله :
وإن شئت فقل ما حكم من يأكل الربا وحكم من يحكم بغير ما أنزل الله ؟
هل بينهما فرق أم أن حكمهما واحد ، لكونها معصية واحدة ؟
من غرائب الشيخ الألباني – رحمه الله -  أنه يسّوي بين آكل الربا وبين الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، لأنه يعتبر أنه لا فرق بين معصية أكل الربا وبين معصية الحكم بغير ما انزل الله .
يقول الشيخ الألباني في شريط له بعنوان " الكفر كفران " :
" لا فرق يا حضرة الأخ المسلم بين من يعصي الله في أكله الربا مثلاً وبين من يعصي الله في أن يحكم بغير ما أنزل الله . 
والآن أنهي بمثال بسيط جداً ، أقول : قاضي شرعي يحكم لا أقول يحكم بالشرع ، بل أقول كما نقول نحن دائماً ، يحكم بالكتاب والسنة ، ولكن في حكومة وفي قضية معينة تقاضى عنده اثنان فحكم للظالم بحق المظلوم،هل هذا حكم بما أنزل الله "  
الرد على كلام الشيخ الألباني – باختصار :   
أولاً : بالنسبة لأكل الربا ، لا بد من التفريق بين أمرين :
الأول : من يأكل الربا عن ضعف وحب زائد للمال مع اعترافه وإقراره انه مرتكب إثماً ومستحق للوعيد على ذلك ، فهذا مرتكب كبيرة من الكبائر ، ولم يقل أنه يكفر بذلك أحد من أهل السنة ،وإنما هو مذهب الخوارج .
الثاني : إنسان يجوّز الربا وفق قوانين ، وتشريعات يفرض على الناس احترامها والتحاكم إليها على جميع أفراد الأمة ، ويقاتل دونها ، ويعتبر الربا ضرورة عصرية لا يمكن تجاوزها ، كما هو الحال والواقع في أنظمة الحكم القائمة ، فإن هذه الصورة فيها استبدال لحكم الله بحكم البشر ، وتحليل ما حرم الله ، فهذا لا شك انه كفر ، ومن يفعل ذلك فهو كافر ، ويقال مثل ذلك في كل المعاصي الأخرى ، مثل الزنا ، والسرقة ، والقتل وغير ذلك ، فلا بد من التفريق .
ثانياً : أما قياس الشيخ الألباني – الحاكم الذي يحكم بغير ما انزل الله على آكل الربا ، فلا شك أنه قياس لا يصح ،بل قياس باطل ، والسبب في ذلك واضح ، بل إن السبب في ذلك اظهر من أن يشار إليه ، ولكن كما قال تعالى : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر : 2] .
ما هو الفارق إذن بين معصية أكل الربا ، ومعصية الحكم بغير ما أنزل الله ، هو ما أشرنا إليه قبل ذلك من الفرق بين الأصل والاستثناء .
فالحكم بغير ما أنزل الله ، الأصل فيه الكفر ، وصرفه إلى ما دون الكفر هو الاستثناء  على وفق ضوابط وقيود معينه ،  والدليل على ذلك قوله تعالى :{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة : 44] . والكافرون معرفة باللام ، فالمراد هنا الكفر الأكبر كما سبق فهذا كلام الله تعالى ، ومن أصدق من الله قيلاً .
أما معصية أكل الربا ، فالأصل فيها أنها معصية غير مكفرة ، وحملها على الكفر يكون استثناء لطارئ الاستحلال مجرداً عن أكل الربا وجوداً أو عدماً ، بينما الحكم بغير ما أنزل الله كفر سواء استحل ذلك أم لم يستحل ، أي : مجرد الفعل يقع الكفر ، لأن الحكم بغير ما أنزل كفر بذاته . بينما أكل الربا لا يكون كفراً إلا بالاستحلال ، أما مجرد الفعل فهو كبيرة من الكبائر كما سبق
ثالثاً : المثال الذي ذكره الشيخ الألباني في قمة التناقض ، فالشيخ الألباني يقول : " أقول : قاضي شرعي يحكم لا أقول يحكم بالشرع ، بل أقول كما نقول نحن دائماً ، يحكم بالكتاب والسنة ، ولكن في حكومة وفي قضية معينة تقاضى عنده اثنان فحكم للظالم بحق المظلوم ، هل هذا حكم بما أنزل الله " اهـ .
فيقال : قياس هذا القاضي الشرعي الذي يحكم بالكتاب والسنة ولكنه خالف في قضية معينة ، لا يمكن أن يستوي مع حاكم لا يعرف الكتاب والسنة ، بل يحارب من يدعو إلى حكم الكتاب والسنة ، سبحان الله ، أليس ذلك في غاية الوضوح والظهور .
إن الحكام الذين يحكم لهم الشيخ الألباني بالإسلام ، لا يعرفون شيئاً اسمه الكتاب والسنة ، وإنما يعرفون القوانين الوضعية فيدافعون عنها ويطبقونها بالقوة ، بل دائماً يعلنون أنهم يرفضون أي أحزاب على أساس ديني ، فهم لا يريدون ديناً أصلاً ، فيجب على أمثال الشيخ الألباني أن ينظروا أولاً إلى واقع هؤلاء الحكام حتى يستقيم الكلام في حقهم ، نسأل الله السلامة .
ثم يقال أيضاً : هذا الحاكم الذي يحكم بالكتاب والسنة ، ولكنه جاء في قضية معينة وحكم للظالم بحق المظلوم ، فلا بد هنا من التبين ، هل صدر هذا الحكم عنه اجتهاداً فأخطأ ، أو تأويل مستساغ ، أو عن نزوة وشهوة ، أو عناد وإعراض ، وكبر وكره ، وجحود واستهانة ؟ حيث لا بد من تبين صفة حكمه في السؤال ، لأن لكل صفة وحالة لها حكمها المختلف عن الأخر .
فهناك مثلاً الحاكم المأجور لخطئه فيما اجتهد فيه ، كما في الحديث المتفق عليه : " .... إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فاخطأ فله اجر " .
وهناك الحاكم العاصي الآثم ، وعليه يحمل قول أهل العلم " كفر دون كفر " ،وهناك الحاكم الكافر المرتد المبدل المغير لشرع الله تعالى.
 وأختم هذه المسألة بفائدتين :
الفائدة الأولى:هل الحكم بما أنزل الله من مسائل الاعتقاد ؟
لا شك أن الحكم بما أنزل الله من أعظم مسائل الاعتقاد ، لتعلق هذه المسألة بأنواع التوحيد الثلاثة وبالإيمان ، ولقد أطال العلامة الشنقيطي – رحمه الله – الكلام على ذلك في تفسيره - أضواء البيان – في تفسير سورة الشورى ، عند قول الله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى : 10]
ولكني أكتفي بالإشارة فقط إلى هذه المسألة من خلال كلام بعض العلماء المعاصرين ، وهو الشيخ : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ، لشرحه لكتاب التوحيد .
قال – رحمه الله – في تعليقه على باب " قول الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً  فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء : 60- 62] 
قال : " هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب، وذلك لأن إفراد الله –جل وعلا- بالوحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم –جميعا- أن يفرد في الحكم، فكما أنه – جل وعلا- لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس، وفي الفصل بينهم، فالله –جل وعلا- هو الحَكَم، وإليه الحكم سبحانه، قال جال وعلا: { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر: 12] وقال جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]فتوحيد الله – جل وعلا- في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكِّمين لما أنزل الله – جل وعلا- على رسوله. فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله e بحكم الجاهلية ، أو بحكم القوانين، أو بحكم سواليف البادية ، أو بكل حكم مخالف لحكم الله – جل وعلا- هذا من الكفر الأكبر بالله – جل جلاله- ومما يناقض كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
وقد عقد الشيخ – رحمه الله- هذا الباب ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله - جل وعلا- وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام محمد بن إبراهيم –رحمه الله- في أول رسالته " تحكيم القوانين " : إن من الكفر الأكبر المستبين ، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، ليكون حكماً بين العالمين، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين. انتهى كلامه بمعناه.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة ، وإفراده بالحكم، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كل ذلك يقتضي ألا يُحكم إلا بشرعه ، فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية ، أو الحكم بسواليف البادية من الكفر الأكبر بالله جل وعلا لقوله تعالى في هذه الآية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] . " اهـ [ شرح كتاب التوحيد – صـ330 – 331 ] .
 الفائدة الثانية: أحوال الحاكمين بغير ما أنزل الله .
من الرسائل المفيدة في ذلك رسالة تحكيم القوانين للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ولكني سوف اقتصر في هذه العجالة على نقل مهم للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ من خلال شرحه لكتاب التوحيد .
قال الشيخ في شرحه لكتاب التوحيد:
" وهذه المسألة–أعني مسألة التحاكم إلى غير شرع الله- من المسائل التي يقع فيها خلط كثير، خاصة عند الشباب في هذه البلاد وفي غيرها، وهي من أسباب تفرق المسلمين؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا، والواجب أن يتحرى طالب العلم ما دلت عليه الأدلة وما بيّن العلماء من معاني تلك الأدلة وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد وما بينوه في تلك المسائل .
ومن أوجه الخلط في ذلك: أنهم جعلوا المسألة –مسألة الحكم والتحاكم – واحدة ، يعني: جعلوها صورة واحدة، وهي متعددة الصور .
من صورها : أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقبل، يضاهى به حكم الله – جل وعلا- هذا التقنين من حيث وضعُه كفر،  والواضع له، والمشرِّع والسانّ لذلك، وجاعل هذا التشريع منسوباً إليه وهو الذي حكم بهذه الأحكام، هذا المشرِّع كافر، وكفره ظاهر، لأنه جعل نفسه طاغوتاً، فدعا الناس إلى عبادته، عبادة الطاعة وهو راض، وهناك من يحكم بهذا التقنين- وهذه الحالة الثانية- فالمشرِّع حالة، ومن يحكم بذلك التشريع حالة، ومن يتحاكم إليه حالة ، ومن يجعله في بلده من جهة الدول هذه
حالة رابعة.
فصارت عندنا الأحوال أربعاً :
المشرِّع ، ومن أطاعه في جعله الحلال حراما والحرام حلالا، ومناقضة شرع الله، هذا كافر. ومن أطاعه في ذلك فقد اتخذه رباً من دون الله. والحاكم بذلك فيه تفصيل، فإن حكم مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك ولم يكن ذلك ديدناً له وهو يعلم أنه عاص بتحكيم غير شرع الله، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب، ولا يكفَّر حتى يستحلّ، ولهذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: الحاكم بغير شرع الله لا يُكفّر إلا إذا استحلّ، وهذا صحيح، ولكن لا تنزّل هذه الحالة على حالة التقنين والتشريع، كما قال ابن عباس: " ليس الكفر الذي تذهبون إليه، هو كفر دون كفر " .  يعني : أن من حكم في مسألة أو في مسألتين بهواه بغير شرع الله وهو يعلم أنه عاص ولم يستحل، هذا كفر دون كفر.
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتاً ويحكم دائماً ويُلزم الناس بغير شرع الله، فهذا من أهل العلم من قال: يكفر مطلقاً ككفر الذي سنّ القانون ؛
لأن الله - جل وعلا- قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقاً طاغوتاً، وقال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}.
ومن أهل العلم من قال: حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل؛ لأنه قد يعمل ذلك ويحكم وهو يعتقد في نفسه أنه عاصٍ، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها.
والقول الأول – وهو أن الذي يحكم دائماً بغير شرع الله ويلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر- هو الصحيح – عندي- وهو قول الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- في رسالته "تحكيم
القوانين" لأنه لا يصدر في الواقع من قلب قد كفر بالطاغوت، بل لا يصدر إلا ممن عظّم القانون، وعظّم الحكم بالقانون.
الحالة الثالثة: حال المتحاكمين، يعني: الذي يذهب هو وخصمه ويتحاكمون إلى قانون، فهذا فيه تفصيل –أيضاً- وهو إن كان يريد التحاكم إلى الطاغوت، وله رغبة في ذلك، ويرى أن الحكم بذلك سائغ ولا يكرهه، فهذا كافرٌ أيضاً؛ لأنه داخل في هذه الآية، ولا تجتمع – كما قال العلماء - إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله، بل هذا ينفي هذا، والله –جل وعلا- قال
: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}.
وأما إن كان لا يريد التحاكم ولا يرضاه ، وإنما أجبر على ذلك ، كما يحصل في البلاد الأخرى، من إلزامه بالحضور مع خصمه إلى قانوني أو إلى قاضٍ يحكم بالقانون ، أو أنه علم أن الحق له في الشرع فرفع الأمر إلى القاضي في القانون لعلمه أنه يوافق حكم الشرع فهذا الذي رفع أمره في الدعوى على خصمه إلى قاض قانوني لعلمه أن الشرع يعطيه حقه وأن القانون وافق الشرع في ذلك فهذا الأصح أيضاً – عندي – جائز.
وبعض أهل العلم يقول : يتركه ولو كان الحق له ، والله – جل وعلا- وصف المنافقين بقوله
: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] . فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير الشرع إلا لأنه يأتيه ما جعله الله – جل وعلا- له مشروعا، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت فهو كاره ولكنه حاكم إلى الشرع فعلم أن الشرع يحكم له فجعل الحكم الذي عند القانوني وسيلة للوصول إلى الحق الذي ثبت له شرعاً.

الحال الرابعة :حال الدولة التي تحكم بغير الشرع ، تحكم بالقانون ، فالدول التي تحكم بالقانون – أيضاً- فقد فصل الشيخ محمد بن إبراهيم الكلام في هذه المسألة في فتاويه، وخلاصة قوله : أن الكفر بالقانون فرض، وأن تحكيم القانون في الدول إن كان خفياً نادراً فالأرض أرض الإسلام، يعني: أن الدولة دولة إسلام، فيكون له حكم أمثاله من الشركيات التي تكون في الأرض، قال: " وإن كان ظاهراً فاشيا، فالدار دار كفر" يعني : الدولة دولة كفر، فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل:
إن كان تحكيم القانون قليلا وخفيا ، فهذه لها حكم أمثالها من الدول الظالمة ، أو التي لها ذنوب وعصيان ووجود بعض الشركيات في دولتها، وإن كان ظاهراً فاشياً –والظهور يضاده الخفاء، والفشو يضاده القلة - قال: " فالدار دار كفر"
وهذا التفصيل هو الصحيح ؛ لأننا نعلم أنه صار في دول الإسلام تشريعات غير موافقة لشرع الله جل وعلا، والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر ولا على تلك الدول بأنها دول كفرية إلا لأن الشرك له أثر في الدار،  وإذ قلنا: الدار فنعني الدولة، فمتى كان التحاكم إلى الطاغوت ظاهراً فاشياً فالدولة دولة كفر، ومتى كان قليلاً خفياً أو كان قليلاً ظاهراً وينكر، فالأرض أرض إسلام، والدار دار إسلام ، والدولة دولة إسلام .
فهذا التفصيل يتضح به هذا المقام وبه تجمع بين كلام العلماء ، ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم ، ولا تشتبه المسألة إن شاء الله تعالى " اهـ [ شرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – صـ333 – 336 ] .
 أقول: على الرغم من أنني أطلت الكلام في هذه المقدمة عن هذه المسالة إلا أنني لم أستوعبها وأعطيها حقها ، ولكن كان غرضي أن أظهر أهم ما في هذه المسألة من الناحية الواقعية ، أما تفصيل هذه المسألة فله موضع أخر إن شاء الله تعالى ، ولكن أقول أيضاً للذين لا زالوا يرون أسلمة الأنظمة الطاغوتية متمسحين في قول ابن عباس t وغيره ،
أقول :هذا افتراء على ابن عباس ، من ناحية أنهم يجعلون قول ابن عباس في الواقع الذي كان في عصره هو نفس الحكم على الواقع الذي نعيش فيه الآن ، وهل هناك ظلم أظلم من ذلك .
يقول الأستاذ محمد قطب - في كتابه " واقعنا المعاصر " :  
" مظلوم ابن عباس! فقد قال ما قال وهو يسأل عن الأمويين: أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله, فما القول فيهم. وما أحد علي الإطلاق قال عن الأمويين إنهم كفار! فقد كانوا يحكمون الشريعة في عموم حياة الناس, ولكنهم يحيدون عنها في بعض الأمور المتعلقة بسلطانهم إما تأولاْ وإما شهوة - ولكنهم لا يجعلون مخالفتهم تشريعً مضاهياً لشرع الله- فقال فيهم ابن عباس إنه كفر دون كفر. فهل كان يمكن لابن عباس أن يقول هذا فيمن ينحي الشريعة الإسلامية أصلاً ويضع بدلاً منها قوانين وضعية " اهـ [ صـ211 ] . 
إنه القرآن الكريم في يسره  وفصاحته وظهور أحكامه لمن أراد أن يصل إلى الحق مباشرة ، فسوف يوفقه الله تعالى .
فعلى المسلم الناصح لنفسه أن لا يعتقد اعتقاداً معيناً ثم يبحث بعد ذلك في نصوص الكتاب والسنة عما يخدم اعتقاده هذا ، فإن هذامسلك أهل البدع والزيغ والضلال ، أما المسلك الصحيح أن المسلم يستدل ثم يعتقد كما هو مسلك أهل السنة والجماعة .
وبعد :
فهذه رسالة مختصرة تدور حول بعض أصول أهل السنة والجماعة للاعتصام بالكتاب والسنة ، وهذه الأصول متفق عليها مستفادة من كتاب الاعتصام للشاطبي – رحمه الله ، ومن كتاب الاعتصام من صحيح البخاري ، استنبطها بعض الدعاة فذكرتها ، ولكن بطريقة سهلة ميسرة ، مع ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة والإشارة إلى بعض ما في واقع الناس الآن بسبب الإعراض عن هذه الأصول .
وهذه الأصول تُعد البداية الصحيحة للفهم الصحيح والانطلاق السديد ، وتعلم العلم الشرعي ولكن مع الضوابط التي تساعد على الفهم الدقيق .      



0 comments:

welcome to my blog. please write some comment about this article ^_^